قضايا وآراء

إلحاد.. مثلية.. ميراث الأنثى.. تمر هندي!!

هارون عبد الرحمن
1300x600
1300x600
يمكن للمغترب، حين يزور العالم العربي، أن يحظى بنظرة من الخارج تتيح له أن يرى ما لا يستطيع المقيم هناك إقامة دائمة أن يراه ويلحظه؛ بحكم الاعتياد، ولأن النفس تعجز عن قياس التغيرات البطيئة، والإحساس بأثرها، والأعوام تتوالى.

وليست هذه القدرة على التقييم نابعة من ملكة خاصة بالمغترب، فتبدل الأدوار سيتيح للعربي المقيم في بلاده أن يرى في حياة المغتربين - حين يزورهم - ما يعجزون عن ملاحظته وإدراكه في أنفسهم وواقعهم، لذات السبب الآنف ذكره.

وأكثر ما يثير دهشة زائر العالم العربي هو الأجندة المضطربة للقضايا الاجتماعية محل الاهتمام. لأمر ما، أصبحت مواضيع "المثلية الجنسية" و"الإلحاد" على رأس قائمة اهتمام الناس. ولا حرج قطعا في نثر كل المواضيع على طاولة النقاش، وليس الأمر أن مجتمعاتنا تحتاج إلى وصاية توجههم نحو ما يتحدثون به، وتصرفهم عما لا ينبغي، لكن من الضروري أن يكون اهتمام المجتمع منصبا على الأولويات الأكثر مسّا بحياته. فهل حقوق المثليين والإلحاد و"للذكر مثل حظ الأنثيين" هي فعلا القضايا الأكثر ضغطا وإلحاحا على مصائر شعوبنا الآن؟

لا يمكن التعامل مع هذا الانشغال بحسن نية، خصوصا أن الأدلة على أن هذه الأجندة مستوردة، لا تقبل الشك. فهل يخضع التقدم الاجتماعي هو أيضا لنظرية التطور، بحيث ينبغي على العربي أن يصعد لدائرة النقاش، ذات القضايا الاجتماعية التي تشغل الغرب الليبرالي؛ لأنه الغرب المتقدم في العلم والتكنولوجيا؟ لو أن الاهتمام بهذه المواضيع يعكس حاجات مجتمعية عربية حقيقية، لأمكن تفهم طرحها للنقاش، لكن كل الشواهد تشير إلى أن هذا الاهتمام مصنوع وغير مطبوع. فأنصار الإلحاد العرب - كما يعبرون عن أنفسهم في مواقع التواصل الاجتماعي وفي ظهورهم الإعلامي - يستوردون مقالات رموز الإلحاد التلفزيوني الغربي، ويتعاملون مع كلام هذه الرموز على أنها المرجعية في دحض فكرة الأديان والإيمان والرد على المتدينين. وهذه الرموز الإعلامية الغربية المعتنقة للإلحاد تروج لخلطة غير علمية وغير موضوعية، حيث تضع إلحادها في رزمة واحدة مع "العلم الطبيعي" والتقدم التكنولوجي، وبعض المواقف الأخلاقية الأخرى (مثل الاهتمام بالبيئة)، وتعتبر أن الدين على عداء ومنافاة لكل ذلك، أو في أحسن الأحوال هو عاجز عن التفاهم مع معظم هذه المفاهيم النبيلة (التي حشر الإلحاد بينها حشرا) وتقديم قيمة مفيدة نحوها. فإما أن تكون ملحدا، أو أنت في موقع العداء مع العلم والتقدم. ويجري هنا أيضا توسيع دائرة معنى التقدم لتشمل التقدم الاجتماعي وفق معيار الليبرالية الغربية، فتصبح المعادلة أن الإلحاد وقبول المثلية الجنسية والعلم الطبيعي والتفكير العقلاني في كفة، والدين وكل شيء شرير غير ذلك في كفة أخرى.

وليس عندي مشلكة في أن يعتنق عربي الإلحاد، "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، لكنني أرفض أن آخذ طرحهم المستورد على نحو جدي، وأسلم لهم بالعقلانية، وأرضى لديني وثقافتي بالتهم المعلبة الواردة من متعالمين - لكن ناجحين تلفزيونيا وإعلاميا   - مثل "بل مار" و"ريتشارد داوكنز" وباقي أنبياء الإلحاد الغربي، خصوصا حين يحمل هؤلاء عداء خاصا ومرا للإسلام والمسلمين.

الأمر نفسه ينطبق على المثلية الجنسية: لو كان طرح هذا الموضوع نابعا من حاجة مجتمعية، فلماذا تنظم فعاليات القوم برعاية سفارة أمريكية، أو منظمات تعتبر أذرعا للسياسات الغربية في بلادنا؟

أستطيع أن أشير إلى الكثير من المشاكل والقضايا الاجتماعية الأكثر إلحاحا والأكثر حاجة للحل في بلادنا، من اجترار ما يشغل أجندات الليبرالية الغربية المترفة. لكن ليس ما يحدث - كما تقدم - بريئا، والدولة العربية التي نجحت في تدمير نفسها وتدمير المجتمعات العربية، تتوسع في تجريف الحياة الثقافية العربية، ووصل الأمر لاستهداف البيت والعائلة. أليس تأخر سن الزواج للذكور والإناث والضائقة الاقتصادية التي تلف حياة الجميع - وتسهم في عرقلة تجديد المجتمع بأسر جديدة - أولى بالنقاش والبحث؟

يتشدق البعض - فقط في بلادنا - بفكرة السماوات المفتوحة لتبرير استيراد كل هراء وكل سواد في بياض وشغل الناس به، وهذا حقا لا يحدث إلا عندنا. تقيم الصين - وهي من هي في ريادة التقدم العلمي والتكنولوجي وبشكل يثير حنق وحساسية كل الغربيين - جدارا ناريا أعظم من جدار الصين المشهور، يحول دون أي غزو الكتروني للبلاد. تركع شركات التكنولوجيا العظمى على باب الصين، وترجو منها أن تفتح المنافذ لشبكاتها الاجتماعية، لكن الصين لا تأبه لهراء السماوات المفتوحة. فقط الذاهلون يعتقدون أن لغوغل وفيسبوك حقا بديهيا في معرفة كل شاردة وواردة عن أنفسهم، وحقا في توجيه أجندات النقاش اليومية في بيوتهم وأماكن عملهم. وحتى لا يقال أن الصين مثال ناشز - لأنها ليست ديمقراطية غربية - فبوسع المرء أن يضرب مثلا بالولايات المتحدة نفسها، فهل تستطيع وسيلة إعلامية أجنبية قوية ونافذة أن تعمل على الأرض الأمريكية وترسم أجندات الجمهور في عقر دارها؟ لا حاجة هنا للتنظير، ويمكن فقط تذكر المصير البائس لشبكة الجزيرة في أمريكا، التي أغلقت بعد سنوات قليلة من فتحها، متوجة مسيرة قصيرة العمر، أثقلها الحصار والفشل. صحيح أن هناك عوامل داخلية أسهمت - ولا شك - في فشل تجربة أول قناة ذات إدارة عربية على الأرض الأمريكية، لكن العداء الذي أحاط مسيرة القناة حسم مسيرتها نحو الفشل، ومن اليوم الأول. تراجعت كبريات الشركات المزودة للخدمة عن حمل القناة في حزمها، وكان على المشاهد أن يبحث عن القناة بإصرار وسط القنوات ذات الإشارة رديئة الجودة. تضافر كل ذلك مع مقاطعة الشبكة إعلانيا حتى انتهى بها الأمر إلى مجرد استثمار عربي آخر، بدأ بأحلام كبيرة، وانتهى بفشل ذريع. فقط في بلادنا تفتح السماوات لقنوات روسية وأمريكية وصهيونية؛ تزين الاستبداد والاحتلال، وتحتقر المقاومة، وتمجد كل ما من شأنه إدامة تكبيلنا بالخضوع والهزيمة والتبعية. واستمرار تدفق طوفان الأجندات الإعلامية الخارجية على بلادنا دون رقيب أو حسيب؛ ليس دليلا على الحرية والتقدم، بل دليل على أننا مستباحون.

ولا تكتفي الدولة العربية بالقيام بدور الحارس الذئب على الأغنام المسكينة، بل تقوم هي أيضا بجهدها غير المشكور في زراعة القلاقل الاجتماعية. فلم يمض على توسع انتشار الأطباق اللاقطة والإنترنت في بلادنا وقت؛ حتى صار لزاما على كل أسرة عربية استقبال قصف التحريض الطائفي والمذهبي والعرقي، الممول بمعرفة حكوماتهم ودولهم، لإشغال الناس عن تناقضهم الرئيس مع الدولة الظالمة المستبدة التي أهلكت الحرث والنسل. وبعض هذه الدول تتوسع في "الإصلاح الاجتماعي"، كما صنعت تونس مؤخرا في زوبعة مساواة النساء بالرجال في الميراث. إن مقاربة هذا الموضوع الاجتماعي بطريقة بيع التجزئة، أمر مثير للحنق فعلا، فهل يمكن عزل التشريع الإسلامي بخصوص الميراث عن باقي المنظومة الاجتماعية الإسلامية التكافلية والإجبارية؛ التي تلزم الرجل المسلم برعاية الإناث في العائلة وبتراتبية ضابطة لا فكاك منها، فتنتقل المسؤولية في ذكور العائلة الأولى فالذي يليه، حتى يقوم قائم قادر بالأمر؟ وهل ستتحمل الدولة مسؤولية انهيار هذه المنظومة التكافلية، حين تجري تغييرا في بند واحد دون باقي بنود العقد المجتمعي بين الرجل والمرأة في بلادنا؟ بل هل هي جادة فعلا في سعادة وراحة النساء في بلادنا أو الرجال؟

ربما كان الأولى بالرئيس التونسي وبحكومته الامتناع عن تمرير قانون مصالحة؛ يتيح لرجال أعمال النظام القديم (الجديد) الفرار بالغنيمة التي انتهبوها من كل التونسيين رجالا ونساء، وربما كان في عشر معشار تلك الثروات المنهوبة ما يكفل العيش الكريم لكثير من نساء تونس ورجالها. لكن الدولة العربية ليست معنية بكفاية الناس في حياتهم ومعاشهم، وليس الاهتمام المدعى بنصيب المرأة في الميراث؛ إلا استمرارا إبداعيا من الدولة في خلط الأجندات، وصرف أنظار الناس عن سياسات الدولة التي لا تروم راحتهم أو مصلحتهم.

يوما ما سنسترد زمام المبادرة من هذه الدول وسياساتها الصبيانية الخرقاء، وسننظر للخلف بدهشة واستغراب؛ تجاه التخريب والخلط الاجتماعي الذي سمحنا بموجبه لألف يد ويد بدس سمومها وغثائها في صحننا المثقل، المليء بالألوان الناشزة، والمأتي من كل جانب!
التعليقات (3)
تونسي ابن الجمهورية
السبت، 11-11-2017 09:20 م
اولا السبسي لم يعفى على اى رجل أعمال سرق مال الشعب ادعوا الكاتب إلى الاطلاع على قانون المصالحة الإدارية و هنا سطرين تحت الإدارية.... ثانيا نحن لا نعطى الدروس لأحد و ناخذ الدروس من أحد تونس اختارت طريق مدنية الدولة و العلمانية منذ 61 سنة و بعد 200 سنة اصلاح و تحديث...والاصلاحات الأخيرة هى إنهاء آخر فصول التمييز بين المواطنين ...شكرا ...تحيا تونس تحيا الجمهورية
محمدعرف عطا
الإثنين، 06-11-2017 07:35 م
ماشاءالله كلامك منطقي ويدخل الى اعماق القلب
عبد الله محمود
الإثنين، 06-11-2017 11:55 ص
أفكار متزنة ... واقعية ... بارك الله فيك وفي قلمك ..