قضايا وآراء

تهدئة أم تصعيد؟

سنان حتاحت
1300x600
1300x600
اختتم الرائد ياسر عبد الرحيم الجولة الرابعة من محادثات أستانا؛ وهو يعترض على إشراك إيران كضامن على اتفاق وقف إطلاق النار الأخير في سوريا. وإذ شغلت صورته الرأي العام وهو يلّوح سبابته مهددا خصومه بالرد في ميدان المعركة، تتجلى وسط هدير هذه الأصوات حقيقة لا ريب فيها، لن تكون هذه المحاولة الفاشلة الأخيرة في فرض هدنة على أطراف الصراع السوري.

لم يعد لغزا أن حسن النوايا بمفرده لن يؤسس لأي حالة سلم مستدامة في سوريا، فلا ثقة في نظام أتقن كل أنواع الكذب والخداع، ولا رجاء من روسيا التي لم تدخر جهدا في التفريط بكل محاولات المعارضة للتعاون معها على الرغم من دعمها اللامحدود لوكيلها الحصري في دمشق، ولا أمل في تخلّي إيران عن مشروعها التوسعي في المنطقة. فما الذي دفع المعارضة للذهاب للأستانة رغم اليقين الجازم في كل ما سبق؟

دفع تركي لحضور الأستانة

الجواب على هذا السؤال بدوره ليس سرا، حضرت فصائل الثورة الاجتماع بدفع من عمان وأنقرة، أملا في أن ترعى الأخيرة مصالحها كما فعلت سابقا في جنيف ونيويورك ولوزان! فما الذي تغير إذن؟ هل تخلّت تركيا عن مطلبها في تغيير النظام؟ هل ساومت روسيا على موقفها الداعم للثورة؟ الإجابة على هذا السؤال من ملاك الحكومة التركية وستجيب عليه الأيام عاجلا أم آجلا، ولكننا نملك في المقابل بعض عناصر الحقيقة كما يكشفه لنا الواقع بدون غبش، وهي كالتالي:

أولا، لن تتخلى تركيا عن هدف تغيير النظام في دمشق بمحض إرادتها، ويشكل استمراره تهديدا أمنيا لا يقل خطرا عن نمو الاتحاد الديموقراطي على حدودها الجنوبية. وإذ تجاري أنقرة موسكو في مسعاها للتطبيع مع الأسد بدفع تأزم خلافاتها مع حلفائها في الغرب وطمعا في توسيع هامش مناوراتها على الساحة الاقليمية، فإنها لن تفرط بأي فرصة للإطاحة بالأسد، ويشهد تفاعلها مع ضربة الشعيرات على حقيقة موقفها منه.

ثانيا، في حين استبشرت القيادات التركية خيرا بوصول ترامب للبيت الأبيض، أملا في إنهاء عزلة أنقرة الدولية، توجهت الإدارة الأمريكية الجديدة نحو تشكيل حلف مع خصومها الإقليميين. وإذ ينم الخيار الأمريكي عن ضيق أفق ترامب السياسي باعتماده على أنظمة متّأزمة ومتعثّرة وغير قادرة على صيانة أمنها وسيادتها الوطنية، لا تمتلك تركيا خيارا سوى لعب دور المفسد ريثما تعيد واشنطن توازن تحالفاتها الإقليمية.

ثالثا، صعود نجم الاتحاد الديموقراطي وتعزز الخيار الأمريكي في الاعتماد عليه في محاربة تنظيم داعش. وتتجلى أزمة أنقرة مع الاتحاد في أمرين رئيسيين، أولهما ارتباطه العضوي بحزب العمّال الكردستاني الذي عاد لتمرده العسكري على الأراضي التركية بعد انهيار عملية السلام، والثاني بلوغ مرحلة اللاعودة في خيار مواجهته العسكرية الذي بنى عليه حزب العدالة والتنمية تحالفه مع الحركة القومية التركية.

تقف تركيا على مفترق طرق، فيما يضيق هامش مناوراتها مع اقتراب معركة الرقة، وإذ تبدو فرص اعتماد أمريكا عليها في محاربةداعش شبه معدومة، لا تجد أنقرة بدّا من المضي في خيار الأستانة، وذلك أملا في الحفاظ على رصيدها الفصائلي في سوريا وتجنيبه خطر الإبادة الروسية، وسعيا نحو إخلال حسابات واشنطن. لا يخلو هذا التكتيك من مخاطر، فأفق التعاون الاستراتيجي مع روسيا مسدود فضلا عن كلفته العالية، كما أن تركيا حريصة على عدم بلوغ مرحلة القطيعة الكاملة مع أمريكا.

شروط الاستمرار في الأستانة

تهدف روسيا إلى إقامة هدنة هشة تتيح لها إدارة الاستثناءات من خلال خرقها متى شأت وكيفما شأت بذريعة محاربة التنظيمات الإرهابية وتحرّم على الثوار السوريين استمرار مقاومتهم المشروعة للنظام وحلفائه. وفي ظل هذه الحقيقة الجلية تغدو كل أهدافها الأخرى تفاصيل لا ينبغي الالتفات إليها كثيرا،وهنا مكمن الخطر الأول.فلقد تحوّل تباين الآراء حول المشاركة في الأستانة ومقاطعتها إلى سياسات اقصائية واستئصالية بحق الآخر، فلم يكن مجرد مدخل للاقتتال الداخلي فحسب، بل معيارا لتصنيف المارقين على الإرادة الروسية كإرهابيين في حين لم يتم البت في شكل الانتقال السياسي في سوريا بعد. وبالتالي لا ينبغي مشاركة فصائل المعارضة السوريا في مسار الأستانة إلّا باجتماعها جميعا دون استثناء، أو مقاطعتها بشكل كامل دون خرق.

في المقابل، تبدو إيران أقل ارتياحا لمسار الأستانة، وذلك لعدّة أسباب أهمها سحب المبادرة العسكرية من يدها لصالح موسكو، واحتكار الأخيرة للأداء السياسي والدبلوماسي لدمشق. ولذا عزّزت طهران مشاركتها في الأستانة مؤخرا لمساعدة النظام على استرداد هامش مناورته في المفاوضات، مما يهيئ لها لعب دور المفسد فيما لو ساومت أمريكا روسيا على رحيل الأسد مقابل تسليمها بنفوذ الأخيرة غربي البلاد. وبالتالي ينبغي على المعارضة رفض العودة إلى الأستانة دون مشاركة السعودية وقطر، مما يتيح لها مواجهة صلف النظام المتوقع ويريح تركيا من عبء إدارة تعنت إيران بمفردها.

خيارات المعارضة

تبدو فصائل المعارضة السوريا مع انسدال المشهد الأخير في الأستانة في أكثر حالتها ارتهانا للإرادة الدولية، ويقودنا الإنصاف أن نعلل هذا الوهن بالتطورات العسكرية التي أفقدتها مرونتها في التعامل مع المجتمع الدولي، فيما تشتد أزمتها بشكل أكبر مع تفاقم أزمة أنقرة الدبلوماسية التي ورثتمنها عزلتها الدولية، وضيق هوامش مناورتها في التعامل مع أمريكا.

يستوجب البحث عن خيارات المعارضة تلمّس حدود المعقول أولا، وشغل حيّزه وفق ما تتيحه قدرة الثوار ثانيا. وإذ يصعب التغلّب على التوافق الأمريكي الروسي في الحؤول دون سقوط الأسد عسكريا، ثمّة تقاطع مصالح مع تركيا في قطع الطريق على النظام وحلفائه من استعادة سيطرته على المناطق المحررة. ويمكن تحقيق ذلك بأمرين، أولا رفض الاستمرار بالأستانة دون تحقق الشروط المبينة سابقا، ومما قد يجبر الروس على الوفاء بالتزاماتهم بوقف إطلاق النار، وثانيا تنظيم العمل العسكري في مناطق سيطرة الثوار، مما يهيئ لها إدارتها أمنيا ووقف ذرائع التدخل العسكري فيها بدعوى محاربة التنظيمات الإرهابية.

يبدو المطلب الأخير مبتذلا، فلم تهفت الأصوات الوطنية يوما بمطالبة فصائل الثورة بتوحيد بنادقها منذ بدء المقاومة العسكرية المشروعة في مواجهة النظام. ولقد أصبحت هذه النداءات رغم الحاجة الملحة لتلبيتها ضربا من ضروب الخيال، وإذ لم تأل مختلف الفاعليات المدنية جهدا في توفيق الفصائل، فلقد بات جليا أنه لا بد من استبدال القيادات التي غلبتها أهواؤها ومصالحها بمن يثبت قدرته على العمل مع الآخرين.

وأخيرا، لا يقتضي التفاعل مع بعض القرارات الأممية وقف البحث عن منغصّات لها، بل لا بد للثوار أن يفعّلوا مسارات موازية تعيد توازن الرعب مع النظام، ما من شأنه كسر الجمود الذي أصاب المسار السياسي وإجبار المجتمع الدولي على مراجعة توافقاته القاتلة.
التعليقات (0)