مذكرات عاكف

صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (1)

محمد مهدي عاكف - جيتي
محمد مهدي عاكف - جيتي

كلمة لا بد منها

ربما يلاحظ القارئ أن صاحب المذكرات في الحلقات الأولى لم يتحدث عن شيء يترقبه كل قارئ أن يسمعه من شخصية مثل محمد مهدي عاكف، المرشد الراحل لجماعة الإخوان المسلمين، غير أننا لا بد أن ندرك أن رجال النظام الخاص الذين ظلوا في فلك الجماعة يتكتمون على كثير من الأحداث والأسرار، ظنا منهم أنها تضر أكثر مما تفيد، أو أن أوانها لم يأت بعد أو لحساسية المكان الذين يتبوّأونه، أو أن الأحاديث التي يتكلمون بها أحاديث عامة في الإعلام، مع حرصهم على عدم الحديث في القضايا التي لم يكونوا طرفا فيها. ولذا شعرت أن الكلام ربما يكون عاما، والدارس للتاريخ الحديث ربما سمع الكثير من هذه الأحداث.. غير أني أحسب أن خصوصيات الحديث تتجلى في الحلقات القادمة، والتي شغل فيها صاحب المذكرات مواقع فعالة في صناعة القرار، وكان له دور وبصمات في أحداث التاريخ.

 

وإلى الحلقة الأولى من مذكرات محمد مهدي عاكف، والتي تنشرها "عربي21"، حصريا، على مدار 30 حلقة.

 

اقرأ أيضا: وفاة مرشد الإخوان السابق مهدي عاكف

***

الحياة صديق يحمل كلّ معاني الصّداقة والحبّ، كروح في جسدين، تسعى كل واحدة لما يرضي الأخرى. وبين بداية الحياة ونهايتها صفحات من ذكريات الصداقة مع الأحداث التي لا بد لها يوما من انطلاقة لتفصح عما عاشه الإنسان.

وهذه صفحات رجلٍ عاش مع أحداث جسام، فأثر وتأثر، وحينما رحل.. خلّف زلزالا في وجدان من عرفه، وبمواقفه حرك مياها آسنة، سواء داخل الجماعة التي اتخذها سبيلا إلى الله، أو وطنه الذي دافع عنه بأنفاسه الحرة، فلم يبخل عليه بشيء حتى وإن ضن عليه البعض بالحياة الكريمة، فمات وما شيّعه إلا نساء بيته.

بين ثنايا القرية

في جو امتاز بصفاء الطبيعة، وبساطة المعيشة، وصدق المشاعر بين أبناء القرية، نشأت وسط أسرة متدينة حرص رب الأسرة على تربية أبنائه تربية إسلامية؛ ففي القرية تشكل عالمي من وحي روح هذه القرية الطليقة التي تتغير مع الزمن، ويتغير بنيانها وحوائطها في كل لحظة، خاصة في عالمنا المعاصر.

في الريف.. حيث يهرول الفلاح إلى حقله في الصباح الباكر، بعدما ينطلق أذان الفجر، فيتسابق البعض للوقوف بين يدي الله، وبعدها تنطلق تباشير الصباح لتضيء هذا الكون بالنور والضياء. ومع الفجر، تنطلق تغاريد الطيور، تشدوا بترانيم الصباح، معلنة ميلاد يوم جديد، فترى النساء يهرولن لمساعدة أزواجهن، وإيقاظ أبنائهن، ليسعى الجميع على الرزق.

ولدتُ في الثاني عشر من تموز/ يوليو عام 1928م، بقرية كفر عوض السنيطة، مركز أجا، محافظة الدقهلية، وترعرعت وسط هذه القرية التي أرضعتني معنى الرجولة والمسؤولية المبكرة، حيث خصال ومعادن أبناء الريف.

بين أحضان الأسرة

ولدت في أسرة ثرية، وهي أسرة عاكف؛ حيث كان جدي "عثمان عاكف" الطبيب الخاص للخديوي وللسلطان، غير أن الإنجليز قتلوه في عام 1900م، ولم يكن والدي قد تجاوز العامين آنذاك.

عاش والدي مع إخوته في بحبوحة من العيش حتى كبر، وتزوج، وأنجب أحد عشر ولدا وبنتا كنتُ واسطة عقدهم. وقد حرص والدي على تربيتي أنا وإخوتي على المثل والقيم العليا، فعمد إلى المشايخ لتحفيظنا كتاب الله وشعائر الدين داخل بيتنا، غير أنني لم ألتحق بالكتاب قبل أن نلتحق بالتعليم، حتى إنه باع من أرضه الكثير لينفقها على تعليمنا وتربيتنا.

كان بيتنا الكبير مملوءا دائما بالخيرات، وكان والدي محط احترام أهل القرية وإجلالهم، وذلك لطيب نفسه وتواضعه. وما يكاد يخرج من البيت لعمله حتى تدب الحركة، ويعلو صياحنا - نحن الأطفال - حتى يملأ البيت، وتبدأ أمي الحبيبة - تلك الملاك الجميل، الباسم الوجه، المشرقة، المحبة - يومها بعد صلاة الفجر بتجهيز طعام الإفطار الشهي، وإيقاظ النائمين، ثم تبدأ في أعمال البيت بكل همة ونشاط كعادتها كل صباح.

كانت أمي مثالا للطيبة، ورضا النفس، لا تعرف معنى للشر ولا السوء. لا تعرف إلا الخير، وحب ببيتها وأولادها والناس جميعا.

وجهها مشرق باسم دائما؛ فلم نرها أبدا غاضبة، ولم نسمع منها أبدا كلمة جافية. كانت أقسى كلمة نسمعها منها حين يشتد صخب الأولاد "طيب يا أولاد، سأخبر أباكم حين يعود".

مرت فترة الطفولة جميلة رائعة، استمتعنا فيها بكلّ لحظةٍ. فقد كان لكلّ شيءٍ فرحة؛ حيث يحيط بنا الحنان والعدل والحزم أيضا، فلم نشعر أبدا بالتدليل أو الحرمان. ومرت الأيام سهلة حالمة، ولقد كانت هناك أيام مميزة لها فرحة أكبر وأعظم من غيرها، كالاستعداد لرمضان، والأعياد، ثم التعرف على هذا العالم الجديد من أطفال القرية الذين يلعبون معنا، والانضباط والالتزام بحفظ القرآن، والحساب، ومبادئ اللغة.

في تلك الفترة، كانت كلمات مصطفى صادق الرافعي حاضرة في ذهني: "قد يكون في الدنيا ما يُغني الواحد من الناس عن أهل الأرض كافّة، ولكن الدنيا بما وسعت لا يمكن أبدا أن تغني محبا عن الواحد الذي يحبه! هذا الواحد له حساب عجيب غير حساب العقل.. فإن الواحد في الحساب العقلي أول العدد، أما في الحساب القلبي فهو أول العدد وآخره، ليس بعده آخـِـر إذ ليس معه آخـَر".

على حافة المجتمع

حرص والدي على عدم اختلاطنا بالأطفال أو اللعب في شوارع القرية، حيث وفر لنا الكثير من اللعب داخل بيتنا الفسيح، وكان كثير من الأطفال المتعلمين يأتون للعب معنا في الملاعب التي أنشأها والدي لنا داخل البيت، حتى إنه حينما أراد تعليمنا السباحة كان يأتي بالصفائح ليربطنا بها، ويرمي بنا في الترعة التي تمر أمام بيتنا لنتعلم فنون السباحة بهذه الطريقة.

كما أتاح لنا مرور الترعة أمام البيت أن نتدرب على فنون صيد الأسماك، فكنا نقضي ساعات على الترعة في صيد السمك، وكان لهذه المهنة دور كبير في تعليمنا فنون الصبر والتريث.

ليس هذا فحسب، بل عمل والدي على تعليمنا ركوب الخيل والصيد، لدرجة أنه اشترى لكل واحد - نحن الإخوة الذكور السبعة- حمارا؛ لنمتطيه، ونتعلم عليه، حتى إننا كنا نجرى مسابقات الحمير فيما بيننا.

كان هذا ذكاء من الوالد أن نشغل كل وقتنا بأعمال مفيدة وهادفة، حتى إذا جن الليل هرولنا جميعا إلى مخادعنا من التعب الذي لحق بنا طوال اليوم، لنستيقظ مع الديك لصلاة الفجر.

رجولة مبكرة

لم يكن صباي كغيري من الصبيان الذين ينشغلون باللعب فقط، بل حرص والدي على إكسابنا معاني الرجولة والمسؤولية منذ صغرنا؛ حتى نستطيع مواجهة الحياة.

معاني الرجولة التي تَعرف فن الحوار مع العاقل، والإعراض عن السفيه والجاهل، كما تعرف غض الطرف عن التفاهة والسفاهة، والالتزام بما يرفع المقام والمكانة، الرجولة التي تعرف الحلم والحكمة، لا الصرعة والبطش بخلق الله.

تربيت على الشجاعة سواء في القول والعمل؛ فقد كان والدي يعطينا الفرصة لنعبر عن آرائنا بكل شجاعة، دون الإخلال بالأدب في الحديث أو علو الصوت أو عدم احترام الكبير.

بين أحضان المسيحيين

أثناء فترة الاحتلال الإنجليزي، قدم إلى مصر الكثير من الأجانب، كاليونانيين والإنجليز والأرمن وغيرهم، واستوطنوا مصر، وأنشأوا فيها المصانع، وعملوا بالتجارة والزراعة. وكان لنا أصدقاء من الأجانب المسيحيين، وكانت علاقتنا بهم في القرية على خير حال، وكان معظمهم من اليونانيين (Greece)، والذين استوطنوا قريتنا حتى أصبح لهم نصف القرية، وكانت علاقتنا بهم طيبة؛ لأنهم كانوا على قدر كبير من التربية والأدب. إلا أنه لم يكن في قريتنا أحد من أقباط مصر، لكن بعدما التحقت بالمدرسة، وخاصة معهد التربية الرياضية، كان لي منهم أصدقاء عدة أمثال: منير جرجس (وافته المنية)، وفوزي يعقوب، وظلا صديقاي حتى الآن. أذكر أنني كنت عضوا في نادي الشبان المسيحي الموجود في شارع إبراهيم باشا، ولم نكن نعرف معنى الفتنة الطائفية، بل كانت العلاقة بين الجميع تحوطها المحبة، ولم نسمع هذه الكلمات في صغرنا، كما كان معنا في النادي ألبير تادرس، وكان سلامة موسى يعطي بعض المحاضرات هناك.

في المرحلة الابتدائية التحقت بمدرسة المنصورة، وحصلت على الشهادة في الوقت الذي حصل فيه إخوتي على شهادة البكالوريا.

لم يكن والدي منشغلا بأمور السياسة الحزبية، لكنه كان مثقفا يدرك ما يحاك للوطن من مؤامرات، فكان يتابع ما يجري على الساحة، وكان لا يريدنا أن ننشغل بالمهاترات الحزبية أو الخزعبلات التي كنا نراها من بعض المسلمين، والشطط في التدين.

 

اقرأ أيضا: عاكف.. سجنه ناصر والسادات ومبارك وقتله السيسي (إنفوغراف)

 

اقرأ أيضا: مهدي عاكف بعيون معارضيه

التعليقات (2)
مصري جدا
الخميس، 21-12-2017 01:07 م
الموضوع هام جدا ،، لكن موعد نشره وظرفه العام غير مناسب ،، فهل هو موجه للاخوان فقط ،، اذا الامر كذلك ،، فالاخوان بهذا الامر لم يتعلموا متى يتكلموا ومتى يلتزموا الصمت
مصري جدا
الأربعاء، 20-12-2017 08:38 م
مع كل التقدير للاستاذ عبده دسوقي ،،، الوقت ليس وقت حكايات وحوادايت ،،، نعم سير القادة والصالحين مطلوبة لكن في الوقت المناسب ،، الاستاذ عبده طرح على في السجن انه سيخرج يكتب سيرة الاستاذ البنا ،، وقلت له ليتك تكتب ما يفيد الشباب من تطوير لفكر الاستاذ البنا ومدى مناسبته لطبيعة المرحلة ،، لكن الحب غلب عليه وانحاز للقصص والحواديت لانها لاشك مريحة ومسلية ،، الاخوان لن يتعلموا ولن يتغيروا واحزناه على امل الامة