كتاب عربي 21

لا ليست مجرد كلمة.. إنها جملة كاملة (2)

طارق أوشن
1300x600
1300x600
في الوقت الذي كانت فيه مسارح إيطاليا تعرض فصلا "مشينا" من "بطولات" أجدادهم المحاربين للمد الفاشي والنازي بأوروبا، قُدِّر لاثنين من الأحفاد المغاربة، الذين اضطرت الفاقة أهلهم بالهجرة إلى نفس إيطاليا بحثا عن لقمة عيش كريم، أن يجدا نفسيهما في أتون فضيحة اغتصاب جماعي لسائحة بولندية على إحدى شواطئ البلاد. لن يعدم وارثو الفاشية مبررات لاستغلال القضية لوسم الجالية المغربية بإيطاليا بخير خلف لسلف تفنن في اغتصاب النساء، كما فعلت مجلة (جون افريك) الباريسية وهي تزين صدر غلافها بعنوان يقدم المغرب مفرخة للإرهابيين. القضية في البدء والانتهاء تربية وتنشئة في البيت والمدرسة بالمغرب وإيطاليا وفرنسا والهند وبقية البلدان.

على طول المحاكمة التي يترافع فيها السيد ديباك سيغال، في فيلم (PINK – 2016) للمخرج أنيرودا روي شودهوري، لتبرئة موكلته مينال أورورا المتهمة بالشروع في القتل وهي التي تدعي تعرضها لمحاولة اغتصاب، يجمع الأخير عددا من القواعد ويقدمها كـ"دليل سلامة الفتيات":

1-  لا يجب أن تصحب الفتاة فتى بمفردها إلى أي مكان. لا إلى المطعم وبالتأكيد ليس إلى الحمام لأنه بفعلها هذا يفترض الناس أن دخولها بإرادتها هناك يعطيهم رخصة لمسها بشكل غير مناسب.

2-  لا يجب أن تتحدث فتاة إلى فتى وهي تبتسم ولا يسمح لها بلمسه لأنه سيعتبر ذلك تلميحا. ابتسامتها معناها موافقة. ما يعد تصرفا بشريا طبيعيا قد يجعلها بلا شخصية بالنسبة لك.

3-  لا يجب أن تشرب فتاة مع فتى فإن فعلت يقول الفتى: ما دامت ستشرب معي فلم لا تنام معي أيضا. شرب الكحول بالنسبة للفتيات يعني أنهن متاحات.. هذا لا ينطبق على الذكور.

4-  في مجتمعنا، تحدد الساعة شخصية المرء. عندما تسير الفتيات في الطريق ليلا تبطئ السيارات وتفتح النوافذ لكن لا أحد يفعل هذا نهارا.

الشروط مختلفة يا سيدي، يرتدين الجينز والقمصان والتنورات القصيرة. لا يجب على الفتيات فعل هذا. هذا يمثل تهديدا كبيرا للأولاد الذكور.

يستثار المساكين عند رؤيتهم ذلك. لا يقع عليهم أي لوم فهم مساكين يرتكبون الأخطاء. حتى الآن كنا نوجه جهودنا في الاتجاه الخطأ.. يجب أن ننقذ أولادنا لا فتياتنا لأننا إن أنقذنا الأولاد ستكون الفتيات في أمان. الفتيات في المدينة لا يجب أن يعشن بشكل منفصل. الفتيات المستقلات يشوشن على الأولاد. لا يجب أن تبتسم الفتيات أبدا أثناء محادثة حتى وهن يوصلن أخبارا مفرحة.. يجب أن يفعلن هذا بوجه عابس.. لا هواتف للفتيات ولا تعليم.. زوجوهن باكرا..

الزواج المبكر في مجتمعاتنا ليس عيبا ولا اعتداء على حقوق البنات الصغيرات. الزواج ستر للبنت وحفظ لها من النشوز. لا فرق بين نوم الفتاة القاصرة مع دميتها أو نومها على فراش الزوجية مع شاب يكبرها سنا أو كهل أو شيخ هرم. في تراثنا وفي ممارساتنا الاجتماعية المتوارثة ما يبيح الأمر ويحوله لمناسبة تستحق الاحتفال.

ففي الوقت الذي تغتصب فيه الفتاة نجوم / نجود على فراش الزوجية، في فيلم (أنا نجوم، بنت العاشرة ومطلقة - 2014) للمخرجة خديجة السلامي، الذي يستعيد قصة الطفلة اليمنية نجود، كان "رجال" القبيلة يتراقصون في الخارج ويحتفلون بغزوة أحد أبنائهم. وعندما استطاعت البنت، التي لم تكمل سنتها العاشرة، الفرار لـ"يتفاجأ" العالم ومعه أبناء وطنها والجوار بقصة طلبها الطلاق، كان شيخ سعودي، في الفيلم، يقرأ الخبر على الجريدة ويستكثر عليها وعلى اليمنيين رفع الصوت أن "لا" للعدوان والطغيان.

يجلس الشيخ السعودي في حديقة مسكنه الفاره مادا رجليه ليدلكها طفل يمني. يقرأ الخبر على الجريدة.

الشيخ السعودي: طفلة يمنية ترفع دعوى ضد أبيها في المحكمة. بنت ترفع قضية ضد أبيها؟ لو كانت بنتي كنت ذبحتها. انتم باليمن كل شيء مسموح.. كل شيء متوقع عندكم.. قم.. قم (يركل الطفل برجله) كفاية.. خليك للأغنام.

قبل أيام فقط صارت بنت يمنية أخرى "عينا للإنسانية" بعد أن ظهرت في المستشفى مصابة بجروح شديدة وهي تحاول فتح عينيها المتورمتين لرؤية ما حولها. لا نامت أعين المعتدين الجبناء فلم يعد حولها غير بلاد دمرتها آلة القصف من تحالف عربي قُدم في البدء مدافعا عن "الشرعية" فصار آلة قتل أفقدت بثينة نظرها وكل أفراد عائلتها. ما عاد لبثينة أب يخاف عليها من الاستغلال كما ادعى والد نجوم / نجود وهو يقف أمام القاضي.

الأب: أنا زوجتها لأني كنت خايف.
القاضي: ومنيش كنت خايف؟
الأب: مقدرش أتكلم يا قاضي... كرامتي متسمحليش.
القاضي: اه.. طيب.. يا جماعة احنا مضطرين نكمل الجلسة بشكل مغلق بناء على طلب الوالد. لو سمحتم الكل بره.
يواصل الأب..

الأب: أنا زوجتها يا قاضي.. كنت خايف لحد يستغلها.
ويبدأ في سرد الحكاية..

كان لنجوم / نجود أخت كبيرة تعرضت للاغتصاب، والنتيجة حكم لكبير القرية بمنحها ووالدها رأسين من البقر وتزويجها من مغتصبها إقبارا للفضيحة بل إقبارا للحق والقانون.

ليست أخت نجوم / نجود وحيدة في هذا المصير. فقد انتظر المغاربة حكومة وشعبا انتحار أمينة الفيلالي في العام 2012، بعد تزويجها بمغتصبها، حتى تتحرك الجمعيات النسائية والحقوقية وغيرها من المنظمات للمناداة بتعديل الفصل 475 من القانون الجنائي الذي كان يشكل مخرجا قانونيا يتيح إفلات المغتصب من العقاب مقابل زواجها من ضحيته. كان الأمر أشبه باغتصاب ممدد في الزمان والمكان بمباركة الأهل والدولة والمجتمع. ولم يكن المغرب استثناء في الموضوع حيث كانت اللحظة مناسبة لاكتشاف أن كثيرا من قوانين العقوبات في الدول العربية تحوي فصولا بنفس المقتضيات مع اختلافات في الشكل لا في الجوهر. في الأردن مادة تحمل الرقم 308، وفي لبنان تحمل المادة الرقم 522، وكم هي كثيرة الفصول المرقمة المتخفية في القوانين العربية هدرا لكرامة وحقوق الضحايا.

في فيلم (PINK – 2016) للمخرج أنيرودا روي شودهوري، يتلاعب محامي المتهم بالاغتصاب بأرقام الفصول وتكييف الوقائع، وهو في ذلك لا يشكل الاستثناء أيضا.

المحامي: سيدي.. بعض قوانيننا الرئيسية وضعت لتحمي النساء من الاضطهاد وبعض القوانين الموجودة تم تعديلها وتقويتها مثل قوانين الاغتصاب والمهر...الخ. لسوء الحظ بعض النساء بدأن في إساءة استخدامها باستهداف الرجال المحترمين والأبرياء واللجوء إلى الابتزاز وهذا ما حدث في هذه القضية بالضبط. في ليلة الأول من مارس قامت مينال أورورا والأخريات بلقاء راجفير سينغ وأصدقاءه في حفلة روك وحاولن مصادقتهم لاحقا عندما دعاهن إلى مطعم لتناول العشاء. عرضت الفتيات بدء علاقة جنسية مقابل المال. في البداية أغرين راجفير لكنه رفض تماما فهددته مينال بالتسبب في اعتقاله بتهمة الاغتصاب إن لم يدفع مالا لكنه رفض. عندها، هاجمته بشكل شرس وغير مبرر ثم هربت بصحبة صديقاتها. يا سيدي، هذه قضية محاولة ابتزاز وزنا تحت الفصل 320 و324 والتسبب في جرح خطير ومحاولة القتل تحت الفصل 307. هذا كل شيء يا حضرة القاضي.

الغريب أن جزءا ممن يخرجون للتضامن مع ضحايا التحرش والاغتصاب، كما كان الحال مع ضحية حافلة الدار البيضاء، تضامنوا قبل ذلك بشهور مع المطرب سعد لمجرد الذي اتهم بالاعتداء الجنسي على فتاة فرنسية واعتقل على إثرها أسابيع. سعد لمجرد ينتظر المحاكمة قريبا في بلد لا يهادن البتة في هذه النوعية من الجرائم ولو بأثر رجعي. في المغرب، اعتبر المطرب ضحية مؤامرة في الوقت الذي لا يعد الأمر إلا نتيجة لما يختزنه مخيال الشاب المغربي عن كيفية التعامل مع الفتيات، كما لخصها المحامي ديباك سيغال في دليله لسلامة الفتيات. متهمة سعد لمجرد ابتسمت له في الغالب ورافقته بمحض إرادتها لغرفته ليلا وربما تكون دخنت أو شربت معه كأسا وهو ما يعني أنها متاحة ومستباحة.
ريم: يا سلام! ايش ايلي مش عاجبك في تصرفاتي؟

حسام: مش شايفة يا ريم انك انت تعزمي واحد زي الشحط في بيتك وانت لوحدك تصرف غريب على بنت مصرية يعني؟
تضحك ريم.
حسام: بتضحكي ليه؟
ريم: أصل انت فكرتني بالواد ابن القنصل ايلي كان معانا في باريس.
حسام: ماله ابن القنصل ده؟ ايه حكايته؟
ريم: واحدة زميلته في الجامعة عزمته علشان ياخد شاي معاها في البيت.
حسام: كويس
ريم: فصاحبنا قال ايه بقا؟ بس ما دام عزمتني عندها في البيت تبقى دعوة صريحة للجنس. طبعا كانت فضيحة بجلاجل استغلتها الصحافة وقالوا علينا احنا العرب متخلفين.
حسام: احنا مش متخلفين ولا حاجة. احنا ناس لينا عاداتنا وتقاليدنا.

ريم: يا سلام يا حسام، هو يعني من عاداتنا وتقاليدنا لما واحدة تعزم واحد فبيتها يحاول يغتصبها؟
حسام: لأ، هو مش كده أوي. هو ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان.
ريم: الشيطان هنا في مخنا ايلي عششت فيه الأفكار المتخلفة.

المشهد من فيلم (امرأة واحدة لا تكفي – 1990) للمخرجة إيناس الدغيدي وبطولة أحمد زكي الذي قدم في فيلم (ضد الحكومة – 1992) للمخرج عاطف الطيب تمظهرا آخر لصلب المشكلة وأساسها.
بعد انتهاء ممثل النيابة الذي دعا لإيقاع أقصى العقوبة على مغتصب إحدى الفتيات، تطلب المحكمة من الدفاع البدء في المرافعة.

القاضي: الدفاع.. عندك حاجة تقولها يا أستاذ؟
يتوجه مصطفى خلف إلى حيث يجلس القاضي وفي يده قلم ودواة.
مصطفى خلف: لو سمحت سعادتك تمسك القلم ده. حط سعادتك القلم في الدواية.
القاضي: ازاي بقا وانت قافلها؟

مصطفى خلف: يعني مستحيل تحط القلم في الدواية وأنا قافلها. لازم افتحها.. طيب أديني فتحتها.. جرب سيادتك تحط القلم كده.
يحاول القاضي إدخال القلم في الدواة لكن المحامي مصطفى خلف يحركها كل مرة بعيدا عن القلم.
القاضي (غاضبا): ازاي بقا وانت بتحركها؟

مصطفى خلف: يعني لازم افتح الدواية الأول وبعدين أثبتها علشان سعادتك تحط القلم فيها. طيب حط القلم كده سعادتك... اهه دخل.. دلوقتي بس سعادتك نجحت تحط القلم بتاعك في الدواية بتاعتي.. لا مؤاخذة يا سعادة الريس.. شكرا.

يواصل مصطفى خلف: قضيتنا هي هذه يا سعادة الريس.. علميا وتشريحيا ليس هناك شيء اسمه اغتصاب يؤدي إلى هتك عرض كما تفضلت النيابة وكيفت القضية. لابد أن يحدث قبول واستجابة، وطالما حدث هذا فقد انتفى عنصر الإرغام والقهر والغصب والدليل على ذلك القضية المشهورة لفتاة المعادي التي اتهم فيها عدة أشخاص وحوكموا فيها. لقد ثبت من تقرير الطبيب الشرعي بعد عملية الاغتصاب أن الفتاة ما زالت بكرا رغم كل ما حدث وهذا معناه أنها رفضت.. رفضت.. أما في حالتنا هذه فتقرير الطبيب الشرعي أثبت العكس وهذا يعني أن فتاتنا البريئة لم ترفض وهو ما يهدم كل ما بنته النيابة رأسا على عقب..

يستوي المحامي المصري مصطفى خلف ونظيره الهندي ديباك سيغال في اعتبار "لا" الرافضة أكثر من مجرد كلمة بل جملة كاملة لا تحتاج إلى تفسير. لكن المحامي الهندي يقدمها كدليل براءة لا محاولة لتحوير القوانين ولي عنقها خدمة لأهداف موكلين ينشدون تجنب العقاب.

هي عادات وتقاليد ومحامون يلبسون الحق بالباطل وتواطؤ شعبي مجتمعي يحول ضحايا الاغتصاب إلى متهمات مهما صرخن أن لا لا لا ...
0
التعليقات (0)