مقالات مختارة

الانتخابات المحلية في تونس: الأمل الأخير في تغيير حقيقي

انتصار خريجي
1300x600
1300x600
كالعادة، تتوجه أنظار وسائل الإعلام العالمية في تغطيتها لآخر الأخبار من تونس على الدين، وعلى الإسلام بشكل خاص، كما تفعل في العادة عندما تغطي أخبار العالم العربي، متجاهلة القضايا ذات الأثر الأكبر في تشكيل حياة الناس اليومية. 

في الوقت الذي حظي فيه إلغاء القرار الصادر في عام 1973، والذي يحظر بموجبه على النساء المسلمات في تونس الزواج من الرجال غير المسلمين، بتغطية بارزة في مختلف وسائل الإعلام العالمية، بالكاد حظي بأدنى ذكر عابر قرار قد يهدد بزعزعة الاستقرار في تونس ويحبط عملية التحول الديمقراطي فيها. 

في الأسبوع الماضي أجلت للمرة الرابعة الانتخابات المحلية التي كان من المفروض أن تجري في السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر. وهذه الانتخابات، التي كان قد خطط لها في الأصل أن تجرى في شهر آذار/مارس من عام 2016، تعتبر واحدة من الأركان الأساسية لعملية التحول الديمقراطي. وكان من المفروض أن تشكل منطلقاً لعملية التحول إلى اللامركزية، والتي من شأنها أن تصل بالممارسة الديمقراطية إلى المستوى المحلي. 

وعلى الرغم من إجراء ثلاثة انتخابات برلمانية حرة ونزيهة منذ الثورة في 2010 – 2011، لم تنتخب تونس حتى الآن مؤسساتها المحلية. 

لا مركزة السلطة

مازال رئيس الوزراء هو الذي يعين المحافظين والمجالس المحلية والعمد، تماما كما كان عليه الوضع في عهد النظام السابق. وهذا سمح لهياكل السلطة المحلية وللفساد بأن يستمر دون أن يمسه أحد، ناهيك عن أن ذلك يوفر مصدرا مهما لحشد الدعم والمحاباة لصالح الأحزاب السياسية الحاكمة. 

وبينما يجري بالتدريج تشييد صرح الديمقراطية على المستوى الوطني من خلال تقسيم السلطة أفقياً بين التنفيذي والتشريعي والقضائي، تظل السلطة مركزة داخل العاصمة، وتظل تونس واحدة من أكثر البلدان مركزية في العالم، من حيث يتعلق الأمر بتوزيع السلطات بين الحكومة المركزية والحكم المحلي. 

تسيطر تونس العاصمة على ما لا يقل عن 96 بالمائة من الإنفاق الحكومي بينما لا تملك الحكومات المحلية التصرف بأكثر من 4 بالمائة، مقارنة بالمتوسط العالمي الذي يقدر ما بين 15 إلى 35 بالمائة. ويأتي التأجيل الأخير للانتخابات المحلية ليؤكد أن معظم العناصر الفاعلية سياسيا لا يهمها أن ترى هذا الوضع يتغير. 

من المتفهم أن لا مركزة السلطة لا تروق لمن يمسكون الآن بزمام الأمور. فالذين يعارضون إجراء الانتخابات المحلية يعلمون أنه بمجرد إجراء الانتخابات فلا شيء سيوقف عملية التحول الديمقراطي، وحالما تصل الآليات الديمقراطية إلى المستوى المحلي، سيكون من شبه المستحيل العودة إلى عهد حكم الرجل الواحد وصناعة القرار مركزيا. 

في المقابل، إن الذين يتصدرون للدفاع عن اللامركزية ويطالبون بها قلة ومتباعدون، مما يعني أن ثمة نقصاً في الضغوط الجادة التي تمارس حتى تضمن الدفع قدماً بالإصلاحات اللامركزية. ونتيجة لذلك، يجد التونسيون أنفسهم أمام مجالس محلية غير منتخبة ولا تخضع للمساءلة والمحاسبة، وبدون تحسينات تستحق الذكر على المستوى المحلي. 

كان من المفروض أن يتغير ذلك كله بموجب الدستور التونسي الجديد الذي تم تبنيه في عام 2014. فالدستور الذي صاغه البرلمان الذي انتخب في عام 2011 في أجواء من الحماس الثوري وشغل معظم مقاعده معارضون سياسيون للنظام السابق يعطي صوتاً للمطالب الأساسية للثورة- الحرية، الكرامة، والعدالة الاجتماعية. ومما يعد به الدستور بشكل خاص، وأكثر من أي دستور آخر في العالم العربي الذي يعد أكثر منطقة مركزية في العالم، هو لا مركزة السلطة لصالح المستوى المحلي. 

ومن خلال منح الاستقلالية وصلاحيات واسعة لانتخاب المجالس المحلية والمناطقية، كان الهدف "دمقرطة" الحكم وتمكين المجتمعات المحلية من إدارة شؤونها بنفسها. 

لا يوجد مكان يبدو بحاجة إلى اللامركزية أكثر من مولد الربيع العربي، سيدي بوزيد، تلك المنطقة الريفية الغنية بمواردها، والتي مع ذلك طالما عانت الإهمال من قبل الدولة المركزية. ففي عهد بن علي، وفي وقت كانت تونس يحتفى بها من قبل المؤسسات المالية الدولية على أنها معجزة اقتصادية، ارتفعت معدلات الفقر بشكل هائل في المناطق الريفية. ففي منطقة كاسرينه ارتفعت من 30.3 بالمائة في عام 1990 إلي 49.3 في عام 2000 بينما ارتفعت في منطقة سيدي بوزيد من 39.8 إلى 45.7 خلال نفس الفترة.  

كان ذلك نتيجة سياسة في التمييز الممنهج ضد المناطق الداخلية استمرت لعدة عقود. فعلى سبيل المثال خصصت ميزانية بن علي الأخيرة للعام 2010-2011 ما لا يزيد عن 18 بالمائة من الإنفاق الحكومي للمناطق الداخلية الفقيرة مقارنة بما يقرب من 82 بالمائة للمناطق الساحلية الأكثر ثراء.
 
تفاوت صادم

لن تتغير السياسات الاقتصادية والتنموية التي تنتج مثل هذا التفاوت الصادم طالما استمرت صناعة القرار حكراً على ائتلاف سياسي بين حكام تونس ونخبتها الساحلية. في يومنا هذا يوجد ما لا يقل عن 92 بالمائة من جميع الصناعات قريباً من المدن الثلاث الأكبر في تونس والواقعة على الساحل- تونس، صفاقس، وسوسه. 

في هذه الأثناء تعاني المناطق الداخلية من نقص فاضح في البنى التحتية – 99.9 بالمائة من البيوت في العاصمة تونس تصلها مياه الشرب مقارنة بما لا يزيد عن 50 بالمائة في سيدي بوزيد. وبات من المألوف جداً أن تسمع أخباراً تفيد بوفاة المرضى في المناطق الريفية بسبب عدم إمكانية الوصول إلى مستشفى في الجوار، وباتت مثل هذه الأخبار روتينية جداً بحيث لم تعد تجذب انتباه وسائل الإعلام.
 
من الواضح بعد مرور ستة أعوام على الثورة أن ثمة حاجة إلى عملية نفض كبيرة للحكومة في تونس. لقد بات التحول الديمقراطي مهدداً بسبب التراجع الاقتصادي وبسبب التفاوت بين الناس في المناطق المختلفة. وما من شك في أن الإصلاحيين يتحركون ببطء شديد. وباتت الطبقة السياسية المنقسمة والبيروقراطية المركزية، الذين من المفروض أن يمكنوا الإصلاحات، عقبات كأداء في طريق التغيير. ولم يبق من أمل سوى في الانتخابات المحلية. 

وهذا ما أكد عليه تقرير صدر أخيرا عن المعهد الديمقراطي الوطني، والذي بين أنه بينما يشعر كثير من التونسيين بأن كثيراً من مطالب الثورة لم تتحقق، يحدو الأمل قطاعات واسعة من الناس في أن ترسخ اللامركزية الممارسة الديمقراطية وتعزز التنمية في المناطق وتقلص التفاوت الذي يعانيه سكانها.
 
يمكن للانتخابات من خلال الإتيان بسبعة آلاف عضو بلدي جديد أن تساهم في تغيير الأمور، فهي التي ستخلق مجالات جديدة للتنافس والإبداع والإصلاح. ولقد أظهرت مبادرات مثل تعاونية واحة جمنا القدرات الهائلة الكامنة لإيجاد حلول محلية جديدة تولد الوظائف وتدفع بعجلة التنمية في مناطق إما أن الدولة المركزية غير راغبة أو غير قادرة على أن تقوم بها بنفسها. 

كل هذا يتوقف على النخبة السياسية في تونس وما إذا كانت غير قادرة على تجاوز صراعاتها الداخلية وترتقي إلى مستوى التحديات التي تواجه البلد وعملية التحول الديمقراطي. 

إن اللعبة التي تمارسها بعض النخب للاستمرار إلى الأبد في تأجيل الانتخابات والإصلاحات اللامركزية لعبة بالغة الخطورة لأنها تهدد بتعميق مشاعر الإحباط وتدفع نحو القلاقل الاجتماعية، وتفاقم من الهوة التي تفصل بين الدولة والمناطق المهمشة. 

في هذه الأثناء يستمر أولئك الذين يرجون النجاح لتجربة التحول الديمقراطي في العالم العربي في الأمل بأن عملية التحول الديمقراطي في تونس سوف تنجو وسوف تتغلب على هذه الانتكاسة الأخيرة. 
0
التعليقات (0)