كتاب عربي 21

لا ليست مجرد كلمة.. إنها جملة كاملة (1)

طارق أوشن
1300x600
1300x600
في الفيلم الهندي (PINK – 2016) للمخرج أنيرودا روي شودهوري، وفي مرافعته النهائية أمام المحكمة، حيث يدافع عن الفتاة مينال أورورا التي تعرضت مع زميلتيها اندريا تاريانغوفالاك علي لمحاولة اغتصاب من ابن العائلة الثرية النافذة راجفير سينغ وأصدقائه، يلخص المحامي ديباك سيغال مجريات المحاكمة قائلا: لا يا سيدي..لا ليست مجرد كلمة.. إنها جملة كاملة. لا،لا تحتاج إلى شرح إضافي. إنها تعني لا ببساطة. موكلتي قالت لا يا سيدي ولابد أن هؤلاء الأولاد أدركوا أن لا تعني لا.. سواء كانت الفتاة معرفة أو صديقة أو صديقة حميمة أو عاملة جنس أو حتى زوجتك.. لا تعني لا.. وعندما يقول شخص ما هذا يجب أن تتوقف.

هي نفس الـ"لا" التي صرخت بها فتاة مغربية، أوقعها حظها العاثر في قبضة مراهقين قُصر استغلوا خلو حافلة نقل من الركاب أو تكاد، ليعبثوا بجسدها ينزعون عنه الملابس ويتحسسون أطرافه تحت ضحكات تهكمية لم تنفع معها لاءات الضحية واستغاثتها.

ما كان لهذا المشهد أن يخرج للنور لولا إصرار أحدهم على توثيق هذه "الغزوة الجنسية" لتكون شاهدة على ما اقترفته أيديهم وأيدي مؤسسات التربية والعائلة والأمن في حق الوطن نسائه وشبابه. وكان طبيعيا أن يشكل خروج المشهد، بشكله ذاك، مادة تناولتها المواقع ووسائل الاتصال الحديثة في مظهر آخر عبثيا من مظاهر هواية الغضب الجماعي من وراء الحواسيب وإصدار البيانات المنددة والداعية لتحقيق العدالة أو التباكي على منظومة القيم المغربية وانهيار الوازع الخلقي واستقالة الأسرة والدولة عن دورهما في التنشئة والحماية والتقنين والزجر.

صحيح أن المشهد دليل، لا يرقى الشك إليه، على التحرش بفتاة عزلاء والاعتداء على كرامتها، لكن رغبة جهات ما أرادته "اغتصابا" تم تكييفه فيما بعد "محاولة اغتصاب" ربما للتغطية على حدث آخر انتظره المغاربة بفارغ الصبر لكنه أخلف الموعد مع آمالهم وسافر بخيالهم لأدغال إفريقيا وفتوحات الديبلوماسية المغربية بها. 

وكما جعل ذاك المشهد المغرب على صفحات وشاشات الإعلام العالمي وقدم أبناءه قوما همجا يغتصبون النساء في الحافلات وفي وضح النهار، لم يخلف شباب آخرون الموعد فساق أحدهم وسيلة نقل أصغر ليقطف بها أرواح عشرات الأشخاص ببرشلونة الإسبانية قبل أن يتبعه آخر بفنلندا حيث استل سكينه وراج "يجاهد" في المارة قتلا وجرحا. صورتان متناقضتان أولاها تمظهر لغياب الوازع الديني والثانية يراها العالم تطرفا دينيا وإرهابا.

ليس المغاربة استثناء في الرقعة الممتدة في كل الاتجاهات استبدادا سياسيا وقهرا اجتماعيا، حيث كانت الأنظمة ولا تزال تغتصب الحقوق وتمنع المبادرات وتسد كل أبواب الاندماج والنجاح. رقعة ممتدة على طول دول تسلطية لم تتورع يوما عن جعل الاغتصاب الجنسي وسيلة لحسم الصراع السياسي وإسكات الأصوات المنادية بالحرية وإهدار كرامة المعارضين.

داخل الزانزانة حيث يتم التحقيق معه بعد اعتقاله، في فيلم (عمارة يعقوبيان-2006 ) للمخرج مروان حامد، يتعرض الطالب الإسلامي طه الشاذلي لاستنطاق من قبل الضابط الذي يتعمد سؤاله عن حاتم رشيد الساكن في العمارة التي يشتغل فيها والده بوابا.
طه: هو لا مؤاخذة يعني.. هو لا مؤاخذة شاذ.
الضابط: حلو.. يعني ايه شاذ يا طه؟
طه: ما انت يا باشا لسه قايل احنا بنعرف كل حاجة.
الضابط: خلاص يا طه.. حنعمل فيك زي ما يتعمل في حاتم رشيد.. واحنا عندنا ناس بتعمل الحكاية ده كويس أوي.. قلت ايه؟ قلعوه هدومه!

هو نفس ما قام به الشاويش فرج ضد الطالبة المعتقلة زينب في فيلم (الكرنك - 1975) للمخرج علي بدرخان، والشاويش عباس في فيلم (حلاوة الروح – 1990) للمخرج أحمد فؤاد درويش. 

أما أهوال الواقع فتمنع أي ذكر لما تتعرض له النساء المعتقلات كما الرجال في سجون أنظمة استبدادية لم تترك وسيلة إذلال أوإهانة دون اعتمادها كما يتسرب من سجون النظام الأسدي على سبيل المثال. وهي نفس الممارسة التي دأبت الأنظمة على تبنيها كممارسة سلطوية، قبل أن تتحول إلى قاعدة اجتماعية جعلت التعرض للاعتداء أو التحرش الجنسي وصمة عار و"فضيحة" لا مجال إلا لسترهما مهما كان لذلك من آثار سلبية في نفسيات الضحايا. ممارسة تنتقل من جيل معاق لآخر أكثر إعاقة ينقلها لمن ابتلاه الله ليليه خلفا.

بعد تعرضها لحادثة تحرش جماعي على مرأى ومسمع زوجها بعد انتهاء مقابلة في كرة القدم "انتصر" فيها فريقها القومي فاعتبرها المتفرجون المحتفلون غنيمة ضحوا بها على مذبح النصر الكروي، اعتادت صبا تنظيم اجتماعات تضم فتيات "تعرضن" للتحرش كنوع من الدعم النفسي. بعد نهاية إحدى الحصص تنادي صبا على فايزة المداومة على التردد على اجتماعاتها، والمشهد من فيلم (678 – 2010) للمخرج محمد ذياب.

صبا: فايزة! ده خامس أسبوع تيجي مع أن الكورس يوم واحد والاجابات كلها لأ. ممكن أعرف بتيجي ليه؟
فايزة: زي الباقيين.

صبا: ماهو فعلا زي الباقيين. كلهم قايلين لأ. محدش فيهم حصل له تحرش. انتم بتيجوا هنا ليه؟ تتفرجوا عليا؟ يا فايزة افهميني: لو رحتي لدكتور وانكسفتي تقولي له عندك مغص مش حيعرف يساعدك.
فايزة: بس المغص حاجة متكسفش.
صبا: والتحرش حاجة متكسفش. المفروض ايلي يتكسف الحيوان ايلي عمل فيك كده مش انت. حاولي تطلعي ايلي جواكي. لو مش عايزة تكتبيها مش مهم. قوليها! قولي أنا حصل لي تحرش.
فايزة: لأ.. محصليش. أنا جاية هنا اتعلم أدافع عن نفسي وبس.
صبا: ايلي عاوز يدافع عن نفسه ممكن يدافع عن نفسه بدي (تأخذ دبوسا من على حجابها).. ان شاالله بدي. يا ريت متجيش هنا تاني.. معنديش حاجة أعلمها لك.

لم تكن فايزة الوحيدة التي "استحت" من الإعلان عما تعرضت له من تحرش يومي في حافلات النقل العام مرة أخرى. يبدو أن الحافلات تلك صارت بأمر الواقع "مواخير" تمشي على عجلات. فها هي زميلتها في الفيلم نيللي تواجه ضغوطات العائلة للتنازل عن قضية التحرش التي جعلتها ضيفة على برامج التوك شو حيث نالها من الانتقاد ما نالها.

الأم: نيللي.. احنا اتفقنا مع طانط واونكل أنك تتنازلي ع القضية الجلسة الجاية.
نيللي: ايه؟ أنا مش حأتنازل على القضية يا ماما.
الأم: شفتي ايلي حصل في البرنامج.. كل الناس كانت ضدك.
نيللي: في ناس اتكلمت وكانت معايا.
الحماة: واحدة يا نيللي.. واحدة والباقي كله مسح بيك الأرض.
الأب: يا بنتي انت كده مش عارفة مصلحتك.
نيللي: مصلحتي؟
الحماة: مش مهم عملتي ايه ولا معملتيش ايه؟ المهم سمعتك حتبوظ.. متقول لها يا كمال سمعت ايه في المكتب.
كمال: بيقولو أكيد البنت دي مدسوسة لتشويه سمعة مصر.
عمر: ياااه.. طب الحمدلله أنهم مقلوش أنها حتقلب نظام الحكم كمان.
نيللي: هو أنا يا ايما اسكت يا ايما ابقى أشوه سمعة مصر؟

في إيطاليا، عُرضت قبل أيام مسرحية بعنوان (ماروكيناتي.. ما لا يحكيه التاريخ). تحكي المسرحية قصة مهاجمة جنود تحت قيادة الجيش الفرنسي، أغلبهم مغاربة، لقرى إيطالية واغتصاب جماعي لنسائها في العام 1944 حيث منحهم قائد المجموعة الفرنسي 50 ساعة من الحرية التامة مقابل استبسالهم في تجاوز خط غوستاف الذي أنشأه الألمان والإيطاليون لمنع الحلفاء من الوصول إلى روما.

قصة حُولت قبل أشهر ثلاثة لفيلم إباحي أثار احتجاجات وصل صداها لردهات المحاكم، علما أن رواية، تتناول نفس الأحداث، نشرت نهاية خمسينيات القرن الماضي قبل أن يحولها المخرج فيتوريو دي سيكا إلى فيلم سينمائي نالت به صوفيا لورين جائزة الأوسكار في العام 1962. لم يتحرك أحد من المدافعين عن سمعة المغرب كما ثارت ثائرتهم وهم يشاهدون التحرش الجماعي بفتاة الحافلة أو حين نشرت مجلة جون أفريك، قبل أيام، عددا ضم في صفحته الأولى صورا لمنفذي اعتداءات إرهابية بأوربا من أصل مغربي بعنوان بارز: الإرهاب.. وُلِد في المغرب.

ليس الإرهاب صناعة أو منتجا مغربيا، ولا كان الاغتصاب الفردي أو الجماعي خاصية مغربية. لكن يبدو أن هناك من يسعى جاهدا لجعلنا نتناقل العار جيلا عن جيل.

0
التعليقات (0)