قضايا وآراء

هل العودة للأعراف التقليدية هي الحل لأزمات الدولة السودانية؟

عباس محمد صالح
1300x600
1300x600
تعتبر المذكرات والسير الذاتية بمثابة مرآة حقيقية للمقارنة وقياس مدى التقدم في بعض الدول والمجتمعات.

وفي هذا الإطار، وخلال عطلة عيد الأضحى، اُتيحت لي قراءة مذكرات القاضي السوداني السابق حمزة محمد نور الزبير (ذكرياتي.. من أوراق قاض سابق؛ [د.ن]،2017)، والتي جمعت بين التأريخ للذات (المؤلف) والمجتمع والدولة والحياة العامة في السودان في حقبة مهمة من مراحل تطور البناء الوطني عاشها الكاتب. ولكن ما استوقفني في تلك المذكرات؛ الفصل الذي تناول فيه تجربة المؤلف مشروع "جمع وتدوين العُرف في السودان" الذي نفصل فيه في السطور التالية..

ويقصد بالعُرف هنا، مجموعة القواعد والقوانين الشفاهية أو المكتوبة المستمدة من التقاليد والأعراف القبلية والتي كانت تسيّر حياة بعض المجتمعات المحلية ذات الطبيعة القبيلة بأطراف البلاد، محققة قدرا كبيرا من السلم والاستقرار والنظام، وذلك منذ حقبة الاستعمار وحتى مطلع سبعينايت القرن المنصرم. وقد عمل الكاتب باحثا - منتدبا من الهيئة لقضائية- لدى المشروع في الفترة بين 1977-1984.

ونظرا للدور المهم الذي لعبته هذه السلطة التقليدية، فهذا ما يجعلني أتبنى الدعوة لضرورة العودة لتلك الأعراف والتقاليد في مواجهة الواقع الراهن في بعض المجتمعات الطرفية، وذلك في سياق الاهتمام بمسألة بناء الدولة الوطنية في السودان.

لدى البعض، تعتبر الدعوة للعودة للتقاليد والأعراف اتجاها مغايرا في خطابات الحداثة والتحديث التى تعتبر سرديات قطعية مهيمنة اليوم، وأن "الدولة" في افريقيا والوطن العربي مجرد كيان وافد مغروس في مجتمعات عتيقة، ولم تكن نتاجا للتطور التلقائي للمجتمعات، وأن الغزو الاستعماري أعاق النمو الطبيعي لتلك المجتمعات، كما يرى بعض المتأثرين بأدبيات ما بعد الاستعمار ومدارس التأريخ الجديد وما بعد الحداثة... إلخ.

من وجهة نظر كاتب هذه السطور، إن العودة للأعراف والتقاليد في السودان دعوة مبررة اليوم؛ لأن النخب والطبقات الوطنية في مختلف الحقب فشلت في تأسيس دولة وطنية قادرة على تحقيق الازدهار والتقدم الاجتماعي والاقتصادي، والاستقرار السياسي، وكذلك وتوفر الحد الأدنى من الرفاه والكرامة والأمن وحكم القانون وحفظ النظام؛ مقارنة بالوضع الراهن.

نتيجة لكل ذلك وغيره من العوامل، غدت الدولة - في إدراك نخب المجتمعات المحلية - عبئا على تلك المجتمعات، لا سيما مع تجذر العقلية الريعية والجبائية في السنوات الأخيرة، مع الأخذ بعين الاعتبار ثراء هذه المجتمعات بالموارد والفرص الاقتصادية، وتطلعات هذه النخب.

وإزاء هذه الحقائق ذات الصلة بفشل تجربة الدولة الوطنية في إدماج بعض المناطق الطرفية، وحتى غيابها عن حياة هذه المجتمعات. وبالقياس إلى نماذج علاقات الدولة بالمجتمع، نجد أن الوصف الأدق لتلك العلاقات هو: نموذج "الدولة منقوصة السيادة"، أو نموذج "مجتمعات بلا دولة".

توفرت للإدارة والسلطات التقليدية - القائمة على القبلية والعشائرية - تراتبية هرمية وتقاليد وموروثات أكسبتها سلطة رمزية وهيبة وشرعية لدى المجتمعات المحلية والإدارة المركزية بالدولة تحت الاستعمار، حيث كان نظام حكم محلي يقوم على حكم "القانون العرفي" وحفظ النظام وتحقيق الاستقرار، وهو كان بحق - وكما وُصف - "نظاما رخيص التكلفة للإدارة"، إذا ما قورن بالسياسات اللاحقة وما نجم عنها من تكلفة باهظة.

فالأعراف والتقاليد متجذرة وأثبتت فعاليتها في الماضي، وفى الوقت الراهن عودة المجمتعات المحلية لتلك الحقبة يعتبر خطوة متقدمة مقارنة الواقع المرير الذي تعيشه هذه المجتمعات، لا سيما تزايد وتيرة الصراعات المسلحة. فالأعراف تساعد على الحفاظ على المجمتعات، مع تزايد حدة النزاعات والحروب ومظاهر انعدام الأمن وضعف أجهزة الدولة وغياب سلطات الدولة، وضعف التنمية والخدمات مع انتشار الأسلحة الفتاكة.

كذلك، عرفت المجتعات المحلية تقاليد وأعرافا وممارسات للتعايش وفض النزاعات وتسوية وحتى الجرائم والقتل والنهب وغيرهما.

ولهذا السبب، وباكرا، أدركت الإدارة الاستعمارية في نظريات الحكم غير المباشر؛ قوة التقاليد. ولأهداف براغماتية حافظت على السلطات التقليدية للعشائر والقبائل، ومنحتها مزيدا من أسباب القوة والسيطرة والنفوذ، كما أدرك الاستعمار كذلك أن الرهان يجب أن يكون على السلطات التقليدية وليست النخب الحديثة.

وبالعودة لمذكرات القاضى حمزة، يمكن القول إنه توافرت مشروعات بحثية كان يمكن أن تساعد على ترشيد عمليات صناعة القرار وتجنب البلاد مغبة الوقوع في أخطاء يمكن تفادي تداعياتها، إلا أنها تراجعت ولم يستفد منها، رغم وجود هذه المشاريع في تلك الحقبة المبكرة؛ حيث كان هناك مشروع بحثي بين الهيئة القضائية، وكلية القانون بجامعة الخرطوم، ومؤسسة "فورد" الأمريكية، بغرض دراسة الأعراف حول حيازة وإستغلال الارض فى مناطق جنوب غرب السودان، وهومشروع "جمع وتدوين العُرف" بكلية القانون بجامعة الخرطوم في العام 1977م، والذي اعتمد على إجراء مقابلات مع أعضاء ورؤساء المحاكم الشعبية ورجالات الإدارة الأهلية حول الموروثات والتقاليد الشعبية حول استخدامات الأراضي.

تشير المذكرات بوضوح إلى الأهداف والنظرة بعيدة المدى في تلك الفترة لأغراض هذا المشروع، حيث يقول صاحب المذكرات: "كان الهدف الأساسي من جمع وتدوين العرف في تلك المناطق هو النظر في مدى تأثر تلك الأعراف بالعوامل البيئية، والتنافس المحموم بين القبائل للاستحواذ على الأرض، وما إذا كانت الأعراف المتوارثة لا تزال قادرة على أن تقوم بالدور الذى كانت تلعبه فى تنظيم إدارة الموارد وفض النزاعات بين المزارعين والرعاة، في ظل تدهور سلطة الدولة وغيابها شبه التام في العديد من تلك المناطق" (ص 160).

كما يقول الكاتب إنه تكمن "أهمية العرف كأداة منظمة للحياة الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات الريفية" (ص 158).

إذن كان يمكن تجنب أخطاء عديدة فيما لو تم التعامل مع ذلك العُرف بشكل حكيم وتوظيف مخرجات هذا المشروع في ترشيد صناعة القرارات والسياسات العامة، فيما يتصل بإدارة المناطق الطرفية المعقدة.

وأكثر ما يثير الشعور بالخيبة اليوم أنه تم تفويت فرصا كبيرة للبناء الوطنى بالإستناد على إرثيقوم على الدراسات التى تنتج عن بعض المشروعات بحثية والعلمية، كان يمكن ان تساعد الطبقات السياسية على اتباع سياسات اكثر نضجا وحكمة.

كذلك، تذكرُنا مذكرات القاضي نور بالمصائر التي انتهت إليها مشاريع علمية بدأت منذ فترة مبكرة من مراحل بناء الدولة الوطنية. فبجانب مشروع جمع وتدوين العرف الذي أشرنا إليه، هناك "أرشيف السودان" بجامعة درم البريطانية، والذى يزخر بمعارف ضخمة في انتظار مؤسسات ومشروعات بحثية وطنية في مجالات صنع السياسات والقرارات العامة.

كما لا نغفل أيضا أنه تأسس فى الثمانينات من القرن الماضي، تعاون علمى بين جامعة بيرغن وجامعة الخرطوم، حيث تأسس برنامج السودان 1985،والذى ساعد على وضع لبناء مدرسة بحثية للقضايا الوطنية، ولكن حدود الاستفادة منه كانت مهدرة أيضا، تماما كالعديد من الفرص السابقة.

فى هذا الصدد، يمكن تلخيص أوجه المشكلات التحديات والأزمات المستمرة في السودان لطبيعة نشوء وتشكل الدولة الوطنية، وفشل تجارب وسياسات الطبقات والنخب السياسية في العهود المتعاقبة، بسبب الافتقار إلى الأسس والآليات التي تؤدي لصناعة قرارات وطنية مدروسة.

من المؤسف أنه بعد مُضى هذه السنوات، نجد بعض الدوائر الحكومية المهمة تفتقر حتى اليوم لأسس صناعة القرار، أو أنها تلجأ لالتماس إستشارات ودراسات لبعض القضايا الوطنية لدى "بيوت خبرة" ومراكز أجنبية، هذا إذا ما رغبت في اتخاذ قرار ما، رغم أن هذه الجهات تستند في عملها في إنجاز تلك الاستشارات والدراسات على هذا الإرث المهمل وطنيا، والذي ورد في مذكرات القاضي حمزة محمد نور!
التعليقات (1)
saif
الأحد، 23-12-2018 10:31 م
كلام منطقي