قضايا وآراء

ثلاثة متغيرات في تركيا ما بعد الانقلاب؟

ماجد عزام
1300x600
1300x600
أحيت تركيا منتصف تموز يوليو الذكرى السنوية الأولى للانقلاب العسكري الفاشل في تموز/يوليو 2016. كانت الاحتفالات مهيبة وطنية وجامعة، وشارك بها ملايين المواطنين. وأظهرت احتراماً وتقديراً كبيراً للشهداء الذين ضحوا بحياتهم في مواجهة رصاص وقذائف الانقلابيين، ولكنها أظهرت من جهة أخرى رغبة مصممة وعارمة بالمضي قدماً نحو تركيا المستقبل تركيا الجديدة، التي كان إفشال وهزيمة الانقلاب بمثابة الانطلاقة الرسمية والفعلية لها.

في سنة ما بعد الانقلاب الفاشل يمكن الحديث عن ثلاثة متغيرات أساسية عاشتها البلاد، متغيرات فكرية أو بالأحرى فكرية - سياسية ودستورية - سياسية وثالثة اقتصادية، بحيث بدت وكأنها رسمت وسترسم المشهد التركي على المدى المنظور أيضاً.

المتغير الفكري؛ يتعلق بالنظرة إلى طبيعة النظام أو الأسس الدستورية الناظمة للحياة السياسية في البلد، حيث طوى الانقلاب الفاشل صفحة الانقلابات والوصاية العسكرية إلى الأبد، وبدا الجمهور ومعها الساحة السياسية برمتها في حالة تقبل وتأييد تام لخطوات الحكومة، الخاصة بإنهاء آخر مظاهر للحضور العسكري في الحياة السياسية ومناحي الحياة بشكل عام، بما في ذلك وجود القواعد العسكرية داخل المدن والتجمعات السكانية، خاصة الكبرى منها.

خلال العام الماضي بدا الشعب أكثر إصرار على النظام الديموقراطي للحكم على الحرية بأبعادها وتجلياتها المختلفة. في السياسة الاقتصاد الاجتماع الثقافة والفكر، وبدت الحرب على الانقلابيين كما على التنظيمات الإرهابية بما في ذلك حالة الطوارىء مدعومة شعبياً، خاصة مع عدم تأثيرها السلبي على حياة الناس وحرياتهم.

فكرياً؛ وربما دستورياً أيضاً بدا التمسك واضحا بالعلمانية كإحدى القواعد الناظمة للعمل الدستوري والسياسي في تركيا علمانية تقطع مع تركيا القديمة وتشبه أكثر تركيا الجديدة، علمانية بعيدة عن الاستبداد تقف فيها الدولة على مسافة واحدة من كافة فئات وشرائح المجتمع دون إقصاء تمييز أو تهميش.

في السياسة كان المتغير الأبرز إقرار آلية الحكم أو طريقة الحكم الرئاسي ضمن النظام الجمهوري العلماني الديموقراطي التعددي، ورغم أن مشهد إفشال الانقلاب منذ عام والوحدة الوطنية التي تجسدت في مشاركات كافة فئات الشعب في التصدي له، وهزيمته أوحى بأن إقرار وتمرير الحكم الرئاسي بات صعباً خاصة مع الاختلاف والاستقطاب الحاد حوله إلا أن التحول في موقف حزب الحركة القومية اليميني واستنتاجاته أن القضاء على الانقلاب، ومنع أي حدث مماثل مستقبلاً، وبالتالي فإن مواجهة التحديات التي يواجهها البلد داخلياً وخارجياً يحتاج إلى آلية سلطوية أكثر استقرار وقوة ما كان عاملاً حاسماً في تمرير مشروع الإصلاحات الدستورية ولكن بعد التأثير الجدي على مضمونها، وحتى اختصارها بمقدار الخمس تقريباً، ومن ثم تمريرها في البرلمان وفق الآليات التشريعية المعتمدة، والذهاب إلى استفتاء شعبي سمحت نتائجه بنجاح التعديلات بنسبة طفيفة، ولكن كافية مع تأكيد التباين والاختلاف حولها حتى داخل صفوف الأحزاب الراعية لها.

سياسياً، أيضاً وخلال العام الماضي العام بدت الساحة الحزبية وكأنها تشهد متغيرات وتحولات مهمة خلافات وتباينات داخل جمهور حزب العدالة والتنمية وعزوف شريحة مهمة عن التصويت لصالح التعديلات الدستورية، ما أخّر التغيير الحكومي الأخير لأسابيع، علماً أن هذا الأمر سيحكم عمل قيادة الحزب في الفترة القادمة بعدما تم إجراء تغيير جذري فيها.

نشهد حالياً ما يشبه إعادة البناء للحزب مع خروج وجوه بارزة معروفة مؤسسة، وبقاء الرئيس أردوغان مع نفر قليل جدّاً من جيل الشيوخ، وتغيير جذري وكبير فيه على مستوى القيادات في اللجنة المركزية، كما في الولايات خصوصاً، ويجري الحديث عن ورشة حزبية بقيادات شابة وصاعدة من أجل الاستعداد للحزمة الانتخابية الكاملة الرئاسية والتشريعية في خريف العام 2019 .

حزب المعارضة الرئيس الشعب الجمهوري حافظ على تماسكه وصوّتت كتلته الشعبية بكاملها ضد التعديلات الدستورية، وهو استفاد طبعاً من تحفظ شرائح مهمة داخل الحزبين الراعين للتعديلات، أي العدالة والتنمية والحركة القومية غير أن معضلة الحزب تكمن في كيفية توسيع قاعدته الحزبية وشريحة مصوتيه مع الانزياح الشعبي المستمر نحو اليمين والوسط، كما تحديث مواقفه السياسية الداخلية والخارجية التي تمنعه من اكتساب مؤيدين جدد، وربما تبدت معضلة الحزب كذلك في تصريح زعيمه الأخير كمال كليشدار اوغلو لمجلة "دير شبيغل" الألمانية عن اختيار مرشح المعارضة للانتخابات الرئاسية القادمة من خارج أحزاب المعارضة وربما الساحة الحزبية برمتها، وهو ما يظهر ليس فقط عدم ثقة الحزب بنفسه وقدرته على حشد الشعب خلفه، وإنما تكرار التجربة الخاطئة والخاسرة للمعارضة ككل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة صيف العام 2014.

حزبياً، فلا شك أن حزب الشعوب الديموقراطية – الكردي - هو أكبر الخاسرين خلال العام الماضي مع موقفه الخجول تجاه المحاولة الانقلابية، ثم عجزه عن الانفصال أو الابتعاد عن الجنون الإرهابي لبي كا كا في العراق وسورية، وتحوله إلى جناح وحتى بوق سياسي وإعلامي لهم، وقد عوقب الحزب مباشرة وبشكل صريح أولاً في الانتخابات البرلمانية المبكرة خريف العام 2015، ثم في التصويت على التعديلات الدستورية نيسان الماضي التي جرف بها حزب العدالة والتنمية كتلة كردية مهمة في مناطق الوسط والغرب – الأناضول - وحتى في المناطق ذات الكثافة الكردية نفسها،  ويصل بعض معارضي/ ومتشددي المعارضة للمبالغة والقول أن التعديلات  الدستورية مرت أساساً بفضل الأصوات الكردية.

غياب حزب الشعوب عن الساحة قد يستمر لفترة طويلة أقله على المدى المنظور وستسعى قوى تقليدية عائلية وعشائرية  كما حزب العدالة والتنمية بقوة لملء الفراغ في ظل تضاؤل وحتى انعدام فرص حزبي المعارضة الآخرين الشعب والحركة القومية.

سياسياً؛ أيضاً ولكن فيما يخص العمل الخارجي بدت القيادة التركية أكثر ثقة بنفسها وأكثر تحرّراً من قيود ووصاية العسكر على القرار السياسي، وكان من التداعيات الخارجية الإيجابية، طبعاً لإفشال الانقلاب وتحرير السياسة تنفيذ عملية درع الفرات، وإفشال فكرة إقامة كيان شوفيني انفصالي في شمال سورية، كما إصلاح العلاقات مع روسيا، وتوسيع هامش المناورة في السياسة الاقتصاد والأمن عبر الشروع في إقامة خط السيل التركي الروسي لنقل الغاز إلى أوروبا بينما خط تاناب الأذري الماثل يشهد مراحله الأخيرة، كذلك وصلت مفاوضات الحصول على  منظومة أس. أس. 400 الروسية المضادة للصواريخ مراحلها النهائية بعد مماطلة دول حلف الناتو في توفير حلول بديلة ناجعة، ولا تمس السيادة الوطنية.

واحد من المتغيرات المهمة التي شهدها عام ما بعد الانقلاب كان بلا شك تعافي الاقتصاد إثر عام من التراجع، شهد أولاً الأزمة مع روسيا ثم الانقلاب الدموي الذي أدى إلى تعثر السياحة، وتباطؤ النمو الاقتصادي وتراجع الاستثمارات وحتى خروج البعض منها.

الوعي الشعبي والسياسات الحكومية الحاسمة، ولكن المتبصرة غير المتهورة إضافة طبعاً إلى الأساس المتين للاقتصاد، مع تحسن العلاقات مع روسيا، أدت مجتمعة إلى تعافي البلد تماماً مع نسبة نمو مرتفعة وملحوظة للعيان في النصف الأول من العام الجاري بلغت 5 بالمائة، وانتعاش السياحة مرة أخرى وارتفاع كبير فى الصادرات السنوية ومزيد من الخطط والمشاريع التنموية العملاقة في الداخل مع الانفتاح، وفتح آفاق وأسواق جديدة أمام التجارة والبضائع التركية في الخارج التي حققت أيضا أرقاما مرتفعة ولافتة في الشهور الماضية.

في الأخير وباختصار بدا دحر الانقلاب وكأنه طوى صفة من تاريخ تركيا وفتح صفحة جديدة، شهدنا معالمها الرئيسية خلال العام المنصرم، حيث تبدو تركيا الجديدة جمهورية ديموقراطية علمانية تعددية مع ضمان حريات كافة فئات المجتمع ونظام اقتصادي قائم على السوق الحرة، بينما ورشة الإصلاحات السياسية الاقتصادية الاجتماعية وحتى الدستورية مستمرة  ولكن ضمن الأسس السابقة التي تبدت معالمها مجتمعة في المشهد الجماهيري المهيب والجامع ليلة 16 تموز 2017.
0
التعليقات (0)