قضايا وآراء

صراعُ حُرّاس البوابات: وصلاحياتُ سُلطة حظر النشر

نيفين ملك
1300x600
1300x600
في مشهد آخر لهندسة تناقضات الواقع المصري وصراع سلطات الحظر في ما بينها، جاء قرار النائب العام المصري بإحالة رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام مكرم محمد أحمد للتحقيق أمام نيابة أمن الدولة طوارئ؛ بتهمة التعدي على اختصاصات كلٍّ من السلطة القضائية والتنفيذية، بشأن القرار الصادر من مكرم محمد أحمد بحظر النشر في اتهامات بالفساد، موجهة إلى مسؤولين بمستشفى سرطان الأطفال 57357، على سندٍ من أن قرار حظر النشر يُعد تدخلا في الشأن العام، بما يُمثل تعديا على اختصاصات السلطات القضائية والتنفيذية المنوط بها وحدها حماية الشأن العام للدولة، وكأن ممارسة سلطة حظر النشر أو إصدار قرارات الحجب والمنع من النشر لسلطةٍ وحدها ودون منازع.. وعليه بادر بالرد رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في خطابه الذي جاء فيه: "يوضح المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام أن قرار السيد رئيس المجلس رقم (36) لسنة 2018 بوقف نشر ما يتعلق بمستشفى 57357، قد صدر في حدود سلطاته المخولة له، بموجب أحكام الدستور والقانون رقم (92) لسنة 2016، بشأن التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام، وحيث إن المادة الثانية من القانون رقم 92 لسنة 2016 قد نصت على أن: "المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام هيئة مستقلة يتمتع بالشخصية الاعتبارية، ومقره الرئيسي محافظة القاهرة، ويتولى تنظيم شؤون الإعلام المسموع والمرئي والرقمي والصحافة المطبوعة والرقمية وغيرها، ويتمتع المجلس بالاستقلال الفني والمالي والإداري في ممارسة اختصاصاته، ولا يجوز التدخل في شؤونه".

ومن فضلك لا تتعجب عزيزي القارئ، وأنت تتابع قراءة ما جاء في الرسالة، والحديث عن نص المادة الثالثة من القانون ذاته، لا سيما البندين الثالث والرابع: "يهدف المجلس الأعلى إلى ضمان وحماية حرية الصحافة والإعلام في إطار المنافسة الحرة...".

والمثير للضحك حتى البكاء، أن تتحدث سلطة الادعاء ممثلة بالنائب العام، وهي التي منعت خلال العام من التغطية 45 حالة، ومنعت من الكتابة 15 حالة، وحظرت من النشر 13 حالة حتى كتابة هذه السطور، بحسب تقرير للمرصد العربي لحرية الإعلام (الذي يطال موقعه الحجب في مصر، ضمن أكثر من 500 موقع إلكتروني، ومواقع لمنظمات حقوقية عديدة منها موقع منظمة مراسلون بلا حدود، وهيومن رايتس ووتش، وموقع مدى مصر وغيرها)، سلطة الحجب نفسها تتحدث في قرار الاتهام عن حق المواطن في المعرفة، مع الإشارة لواجب هذا المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بضمان حماية وحرية الصحافة. وهنا رفع السيد رئيس مجلس الإعلام الصوت عاليا (ودون خجل): "الأمر الذي يدفعني للاستقالة أنني لا أستطيع خدمة رؤية السيسي؛ فسبب استمرارى في منصبي هو ثقة السيسي في شخصي لإصلاح أوضاع الإعلام بمصر".

إذن الرجل لا يجد غضاضة في إبداء مثل هذه الأقوال، ولا أعرف لمن تكون الغلبة في هذه اللحظة الحالكة للصراع المؤسسي حول "صلاحيات سلطة حظر النشر"، خاصة في قضايا الفساد التي تجعلنا على قناعة تامة بأننا أمام مشهد عبثي، تتصارع فيه السلطات والمؤسسات على فريسة واحدة. وكما قال جان جاك روسو: "ما من شيء قويٍّ، ولا من شيء عظيمٍ؛ يمكن أن ينساب من قلمٍ أجير"!

حقّا إنه لمن المخزي أن تكون ملكيّا أكثر من الملك، وتنحاز لسلطة الرقابة والقمع والتنكيل على حساب قيم المهنة وقضايا استقلالها. ولعل الرسالة وصلت مؤخرا لرئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في سباقه وحرصه الشديد على تقديم قرابين الطاعة والولاء أمام هيكل السيسي. إنه لعار على مثل هؤلاء؛ ففي الوقت الذي لم نسمع لهم ولا لمؤسساتهم أي صوت يساند قضايا الدفاع عن حرية الإعلام والعمل الصحفي في مصر، يواجه الصحفيون مخاطر تاريخية ووقتا عصيبا؛ يخوض فيه الصحفيون معركتهم النقابية حول قانون إعدام الصحافة، الذي يعد في نظر الكثيرين إعداما غير رحيم لمهنة الصحافة في مصر، والنعش التشريعي الأخير لصاحبة الجلالة. انظر إلى تلغيم نصوصه الفضاضة التي تسمح بحبس الصحفيين في قضايا النشر والعمل الصحفي، ناهيك عن استهدافه المباشر للعمل النقابي والمهني، وإطلاق يد السلطة في إلغاء دور المؤسسات الإعلامية والصحفية أو دمجها؛ انسياقا وراء رغبة جامحة للسلطة في فرض هيمنتها المطلقة، وتمدد موظفيها في النقابات والمجالس بالتعيين المباشر، مع تقليص أعداد الصحفيين المنتخبين؛ تمهيدا لخنق وتأميم شامل لنقابة الصحفيين.

ولعل ما لم يدركه رئيس المجلس، وتضمنته تلميحات قرار النائب العام، وفي ظل ظروف تصاعد معركة نقابة الصحفيين، التي قد تدفع السلطة إلى البحث عن نقطة توازن في لعبة شد الحبل لتجنب مردوداتها العكسية، أن قرار النائب العام هذا ما هو إلا تهدئة لحظية، مع الحاجة لتجديد بعض الوجوه، وفتح مجال لبعض المقاربات. وما بين لحظة صدام أو لحظة تهدئة، تدور تكتيكات السلطة وتعيد رسم خطط تغلغلها في جسد العمل النقابي، وربما تحتاج لإعادة صياغة استراتيجيات، وتجديد بعض الرسائل كدأبها في لعبة التوازنات والمقايضات.

الحق، إن ما يليق بالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، كمراقب خط وليس كلاعب أساسي، أن يجد لنفسه متسعا من الوقت ليتابع في صمت كعادته المعركة الوجودية للصحفيين، فضلا عن متابعة دورية واجبة، وفي صمت أيضا، لعودة زوار الفجر لبيوت الصحفيين والصحفيات، وبعلاقات الود مع الجهات الأمنية، على المجلس أن يدل أهل الصحفي محمد سعيد فهمي، الصحفي بجريدة الدوريات العربية وقبلها بجريدة الشروق، الذي تم اعتقاله فجر الجمعة واقتياده لجهة غير معلومة حتى الآن. وفجرا، وباليوم ذاته، تم اقتحام منزل الصحفية ميرفت الحسيني واعتقالها، واقتيادها أيضا إلى جهة غير معلومة حتى الآن، وغيرهما عشرات من الصحفيين الشجعان خلف القضبان.

هذا مشهد وواقع التنكيل بكل صحفي مقاوم للاستبداد في معسكر شرفاء الصحفيين، يُعاقب لا لجرم سوى البحث عن الحقيقية، وإخبار الناس، وذلك ما يصعب فهمه على حراس البوابات.

هذه هي المعركة الحقيقية، لا صراع سلطات الحظر والحجب، تلك المعركة التي تستخدم فيها السلطة كل أدوات القمع والتنكيل؛ لمصادرة المجال العام، وفرض الترهيب والتركيع والتضييق في لقمة العيش، والتهديد في مصادر رزق آلاف من الصحفيين، وهي معركة النفس الطويل، وحلقة في نضال نقابي وطني مستمر، ولم يتوقف عبر سنوات، ولن يتوقف. وانتصار الصحفيين ضد قانون سلطوي في زمن مبارك ليس بالبعيد.

يجب أن ندرك - يا سادة - أنها ليست معركة الصحفيين وحدهم ضد قانون جائر، بل هي معركة كل مناضل من أجل حق المجتمع في الوصول للمعلومة، وتحصيل المعرفة السليمة دون تعتيم أو تزييف أو تضليل، وهي معركة كل مدافع عن الحق في ممارسة النقد الموضوعي والمسؤول؛ لخدمة الصالح العام، ولتنمية المجتمعات، فلا تطور أو تنمية لمجتمعات مغيبة، أو يُراد لها التغييب، وحرمانها من الأوكسجين بفرض الرقابة الذاتية عليها، أو بتسطيح وتهزيل وعيها الجمعي. فلا معنى ولا وجود ولا مكان لمثل تلك المجتمعات في عصر السماوات المفتوحة، وثورة علوم المعرفة والإنترنت المذهلة، وتصاعد تحديات الذكاء الاصطناعي، وهي مقومات عصر بطبيعته وفرضيته مقاوم لسياسات إعلام الرأي الواحد والصوت الواحد، ومخرجاته من إنسان مكبل كناقص الأهلية، عديم القدرة والكفاءة والتمييز.

وعلى الرغم من التحفظ على الأداء المهني لبعض المنابر الإعلامية في الخارج، وحاجتها لمزيد من الجهد في بناء قدرات الصحفيين ومعدي البرامج ورؤساء التحرير، لكن يبدو أنها نجحت في كسر مفهوم الهيمنة شبه المطلقة للسلطة، وتحالفات رجال المال والأعمال المقربين، وفتحت هامشا لا بأس به للنقد، ووفرت لشريحة من المشاهدين مصادر أخرى وقراءة مختلفة للخبر، الأمر الذي قد يفرض تكتيكات مغايرة في معركة الهيمنة المطلقة.
التعليقات (0)