مدونات

السلاطنية: حين يغتال ذيب المعز راعيها!

سيدي بوزيد - تونس
سيدي بوزيد - تونس
ما تزال مرثية المهلهل في كليب تخطّ الوصايا على وجه الصخور وما زال هذا البيت يبيت في مخيلتي إلى اليوم:

لا أصلح الله منا من يصالحهم * حتى يصالح ذيب المعز راعيها

بيت يرحل بنا إلى البدايات ويعود مع كل مساء كلما غرس الموت المفتعل أنيابه في كبد الهامش، ليذكرنا أن كليبا ما يزال يموت إلى اليوم وأن جسّاس بن مرة صار جمعا انبعثوا في غياهب الجبال يختطفون الحياة ويرعبون القرى.. ودليلنا على هذا ما جرى في "دوار السلاطنية" بين الأمس واليوم.

حكاية موت شره يقتات من الثبات كل شامخ وينفخ في المدى سمه القاني، تدفعنا لتلاوة ملاحم الهامش في ملامح الشهامة المرسومة في تفاصيل "السلاطنية".

بعض الزهرات اليتيمات النابتات على تل بعيد، وأفق رحب تشرق من خلفه الشمس بيارة كل صباح لترسم ملامح الثنايا أمام الأهالي المنبعثين مع الفجر في الأودية والهضاب والسهول يبتغون معاش النهار.. لا القيض ولا الضيق، لا البرد ولا الدرب الوعر وضعوا لسعيهم حدا ولا كانوا دون رزقهم بدا.

في المدى نساء خضبن السوالف بدماء الكفوف التي أسالها حبل يشد حزمة الحطب إلى الجيد.. ورجال ساحوا في الأرض يزرعون الأمل ويحصدون نزر القناعة.. وفتيان لم يروا من الحياة غير أهدابها أقبلوا على البر كالخيل يركضون في الخلاء فيجيؤون بصيد اليوم من ضب وحداءة، ويطعمون كلاب الوفاء التي تحرس قناديل القرى من ظل الغرباء.

الجبل الأرعن الباذخ الذي يطاول أعناق السماء بدا في البدء كوشم بدائي يتيه فيه التيه من شدة تراص النبات إلى بعضه حتى كاد الضوء أن يضيع بين الصفوف والجروف وصار ضرب الكفوف دليل الحطابين لتحديد مكان بعضهم من بعض.. تعانقت فيه الأشجار فسدت مهب الريح عن كل وجهة ودعت الناس بالغواية ليقتطعوا منها زاد الشتاء من حطب يلفهم دفأ في الليالي الصماء، فترى الفؤوس تهوي على الجذوع لتفتح دروبا للنور والريح والبشر والوحوش..

تلك الدروب فتحت فعلا للوحوش.. وصارت سبيل الموت الذي عمر المغارات المظلمة وحشر شياطين الإنس ليسكنوا إليه.. والغابة العذراء إفترعتها كفوف الغيلان التي استوطنت "المغيلة" وتوغلت في الجبل حتى صارت أغلالا ثقيلة تقيد الحياة إلى جيد الخوف...

"أولاد زعرة" مبروك وخليفة، عريسان زفهما الفأل إلى نهاية درامية في حادثتين منفصلتين متشابهتين جدَّتَا بين عام البؤس وعام اليأس في دوار السلاطنية الذي تشابه فيه الأمس باليوم كأنهما توأم متروك في الخلاء تترصده الغيلان، اليوم ارتقى خليفة والتحق بأخيه الشهيد مبروك، بعد أن حمل ذات يوم جثته على كتفه في مشهد قاس كسر جدار الصمت وألبس جلباب العار عنوة لساسة البلد وحكامها.

ومرة أخرى أدارت الحادثة رقاب الناس إلى "دوار السلاطنية" المنسي، لتتجلى ثانية المقاربة القبيحة "مت كي أراك"، لكن الأمر الآن يختلف قليلا فزعرة ليست زهرة والمغيلة ليست "الإمبريال" وخليفة ومبروك ليسا توماس وألكس، ورأس الدولة أضحى قبلة للمنسلخين عن الوطن دعاة التسامي، أما الهامش فسيبقى طفلا حالما لا تردعه عن حلمه صهصهات النمط ولا بدع الزمن ولا خناجر الغيلان.. والمغيلة ستضل مرتعا للحملان الوليدة المنبعثة بين الشياه التي يسوقها رعاة سادوا الجبل وأحكموا شد شراع الأمل إلى أرضهم الشامخة التي خضبتها دماء تروي الملاحم وتكتب الأمنيات..

وعن "زعرة البية" فلا شاف لغليلها غير تلك الزهرات النابتات في التل والتي ستحفظ للأبد حكاية طفليها الذان كسرا قيد الخوف ونزعا عن الجبل جبة السوء التي ألبسه إياها شياطين الإنس في يوم مشؤوم..

سيولد الطير وينبت الزرع وتورق الكروم والأعناب والزياتين وستعرش غابة المغيلة خانقة كل الشرور داخلها وتعود الحياة إلى الجبل، و"دوار السلاطنية" سيبقى وتزول السلطة.
0
التعليقات (0)