مقالات مختارة

أحلام الرئيس.. وقدر المصريين!

جمال سلطان
1300x600
1300x600
من الخطورة بمكان على القائد أن يستقر في وجدانه أنه أوتي الحكمة من جميع أطرافها وأنه لا يتسلل إلى قراره هوى أو خطأ أو سوء تقدير، هنا تكون الكارثة حتمية؛ لأن الدولة بقرارها الأعلى تكون في عالم من الخيال المحض أو الأحلام أو الأماني المنفصلة عن الواقع، وهذا ما أتصور أنه يتشكل الآن في مصر وأسلوب إدارة الدولة، أو هذه ـ على الأقل ـ قناعتي بعد أن استمعت إلى أحاديث وتعليقات الرئيس عبد الفتاح السيسي أمس واليوم في مؤتمر الشباب بالإسكندرية.

تحدث الرئيس بأحاديث مترعة بالأحلام الضخمة التي لا تخضع لمنطق ولا واقع ولا أفكار عملية، من مثل قوله أنه سوف يبني على الساحل الشمال، البحر المتوسط، مدنا لم يبنها أحد في العالم كله، وعندما سألته المذيعة : امتى يا ريس، أجاب على الفور : امبارح ؟!، وهو رد ساخر عفوي، لكنه ـ عمليا ـ هروب من الالتزام بأي "واقع" أو جدول زمني محدد، امبارح، يعني لا أحد يناقشني في الحلم أو يقول لي متى يتحقق، وقد تنشأ تلك المدن في القرن الثالث والعشرين، كما أنه من الناحية العملية والجغرافية فإن الساحل الشمال بكامله الآن تم الاستيلاء عليه وبناء قرى سياحية، من الإسكندرية إلى مطروح، والمساحة الباقية ما بين العلمين ومطروح في الضبعة سيتم تخصيصها لمنشآت المفاعل النووي، فأين تبنى هذه المدن التي لم يعرفها العالم كله، والغريب أن الرئيس لم يتذكر لتلك المدن "الموعودة" سوى تحقيق الأمن فيها، ولم يأت على خاطره أي جهد للدولة سوى تشديد إجراءات الأمن في تلك المدن الموعودة، هو لم يربطها بالتنمية أو التكنولوجيا أو الاستثمار أو الزراعة أو الصناعة أو أي معلم حضاري، كل ما كان في رأسه هو "الأمن"، وهذا شيء مذهل في التفكير الرئاسي، كما أن ما نراه عمليا وواقعيا في المدن القائمة على الساحل الشمال الشرقي يتناقض تماما مع تلك الأحلام، فقد كانت لدينا مدن سياحية واعدة مثل "العريش" يتم تدميرها الآن وتهجير أهلها بدعوى مكافحة الإرهاب، وكان معها منشآت سياحية وقرى سياحية كان يتباهى بزيارتها رئيس الجمهورية نفسه، أصبحت مهجورة وخرابا، مما يجعل الحديث عن إنشاء مدن حديثه في الساحل الشمال لم يعرفها العالم كله من قبل هو نوع من "الأحلام" الرئاسية الجميلة، ليس بالضرورة أن تكون مشروعات حقيقية ولها تخطيط ودراسات جدوى وجدول زمني للتنفيذ، مجرد حلم جميل غالبا سننساه بعد عدة أشهر.

في عالم الأحلام تحدث الرئيس عن أنه "ينوي" رفع الاحتياطي النقدي لمصر إلى ثلاثمائة وخمسين مليار دولار، رغم أن هذا الاحتياطي في أفضل حالاته أيام مبارك، وعز الاستثمار واتساع السياحة وضخامة تحويل العاملين في الخارج ونشاط التصدير لم يصل إلى الأربعين مليار، فما هي القدرة الخارقة للعادة التي ستصل به خلال سنوات إلى ثلاثمائة وخمسين مليار دولار في الوقت الذي لا يتجاوز فيه الاحتياطي النقدي الآن الثلاثين مليارا، كلها تقريبا ديون وودائع لدول عربية وأجنبية والبنك الدولي، أي أن الاحتياطي من الناحية الحقيقية صفر، وفي الوقت الذي تعلن فيه أن الدولة دخلت في حرب استنزاف مع الإرهاب ونفقات متنامية على السلاح، وسوق السياحة مضروب بالكامل، والتصدير شبه معطل والديون الخارجية وصلت إلى تخوم السبعين مليار دولار والديون الداخلية تقترب من ثلاثة تريليونات جنيه والحكومة تبشر الناس بأيام صعبة وأيام بؤس مقبلة أكثر من البؤس الذي يعيشونه، فبأي منطق في ظل تلك الأزمات الطاحنة والتخبط تحدثنا عن حلم أن يصل الاحتياطي النقدي إلى ثلاثمائة وخمسين مليار دولار، إنها الإدارة بالأحلام وليس بالواقع العملي والتخطيط والشفافية والالتزام العملي أمام الشعب وجداول زمنية للالتزامات.

وفي دنيا الأحلام زار الرئيس مكتبة الإسكندرية اليوم، ويبدو أنه انبهر بها، فتحدث عن أنه "ينوي" أن ينشئ مكتبة عالمية ضخمة مثلها في مدينة العلمين على الساحل الشمالي، وإذا تجاهلت التناقض العجيب بين حديثه عن أننا دولة فقيرة للغاية ومنين أجيب فلوس للناس، وبين هذه "الأحلام" الهائلة والمترفة في إنشاء مكتبة عالمية في صحراء العلمين، فإنك لا يمكنك الهرب من الدهشة أن يفكر الرئيس في تأسيس مكتبة بهذه الضخامة في منطقة لا يزورها الناس عادة إلا شهرين في العام، وعدد سكانها قليل للغاية، والنشاطات الحياتية وأولوياتها بعيدة إلى حد كبير عن الثقافة العالمية التي من أجلها أسست تلك المكتبات الحديثة الضخمة، إنه لم يفكر في أن يؤسس مثلها في العاصمة مثلا أو حتى في أسوان أو موقع وسط صعيد مصر المنسي، أو الدلتا التي خرجت تقريبا من أي تخطيط حضاري، ولكنه فكر في "حلمه" أن ينشئها في صحراء العلمين.

وفي عالم الأحلام تحدث الرئيس أيضا عن أن مشكلته الآن ليس في قلة المشاريع أو الخطط والإمكانيات، وإنما في أنه لا يجد شركات تنفذ المشروعات "عندنا مشاريع كتير لكن فين الشركات اللي تنفذ"، بما يعني أن مصر الآن لا تعاني فقد الأموال ولا غياب الإمكانيات المادية ولا غياب المشروعات، وإنما المشكلة أننا لا نجد الأيدي العاملة والشركات التي تكفي للتنفيذ، وهذا كلام من الصعب أن تناقشه في الحقيقة، ويمكنك أن تمرره كما ورد، لأنه في عالم الأحلام ليس مطلوبا منك أن تخضع "الحلم" للمنطق أو العقل أو الواقع.

المصريون المصرية

0
التعليقات (0)