قضايا وآراء

الديمقراطية في العالم العربي: الانتقال الصعب

بلال التليدي
1300x600
1300x600
مع اندلاع رياح الربيع العربي، كتب عالم السياسة الأمريكي لاري ديموند مقالا مهما في مجلة شؤون خارجية بتاريخ 22 مايو 2011 يستشكل فيه ما حدث، مترددا في وصفه بين الموجة الرابعة من الديمقراطية أو الانطلاقة الخاطئة، وانطلق على إثر ذلك نقاش موسع حول إمكانية الانتقال الديمقراطي في العالم العربي وشروطه.

وقبل ذلك كان لصامويل هانتجتون نقاش مستفيض في كتابه "الموجة الثالثة، التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين" حول الشروط التي تم فيها الانتقال إلى الديمقراطية في دول أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا.

وبسط أستاذ السياسات الدولية وعلم الاقتصاد في جامعة أرهوس غيورغ سورنسن في كتابه: "الديمقراطية والتحول الديمقراطي: السيرورات والمأمول في عالم متغير" بنحو، ربما غير مسبوق، وبنفس نقدي محقق، الشروط التي تم فيها انتقال عدد من الدول إلى الديمقراطية، واضعا في المحك أهم الأطروحات والمقاربات في هذا الشأن منتهيا في حصيلة رؤيته النقدية إلى أن لكل تجربة انتقال إلى الديمقراطية شروطها الخاصة، وأن المحدد الرئيس والحاسم في هذه العملية التاريخية هم الفاعلون السياسيون.

هذه الخلاصة المركزية، للأسف الشديد لم تستثمر ،على الواجهتين السياسية والأكاديمية، في مواكبة ورصد تجارب الانتقال إلى الديمقراطية في العالم العربي.

أكاديميا، تجتر الجامعات العربية، وبشكل خاص تخصصاتها في علم السياسة والسياسة المقارنة، المقاربات النظرية والدراسات المقارنة التي وضعت تجارب الانتقال الديمقراطي في الموجات الثلاث في محك الرصد، وصارت تجارب مثل إسبانيا وجنوب إفريقيا ودول أمريكا اللاتينية بمثابة نماذج للاقتباس والمحاكاة، كما ولو كان الوضع العربي بحيثياته المعقدة يقترب من هذه النماذج أو يتقاطع معها.

أما من الناحية السياسية، فقد تشربت عدد من القوى الديمقراطية دروس وتجارب الانتقال الديمقراطي في الموجات الثلاث، فصارت تتحدث عن التعاقد والإصلاح الدستوري ومتطلبات الانتقال، دون أن تعي بأن هذه التجارب، إنما حصلت نتيجة عملية تفاوض تاريخية تمت في شروط خاصة بكل بلد على حدة، وأن مسار التفاوض أخذ مدى زمنيا، وأن ذلك تم في ظل تحولات في موازين القوى، أفضت في الأخير إلى ترتيب وضعية انتقالية تعايش فيها النظام القديم أو جزء منه مع قوى التغيير، وأن عملية المصالحة نفسها أو ما يسمى بـ"العدالة الانتقالية" لم تأخذ صورة واحدة في كل هذه البلدان.

ولذلك، فالحديث في العالم العربي عن عوائق الانتقال هو الأكثر تداولا مقارنة مع شروط الانتقال، لسبب بسيط لأن النموذج الذي تحتفظ به الذاكرة الأكاديمية والسياسية هو الموجات الثلاث للانتقال الديمقراطي، ولا توجد لحد الآن أي دولة عربية تقترب من أي تجربة من تجارب الانتقال داخل هذه الموجات.

مؤكد أن عددا من الدول العربية أخطأت طريقها إلى الديمقراطية، وأن منها من يعيش وضعا سلطويا هو أقرب إلى الحكم الشمولي، ومنها من يتردد وضعه بين السلطوية وشيء من الانفتاح السياسي، يسمح بإدراجه ضمن خانة النظام الشبه السلطوي. لكن هذه التوصيفات لا تفيد شيئا في مواكبة وضع هذه الدول اتجاه الديمقراطية، كما لا يسمح بإنتاج نموذج عربي يقيس تحولات الدول العربية ومدى اقترابها ولو بشكل جزئي من الديمقراطية.

ثمة معايير دولية يتم من خلالها توصيف وضع الدول العربية، لكن هذه المعايير، فضلا عن خلفياتها السياسية، تنتهي بإدراج هذه الدولة في هذه الخانة أو تلك، وربما تقدم ترتيبا للدول العربية في الحكامة أو الديمقراطية أو وضعية حقوق الإنسان أو هشاشة الدولة أو غير ذلك، لكن بالنسبة إلى الدارس الأكاديمي أو الفاعل السياسي، هذه المعايير أو التصنيفات تفيد في شيئين: الأول أنها تريح الأكاديمي وتصرفه عن البحث في خصوصية توطين الديمقراطية في العالم العربي، والثاني أنها تمد الفاعل السياسي بمادة سياسية لتغذية وترسيخ مواقعه المعارضة أو تسمح له بالاقتراب أكثر من النظام لتجسيد موالاته وتقديم خدماته ضد الاستهداف الخارجي.

وفي الحالتين معا، يفقد الوضع العربي التقييم والتشريح الدقيق للوضع اتجاه الديمقراطية، كما يفقد الرؤية المستقلة في التحديد العلمي لعوائق توطين الديمقراطية في السياق العربي.

حين يتحرك العقل الناقد ويمارس تأملاته المقارنة في شروط الانتقال الديمقراطي في دول الموجات الثلاث، يخلص إلى استحالة أن تستنسخ أي تجربة من هذه التجارب عربيا، فثمة عدد من الدول العربية انهارت فيها النظم السياسية، وفقدت شرعيتها السياسية، وتقوى فيها وضع المجتمع المدني، وربما مرت بأزمات اقتصادية خانقة، لكنها انتهت في مسارها إلى عودة السلطوية، لأن السياق الدولي والإقليمي تدخل بشكل مختلف وربما معاكس للشكل الذي تدخل فيه مع دول الانتقال في الموجات الثلاث.  وثمة دول حدث فيها تفكك في مراكز القوى داخل السلطة، لكنها لم تجر أي تعاقدات مع قوى التغيير، أو في أجسن الأحوال، أجرت تسويات براغماتية تكتيكية انقلبت في نهاية المطاف على تعاقداتها وانتهى الأمر إلى تغيير في شكل السلطة وليس في جوهرها.

خلاصة التحليل، أن ثمة حاجة محلة في دراسة الانتقال إلى الديمقراطية في العالم العربي إلى أن نحدث دورة كاملة في اتجاه الشروط الخاصة التي يمكن أن يحدث بها التحول الديمقراطي، وأن يتم التركيز أكثر على الفاعلين السياسيين وشروط تقوية وضعهم وترسيخ استقلالية قرارهم عن السلطة السياسية.

تجارب الربيع العربي، على محدوديتها تثبت أن عوائق الانتقال ترجع برمتها إلى ضعف الفاعلين أو محدودية خبرتهم في المناورة مع السلطة أو ضعف استقلالية قرارها الحزبي، أو عدم تحقق شروط الالتقاء الموضوعي بين مكونات الطيف السياسي على الديمقراطية، أو تعذر التقائها الموضوعي مع بعض النخب في دوائر السلطة.

في تونس أجهضت تجربة الوحدة بين مكونات الصف الديمقراطي بتكتيكات كثيرة كان في مقدمتها اللعب بالورقة السلفية، وفي مصر، قام المجلس العسكري بتكتيكات ذكية لكسر تحالف قوى الثورة، وتم اللعب بأحزاب لا تملك استقلالية قرارها السياسي لإتمام هذه المهمة، وفي المغرب تم إجهاض تجربة الانتقال إلى الديمقراطية مرتين مع حكومة اليوسفي بزرع التوتر بين مكونات الصف الديمقراطي، ومع حكومة بنكيران بتدخل السلطة لتفكيك التحالف الموضوعية بين القوى الديمقراطية والوطنية.
صيغة الجابري المسماة بالكتلة التاريخية لا تزال تشكل اليوم مفتاح التحول في العالم العربي، لأنها تصنع شروط التفاوض السياسي مع الدولة، وتحصن القوى الديمقراطية وتمنعها، وتضعف قدرة الدولة على إنتاج تكتيكاتها القديمة.

في تجربة المغرب، لاسيما حكومة بنكيران، دروس تحتاج إلى تدرس أكاديميا وتتأمل سياسيا، فقد بلغ النضال السياسي من داخل المؤسسات لدرجة فقدت فيها السلطة القدرة بشكل كامل على المناورة، وكادت القوى الديمقراطية أن تتجاوز الوضع التقليدي، وتهيئ لوضع تعاقدي آخر لولا أن حركت السلطة في الأخير آلية التأويل الدستوري.

تجربة حكومة بنكيران تثبت بأن الانتقال إلى الديمقراطية في العالم العربي ليس مستحيلا، وأن تلازم ذلك مع ثورة ثانية ليس ضروريا، وأن إعاقة الغرب للانتقال الديمقراطي في العالم العربي ليس قدرا مقدورا بمنع الفعل التاريخي. ما ينبغي الانتباه إليه في عدد من تجارب الفعل السياسي في العالم العربي أن هناك لحظات نوعية حصلت في اتجاه الديمقراطية للأسف لم تكتمل، لسبب ما أو عائق من العوائق.

تلك اللحظات والفلتات، ومنها لحظة بنكيران، تحتاج اليوم لدراسة عربية، تتوقف عند شروطها وعوائقها وأعطابها وإمكانية الاستدراك عليها لتتشكل كوعي تاريخي لدى النخب يحصنها في المراحل القادمة من الوقوع في الأخطاء وتضييع الفرص الديمقراطية.
التعليقات (0)

خبر عاجل