أفكَار

إسلاميو موريتانيا بين الانحياز لقيم الديمقراطية ورفضها

التيار العريض من الإسلاميين المورتانيين انحاز للديمقراطية قولا وعملا
التيار العريض من الإسلاميين المورتانيين انحاز للديمقراطية قولا وعملا
لم يأخذ موضوع تحالفات الإسلاميين السياسية حظّه من البحث والدراسة، وذلك لأسباب عديدة منها طول أمد العزلة السياسية التي عاشها الإسلاميون بسبب تحالفات النظم الحاكمة مع بعض القوى السياسية ،واستثناء الإسلاميين من هذه التحالفات، بناء على قواسم أيديولوجية مشتركة بين الأنظمة ونلك التيارات.

لكن، مع ربيع الشعوب العربية، ومع تصدر الحركات الإسلامية للعمليات الإنتخابية في أكثر من قطر عربي، نسج الإسلاميون تحالفات مختلفة مع عدد من القوى السياسية داخل مربع الحكم، وترتب عن هذه التحالفات صياغة واقع سياسي موضوعي مختلف، ما جعل هذا الموضوع  يستدعي تأطيرا نظريا على قاعدة رصد تحليلي لواقع هذه التحالفات: دواعيها وأسسها وصيغها وتوافقاتها وتوتراتها وصيغ تدبير الخلاف داخلها، وأدوارها ووظائفها، وتجاربها وحصيلتها بما في ذلك نجاحاتها وإخفاقاتها.

يشارك في هذا الملف الأول من نوعه في وسائل الإعلام العربية نخبة من السياسيين والمفكرين والإعلاميين العرب، بتقارير وآراء تقييمية لنهج الحركات الإسلامية على المستوى السياسي، ولأدائها في الحكم كما في المعارضة.

اليوم يعرض أستاذ العلوم السياسية بالجامعات الموريتانية رئيس المركز المغاربي للدراسات الاستراتيجية في نواكشوط الدكتور ديدي ولد السالك، لتجربة الإسلاميين في موريتانيا:

إسلاميو موريتانيا بين الانحياز لقيم الديمقراطية ورفضها

يمثل الإسلام أحد أهم مكونات الهوية الثقافية الموريتانية؛ لاعتناق أغلبية ساكنتها الإسلام وتدين مجتمعها بمسحة صوفية، حيث كانت إحدى طبقات المجتمع الموريتاني تتوارث احتكار تفسير الدين؛ وإعادة تأويل نصوصه وهي طبقة "الزوايا "، هذا الاحتكار لتأويل نصوص الدين؛ الذي كان أحد ثوابت المجتمع الموريتاني، جاءت الحركة الاسلامية في مطلع السبعينات لكسره باعتباره مخالفا للدين ذاته، وهو ما سمح لكثير من أفراد طبقات المجتمع الموريتاني باحتضان الاسلام السياسي باعتباره وسيلة  للتعبد الصحيح، والترقي الاجتماعي في نفس الوقت.

وقد بدأت مدارس الإسلام السياسي تتمايز في أواخر الثمانينات: إلى تيار الإخوان المسلمين، والتيار السلفي، الذي سرعان ما انقسم ـ بدوره ـ الى سلفية جهادية؛ وسلفية إصلاحية أقل  تشددا، مما يعني في المحصلة النهائية تواجد تيارين يمثلان الإسلام السياسي في موريتانيا، تتباين مواقفهما وأهدافهما من العمل السياسي بشكل عام والممارسة الديمقراطية بشكل خاص، أحدهما انخرط في الممارسة الديمقراطية وقبل بقيمها، والآخر قبلها شكلا ورفض مضامينها، وهذه المواقف والحضور المكثف للإسلام السياسي بمختلف تياراته في الساحة السياسية بموريتانيا، مازال يثير مخاوف بين الأطراف السياسية، وإن كان الذي يهمنا في هذه المعالجة، هو موقف الإسلام السياسي في موريتانيا، من قيم  الديمقراطية وطرق تعامله مع مختلف مكونات الحقل السياسي ومتطلبات وأدوات العمل فيه؟
 
الإخوان: من الدعوي إلى السياسي 

انتقل الإخوان المسلمون في موريتانيا من التركيز على الجانب الدعوي إلى العمل المنظم ابتداء من 1978، من خلال الجمعيات الثقافية؛ والنوادي الشبابية والهيئات الخيرية، ومع توسع نشاط هذا التيار، ظهر لديه طموح سياسي متزايد، برز أكثر مع بداية المسلسل الديمقراطي 1991، من خلال مشروع حزب "الأمة" الذي رفضت السلطات الإعتراف به .


وقد مثل انتخاب الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله 2007 منعطفا في تاريخ الإسلامي السياسي في موريتانيا، حيث قام بالترخيص لحزب التجمّع الوطني للإصلاح والتنمية (تواصل) ذي الخلفية الإخوانية فحقق بذلك هدفين: تعزيز الإنفتاح الديمقراطي، واحتواء الإسلام السياسي، حيث قبل حزب تواصل 2008 الدخول في حكومة ائتلافية .

السلطة تجدد المواجهة مع تيار الإسلام السياسي

 تجدد النقاش حول الإسلام السياسي في موريتانيا، الذي برز في الفترة الأخيرة بقوة ـ إلى واجهة الأحداث، نتيجة تضييق السلطة الموريتانية على حزب "تواصل"، واستهداف المؤسسات القريبة منه، إلى جملة من العوامل، يأتي على رأسها:

ـ قوة تواجد هذا التيار في الحياة العامة وتصدره لواجهة الأحداث السياسية منذ انطلاق الحراك الإجتماعي والسياسي الذي صاحب "الربيع العربي"؛ مما جعل  خصومه يتهمونه بأنه يملك أذرعا متنوعة ومتعددة .

ـ منافسة حزب "تواصل" القوية للحزب الحاكم في انتخابات 1 سبتمبر 2018، واحتلاله المركز الثاني متقدما صدارة احزاب المعارضة.
ـ  تخندق السلطة في موريتانيا إلى جانب الدول العربية التي تقود الثورة المضادة، الرامية إلى القضاء على مخرجات "الربيع العربي"، وبالذات تيار الإسلام السياسي، الذي توسع حضوره في الحياة السياسية مع  هذا "الربيع".

ـ محاصرة الشيخ محمد الحسن ولد الددو وغلق المؤسسات العلمية التابعة له، على خلفية موقفه من الأزمة في الخليج المناقض للتوجه الموريتاني الرسمي .

"تواصل" انحاز للديمقراطية

يعتبر حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل" هو الواجهة الرئيسية للإسلام السياسي في موريتانيا، فهو الحزب الأول على مستوى المعارضة، والحزب الثاني على المستوى الوطني، من حيث الشعبية، والتمثيل البرلماني، وهو يمتلك قدرة ملحوظة على التعبئة لاسيما في الأوساط الشبابية، وحضورا معتبرا في ميادين العمل الإجتماعي والثقافي، ويحسب لتيار الإسلام السياسي في موريتانيا، أنه خرج من الجدل الدائر بين تيارات الإسلام السياسي، حول هوية وشكل الدولة الإسلامية، وطريق الوصول للسلطة، بمواقف حاسمة ليس فيها تردد، من خلال ممارساته ومواقفه السياسية التي أعلن عنها في بعض وثائقه، ومن تلك الوثائق، وثيقة تأسيس مبادرة "الإصلاحيين الوسطيين"، التي انبثق عنها حزب "تواصل"، وكذلك الوثائق والبيانات الكثيرة التي أصدرها حزب "تواصل" بعد تأسيسه.

يمكن استخلاص المنطلقات النظرية والفكرية، التي تعبر عن الموقف من الديمقراطية والممارسة السياسية، كما جاءت في تلك الوثائق كما يلي:

1 ـ الحسم لصالح الدولة المدنية: لقد حسم حزب "تواصل" موقفه لصالح الدولة المدنية، مع تمسكه بالمرجعية الإسلامية، من خلال: إقراره بعدم التعارض بين الدولة المدنية والمرجعية الإسلامية، وإعلانه الخروج من فكرة "الحاكمية"، التي سيطرت على فكر أغلبية تيارات الإسلام السياسي خلال العقود الخمسة الماضية، وإعلان التشبث بقيم حقوق الانسان، والقطيعة مع فكرة الخلافة الإسلامية لصالح الدولة الوطنية. 
 
2 ـ  تبني الخيار الديمقراطي، باعتباره الخيار الوحيد للتداول على السلطة، مما يعني التأسيس على أهم عامل لضمان الممارسة الديمقراطية.

3 ـ الحسم لصالح الإنتماء الوطني: حيث يحاول حزب "تواصل" بلورة مواقفه ورؤاه من القضايا الوطنية، وبإعلانه الإنحياز لتلك القضايا، يكون حزبا وطنيا، خرج من نطاق الأممية.

التيار السلفي والديمقراطية

لقد أثار إعلان مجموعة من التيار السلفي في موريتانيا عن نيتها تأسيس حزب سياسي باسم "جبهة الأصالة والتجديد"، جدلا واسعا في الساحة السياسية الموريتانية، تراوحت بين الترحيب والرفض المطلق، وردا على ذلك، حاول محفوظ ولد إدومو، المتحدث باسم التيار السلفي في موريتانيا، تبديد مخاوف البعض، قائلا: "إن رغبتهم في دخول معترك السياسة يعكس إيمانهم بضرورة الإحتكام إلى الوسيلة التي أصبحت الطريق الوحيد لحكم الناس وهي ما يسمونها في أديباتهم بالعملية السياسية"، وقد رحب البعض بهذا الموقف، في حين استند البعض في مخاوفه من الحزب الجديد، على قول هذا الناطق نفسه: "إننا نسعى إلى تحكيم شرع الله عن طريق مشروع حزب قيد التأسيس أطلقنا عليه جبهة الأصالة والتجديد، فالناس بحاجة لتطبيق الشريعة الإسلامية لتحقيق العدالة الحقيقية".

مخاوف الديمقراطيين

ويمكن إجمال مخاوف المهتمين بالديمقراطية في موريتانيا من التيار السلفي في :

1 ـ إمكانية توظيف حزب التيار السلفي، في لعبة التشويش على حزب "تواصل" ، المؤمن بقيم الديمقراطية والملتزم بجدية بممارستها في داخله وفي علاقاته مع مختلف اطراف الحقل السياسي الوطني. 

2 ـ إن التيار السلفي لا يؤمن بالمبادئ الأساسية لقيم الديمقراطية، لرفضه مبدأ التعددية الفكرية وحرية الرأي والمعتقد.

3 ـ إن التيار السلفي  خطر على الديمقراطية، فبعضهم يؤمن بإمكانية الوصول إلى السلطة بالقوة، والبعض الآخر  يدعو إلى "طاعة ولي الأمر"، في حين أن معارضة الحاكم بالطرق السلمية، من أهم الركائز التي تقوم عليها الممارسة الديمقراطية .

4 ـ إن وجود حزب سياسي سلفي، لا يؤمن بالهوية الوطنية وما يترتب عليها من الناحية القانونية، قد يتم توظيفه لتنفيذ أجندات بعض الأطراف الأجنبية. 

خلاصة القول، إن تيار الاسلام السياسي العريض ممثلا في حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل"، انحاز لصالح الديمقراطية قيما وممارسة، وأصبح جزءا فاعلا في المشهد السياسي الموريتاني، بينما ظل جزء من التيار الإسلام السياسي ـ ممثلا في التيار السلفي ـ ممانعا في قبول قيم الديمقراطية وإن كان قبل بها شكلا، رغم محدودية حضوره في المشهد السياسي، وتأثيره في مسار الأحداث، ومع ذلك سيبقى يشكل خطرا على تقدم الممارسة الديمقراطية في موريتانيا، لرفضه قيم الديمقراطية، وامكانية توظيفه من قبل النظام ضد الأحزاب السياسية الديمقراطية للتشويش عليها أو توريطها.

*رئيس المركز المغاربي للدراسات الاستراتيجية
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم

خبر عاجل