كتاب عربي 21

أرض الخوف

طارق أوشن
1300x600
1300x600

يطلق المعلم يحيى أبو دبورة النار على المعلم بسيوني أبو صباع وأعوانه بشكل متواصل ودون رحمة.


يحيى أبو دبورة: لكي أصبح فعلا أحد المعلمين الكبار، كان يجب أن أصبح مهابا. وبقدر السمعة المطلوب تحقيقها كان يجب أن يكون هناك عمل عنيف وقاس له دوي قصدت أن أصنعه وحدي دون شريك. ولكني أيضا أعترف أنني الآن أدرك أن قتل المعلم بسيوني كان فعلا محببا إلى نفسي طالما تقت إليه. وهكذا تحول الواد يحيى أبو دبورة إلى المعلم يحيى أبو دبورة.


يحيى أبو دبورة هو نفسه الضابط يحيى الذي كلفه رؤساؤه في العمل بوزارة الداخلية بمهمة اختراق عالم تجارة المخدرات حيث الحد الفاصل بين الضابط والتاجر أرفع من خيوط بيت العنكبوت.

 

لا ضمانة أمام الضابط يحيى غير معرفة عدد محدود جدا من المسؤولين بطبيعة المهمة وتعهد مختوم من هؤلاء يتم الاحتفاظ به في خزانة إحدى البنوك. غير ذلك فيحيى تاجر مخدرات في نظر السلطة والمجتمع. حملت المهمة اسم أرض الخوف وحمل يحيى اسمه الحركي آدم في فيلم (أرض الخوف – 2000) للمخرج داوود عبد السيد.


السعي إلى الزعامة والاستفراد بالسلطة والقرار يفترض في عالم الجريمة كما السياسة بناء صورة ذهنية لدى الخصوم والأتباع وبقية العالم، عمادها الحزم والقدرة على تحويل القول إلى أفعال غير مسبوقة ومفاجئة تفقد "الضحية" والمتابع القدرة على رد الفعل أو إعمال آليات التحليل المحايد المجرد، ولا يتأتى ذلك بغير زراعة الخوف في النفوس أفعالا لا أقوالا.


في مصر كانت شهادة الميلاد الحقيقية لزعيم الانقلاب عبد الفتاح السيسي كآمر ناه بالبلاد تحويله ميدان رابعة العدوية إلى محرقة حقيقية للمعتصمين صدمت الموالين قبل المعارضين، ولو أنها لامست توقا داخليا لديهم ملؤه نزعة انتقامية غذتها برامج التوك شو لأسابيع متواصلة من الشحن الإعلامي. أبو دبورة لا يخجل من الاعتراف بذلك في حواره الداخلي أعلاه.


ولأن التجربة المصرية تحولت مع الأيام إلى أنموذج قابل للتصدير، فقد صارت القبضة الحديدية شعارا لمرحلة ما بعد "الربيع العربي" مؤشرا واضحا على انتكاسة لا تزال معالمها غير واضحة حتى اليوم بعد أن تحولت من شأن داخلي إلى قضية إقليمية ودولية يسعى الكثيرون إلى طي الصفحة واستغلال حالة النكوص لإعادة ترتيب المشهد الإقليمي وفق أجندة كتبت بمحبرة أمريكية وإملاء إسرائيلي.

 

وقد أحيانا الله حتى سمعنا بنيامين نتانياهو يتحدث عن ضرورة وجود "يقظة عربية إسرائيلية" لمواجهة النفوذ الإيراني التوسعي وأذرعها المنتشرة على طول المنطقة وعرضها بعد أن صار "الهلال الشيعي" أمرا واقعا.

 

تجربة مصر تحولت إلى نموذج للتصدير حيث أصبحت القبضة الحديدية شعارا لمرحلة ما بعد "الربيع العربي"


في السعودية، وفي خضم الخطوات المتسارعة لنقل السلطة لجيل الأحفاد، فعل جدي على الأرض يغير من معادلات لعبة الحكم وقواعدها.

 

لأجل ذلك، لابد من تحييد أي قدرة اقتصادية أو علمية أو دينية أو عسكرية أو أمنية يمكنها التشويش على مشروع التوريث وما يبدو أنه مرتبط به من إعادة رسم خريطة المنطقة، وفق ما يراه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإن تداخلت فيها بعض رغبات الانتقام الشخصية مع محددات رؤية شمولية تستهدف إنهاء أسس الصراع العربي الإسرائيلي من جهة، وإضعاف كل الأطراف الإسلامية شيعية كانت أو سنية واستنزافها ماليا بما يكرس الريادة الإسرائيلية في المنطقة ويجعلها شريكا مقبولا في العلن، بعد عقود من التعامل السري.


يلتقي المعلم يحيى أبو دبورة / الضابط يحيى، بموسى صلة الوصل المفترضة بينه وبين رؤسائه في العمل.


يحيى: أنا لما ابتديت المهمة كنت قادر أشوف كل حاجة بوضوح.. كنت متأكد من ايلي أنا باعمله. بعد كده ابتديت أحس أني بأشوف الصورة من ورا الإزاز وبالتدريج ابتدت تتكون طبقة كده زي التراب والمشكلة أن التراب ابتدا يزيد لدرجة أن انا مبقيتش شايف اي حاجة.

 

صورة ضبابية.. الذكريات اختلطت مع الأحلام ومع الأوهام ومع الحقايق. في الفترة الأخيرة بديت أحلم بكوابيس واصحا خايف مش عارف ليه. بديت أحس أني محكوم علي بالوحدة.. متعلق في الهوا مش قادر أمسك حاجة بايديا ولا في أرض تحتي .

 

ابتديت اسأل نفسي سؤال: أنا ليه بقيت كده؟ مجرم وقاتل خارج عن القانون. كل ايلي كنت برفضه وأحاربه وافقت عليه بقرار واحد.. قرار واحد من غير...


موسى: لو فيه حاجة أقدر أعملها أنا مستعد بس مش عارف ايه ايلي ممكن أعمله.
يحيى: أنا عاوز أعرف ايلي باعمله صح ولا غلط.. انتم راضيين عنه.. فيه فايدة من وراه؟
موسى: ما تسألنيش أسئلة أنا ما اعرفش إجابتها.


يحيى: أنا مش بسألك انت.. أنا بسأل الجهة ايلي أنا بشتغل لحسابها.. وإذا كنت انت مش عارف اسألهم ورد علي.


لا أحد يمكنه أن يجادل في أن السعودية وغيرها كثير من دول المنطقة في حاجة فعلية لإعادة النظر في كثير من سياساتها الداخلية والخارجية، فالاستمرار في إهدار مقدراتها مآله العودة إلى حياة ما قبل اكتشاف النفط بما يعنيه ذلك من انحسار الثروة وعودة فترات الخصاص بديلا عن بحبوحة الوفرة التي ذهب معظمها هباء منثورا.


لكن الاعتماد على سياسة القهر والهنجعية وزراعة الخوف في الداخل ولدى الجيران، قريبين كانوا أو بعيدين، لا نتيجة تنتظر منه غير ما نراه من تفكك في جهة الداعمين بعد أن تحول بعضها، بإيعاز سعودي، إلى دول مارقة أو حكومات حرب عدوة، وإلى تعدد جبهات القتال الآني والمستقبلي في جهة "العدو المذهبي" الذي يملك من القدرات ما يقيه الهزيمة بل ما يمنحه القدرة على الإيذاء. بروفة الصاروخ الباليستي الذي اخترق المملكة من جنوبها حتى وصل العاصمة الرياض مجرد لعب أطفال.


في الماضي كان التخويف في الداخل موكولا لشرطة وأصوات دينية أخذت على عاتقها مهمة تكميم الأفواه عن المطالب المشروعة بدعوى طاعة أولي الأمر.

 

واليوم تعددت "محاكم التفتيش" من ذباب الكتروني وهيئات تتشكل في ظلمة الليل وتنفذ أحكامها قبل طلوع الفجر. لكن سقوط كل تلك الأسماء ناقوس خطر ومؤشر إيجابي من ناحية أنه يؤشر على أن الشخصيات، التي ظلت لسنوات وعقود مصدر هيبة وتخويف للعامة، مجرد كائنات ورقية سيطرت على رقاب البلاد والعباد من منطلق نسج الأساطير حول "الأسياد"وتغذية الخوف لدى "العبيد" حتى استحكم فيها وشل قدرتها على التفكير والفعل. لكن التحول الفعلي كان في سقوط أو "إسقاط"- حسب بعض الاتهامات- طائرة أميرية أودت بحياة من كان في متنها.

 

شبهة الشك ستبقى موجودة مهما تبرأت منها السلطة وهو ما سيفتح صفحة أحقاد عائلية ستطول ما طال حكم العائلة وامتد.


من فيلم (أرض الخوف) للمخرج داوود عبد السيد شهادتان:
الضابط يحيى: كانت الحرب قد بدأت.. لكن ما جرى لم ير مثله العالم السفلي من قبل. بالإضافة إلى المذبحة التي شاهدتها فقد مات المعلم شفيق دلدول. قيل أنه انتحر.. أما المعلم خميس فقد اختفى في المسافة بين مدخل العمارة وشقة زوجته الثالثة في الدور الخامس بلا أثر وكأنه تبخر.. ويبدو أن الهدف هو محاولة طمس جرائم القتل التي تبدو انتحارا أو اختفاء.. الخلاصة أن الصراع احتدم.. ولكن المؤكد أن هذا الصراع يتم تحت مظلة حماية ما.


المعلم هدهد:  قتل النفس أصعب شيء.. لكن أوقات لازم نقتل.. ربنا خلق عبيده كل واحد لهدف.. ربنا عمل علينا واجبات وحمول لازم نشيلها منها أننا أحيانا لازم نقتل. أنا مؤمن أن من قتل يقتل وعارف أني حأموت مقتول بس ده هو الثمن ايلي لازم أدفعه.


تشتيت الجهود وفتح الجبهات كلها دون قدرة حقيقية على الحسم، وتفتيت الجبهة الداخلية، مهما كانت فاسدة، تسفه أي جهد تنموي مرغوب. أما إن كان المعروض على الطاولة مجرد أوهام تباع للبسطاء من الناس وتسوق للشركاء في المنطقة مع انتظار الحماية والدعم من الأجانب، فالنتيجة كارثية لا ريب فيها.

 

وقتها ترتد سياسة زرع الخوف في الداخل والخارج لتصبح واقعا مكبلا لكل نهوض مأمول.
في أرض الخوف، المستقبل مفتوح على ما يبدو على القلاقل وعدم الاستقرار وهو ما يضع المنطقة على كف عفريت.

 

0
التعليقات (0)