مقالات مختارة

الحقيقة من وراء حملة التشهير التي تشن بلا هوادة ضد جريمي كوربين

جوناثان كوك
1300x600
1300x600

يُنظر إلى استطلاعات الرأي التي تجري في نهاية العام الميلادي على أنه وسيلة مرغوبة لقياس التوجهات الاجتماعية والسياسية المهمة خلال العام المنصرم، وللتنبؤ بالمسار الذي يتوقع اتخاذه خلال العام المقبل.  إلا أن استطلاعا حديثا أجري في أوساط اليهود الأوروبيين – وهو الاستطلاع الأضخم من نوعه في العالم – يجري استخدامه لرسم صورة مضللة جدا للمجتمع البريطاني، وللحديث عن وجود مشكلة ظاهرة لشكل من أشكال معاداة السامية في أوساط اليسار.

هل هناك فعلا مشكلة معاداة السامية؟


قام بإجراء استطلاع الرأي وكالة الحقوق الأساسية التابعة للاتحاد الأوروبي، وحظي بتغطية واسعة في صحيفة الغارديان اليومية البريطانية ذات التوجه الليبرالي اليساري. سلطت الصحيفة الضوء على جانب من الحياة، كان سجل بريطانيا فيه هو الأسوأ من بين جميع الدول الاثنتي عشر التي شملها الاستطلاع.

يعتقد أربعة وثمانون بالمائة من اليهود في بريطانيا بوجود مشكلة كبيرة تتعلق بمعاداة السامية في الحياة السياسية البريطانية. ونتيجة لذلك، يقول ثلث هؤلاء بأنهم فكروا بالهجرة – معظمهم ربما إلى إسرائيل، حيث يمنح قانون العودة سياسة الباب المفتوح أمام جميع اليهود في العالم.

كانت الدرجات التي حصلت عليها بريطانيا في الاستطلاع أفضل بقليل فقط فيما يتعلق بالمؤشرات غير السياسية. عبر خمسة وسبعون بالمائة من العينة المستطلعة عن قناعتهم بأن ثمة مشكلة في بريطانيا فيما يتعلق بمعاداة السامية، مقارنة بثمانية وأربعين في المائة قالوا الكلام نفسه في استطلاع عام 2012. وجاء متوسط النسبة في الدول الاثني عشر التي تعيش فيها جاليات يهودية كبيرة نسبيا قريباً من سبعين في المائة.

منذ أن انتخب زعيما لحزب العمال في بريطانيا قبل ما يزيد عن ثلاثة أعوام، واجه جيريمي كوربين وابلا من الانتقادات، بسبب ما يزعم من وجود مشكلة معاداة السامية داخل حزبه. وكانت صحيفة الغارديان في مقدمة من اتهموا كوربين إما بعدم المبالاة بتصاعد معاداة السامية داخل حزب العمال أو بالمساعدة على انتشارها بشكل فعال.

والآن، حظيت الصحيفة بشخصية سياسية أوروبية كبيرة تتبنى مزاعمها وترددها.

اللعب بالنار

اعتمادا على نتائج الاستطلاع، ذهبت فيرا جوروفا، مفوضة الاتحاد الأوروبي لشؤون العدل، توضح ما الذي تعنيه النتائج البريطانية المريعة في المجال السياسي. ولقد نقلت عنها الصحيفة القول بحق كوربين: "دوما أستخدم عبارة دعونا لا نلعب بالنار، دعونا نعي ما الذي حصل في الماضي، ودعونا لا نرتكب نفس خطأ التسامح مع ذلك. لا يكفي الصمت، وأرجو أن ينتبه (أي كوربين) إلى ما ورد في هذا الاستطلاع".

إلا أن تحذيرات جوروفا والانطباع الظاهر في أوساط اليهود البريطانيين بوجود مشكلة معاداة سامية يسعرها كوربين، لا تقف على أرض صلبة ويدحضها الدليل من عالم الواقع.

تظهر استطلاعات أخرى أنه حينما يقيم من خلال مواصفات موضوعية، فإن حزب العمال البريطاني يحرز نقاطا مرتفعة. فالنسبة المئوية للأعضاء الذين يحملون آراء معادية للسامية، أقل بكثير مما هو موجود داخل حزب المحافظين وقريب مما هو موجود داخل الحزب البريطاني الثالث، حزب الأحرار الديمقراطيين.

فعلى سبيل المثال، يبلغ عدد أعضاء حزب المحافظين الذين يصدقون المقولات المعادية للسامية ضعف عدد من يصدقها من أعضاء حزب العمال. والأهم من ذلك أن نسبة أعضاء حزب العمال الذين يحملون مثل هذه التحيزات، تراجع بشكل كبير في أوساط الحزب منذ أن أصبح كوربين زعيما له.

ويمكن من هذه الحقيقة استنتاج أن الأعضاء الجدد الذين انضموا إلى الحزب بعد استلام كوربين لزعامته – حيث تحول حزبه بفضل العدد الهائل من المنضمين الجدد إلى عضويته، إلى أضخم حزب سياسي في أوروبا – أقل نزوعا نحو معاداة السامية، مقارنة بأولئك الذي انضموا إلى الحزب تحت زعامة القادة السابقين له.

بمعنى آخر، تشير الأدلة وبشكل قطعي إلى أن كوربين كان بمنزلة قوة اجتثاث، أو على الأقل تخفيف، للآراء المعادية للسامية التي كانت موجودة، وبشكل هامشي، داخل حزب العمال. وكان تأثيره أكبر بكثير حتى من الزعيم السابق إد ميليباند، الذي هو نفسه يهودي.

ومع ذلك، مضى كل ذلك دون أن يحظى بأدنى إشارة من قبل صحيفة الغارديان أو غيرها من وسائل الإعلام البريطانية، التي ما فتئت على مدى ثلاثة أعوام تزعم بوجود مشكلة معاداة سامية داخل حزب العمال تحديدا، وذلك دون أن تقدم على ذلك أدنى دليل.

انبعاث القومية البيضاء

يوجد لدى اليهود ما يبرر شعورهم بالتهديد في معظم أوروبا في هذه اللحظة بالذات، وخاصة مع عودة القوميات الإثنية، التي افترض الكثيرون بأنه تم التخلص منها تماما بعد الحرب العالمية الثانية. ويبدو أن بريكسيت – خطة بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي – قد ساهمت فعلا في إطلاق أو تجديد المشاعر القومية في أوساط قطاعات من السكان داخل بريطانيا.

إلا أن مثل هذه التحيزات تسود في التيار اليميني لا اليساري. ومن المؤكد أن كوربين، الذي قضى حياته مناضلا ضد العنصرية وبشكل بارز جدا، لم يعهد عنه تشجيع النزعات أو المسالك القومية.

ما تفترضه صحيفة الغارديان وبقية وسائل الإعلام التي على نهجها، وتفترضه كذلك جوروفا، هو أن زيادة القلق في أوساط يهود بريطانيا إزاء معاداة السامية في الحياة السياسية، يرتبط حصريا بكوربين ولا يعبر عن مشكلة مختلفة تماما؛ مشكلة تتعلق بتصاعد الحس القومي داخل التيار اليميني.

ولكن دعونا نفترض أنهم على صواب في اعتبار أن الاستطلاع يسجل فقط ما يراود اليهود من مخاوف إزاء كوربين تحديدا. تتضمن نتائج الاستطلاع الذي أجراه الاتحاد الأوروبي ما يثبت أن رأي اليهود بشأن معاداة السامية وكوربين، قد لا يكون بالبساطة التي اقترحتها جوروفا في مداخلتها – وكيف يمكن استنباط الاستنتاجات الخاطئة من النتائج.

يوجد مدفونا في أعماق تقرير الغارديان نتيجة متناقضة – من المجر.

المتناقضة المجرية

مما لا شك فيه أن المجر بلد يواجه فيه اليهود والأقليات الأخرى خطرا يحدق بسلامتهم. لقد استغل رئيس وزرائها اليميني المتطرف فيكتور أوربان الانتخابات العامة في شهر إبريل / نيسان الماضي، ليثير مشاعر معادية ضد لليهود. وقرر أن يضع الملياردير اليهودي، المجري المولد، جورج سورس في المركز من حملة شنها ضد المهاجرين، معلنا أن ذلك الثري المحسن كان يستغل أحزاب المعارضة ويتلاعب بها بهدف إغراق البلد بالأجانب. وقامت حكومته في الأيام التي سبقت إجراء الانتخابات برفع لوحات إعلانية ضخمة في مختلف أرجاء البلاد، يظهر فيها جورج سورس مقهقها وإلى جانبه كتبت عبارة: "لا تسمحوا لسورس بأن تكون الضحكات الأخيرة من نصيبه."

في خطاب يفوح بمعاداة السامية من العصور كافة، أعلن أوربان في مهرجان انتخابي، "إننا نقاتل عدوا يختلف عنا. ليس منفتحا، بل في حالة من التخفي، ليس مستقيما، وإنما يغلب عليه المكر والدهاء، ليس صادقا، بل الحقارة ديدنه، ليس محليا، بل ذو أبعاد دولية، لا يؤمن بالعمل، وإنما يقامر بالمال، لا يملك وطنا خاصا به، ومع ذلك يتصرف كما لو كان يملك العالم بأسره."

كان ينبغي أن يُرى كل ذلك في سياق الإشادة التي أطلقها أوربان مؤخرا بالزعيم المجري السابق ميكلوس هورثي، الذي كان حليفا لهتلر. فقد وصفه أوربان برجل الدولة المتميز. فهل عبر يهود المجر لمن أجروا الاستطلاع من الاتحاد الأوروبي عن مخاوف تراودهم على سلامة جاليتهم؟ الغريب في الأمر أنهم لم يفعلوا ذلك. في واقع الأمر، كانت نسبة من اعتبروا معاداة السامية مشكلة في المجر أعلى بقليل من متوسط النسبة على مستوى الاتحاد الأوروبي، وأقل بكثير من المخاوف التي عبر عنها يهود فرنسا.

ليس هذا فحسب، بل انخفضت نسبة يهود المجر الذين عبروا عن تخوفهم من معاداة السامية على مدى السنين الست الماضية، حيث يرى اليوم سبعة وسبعون بالمائة منهم أن معاداة السامية مشكلة، مقارنة بتسعة وثمانين بالمائة في عام 2012، عندما أجري الاستطلاع السابق.

وبهذا تغدو نتائج الاستطلاع أكثر من مجرد مربكة. فمن ناحية، وبحسب ما تورده وسائل الإعلام البريطانية ودوائر الاتحاد الأوروبي، يعيش يهود بريطانيا في حالة من الرعب بسبب ما يجري داخل حزب العمال البريطاني، رغم أن الدليل يثبت بأن مشكلة معاداة السامية، التي هي في الأصل هامشية، أخذة في الانحسار.

ومن ناحية أخرى، تتضاءل مخاوف يهود المجر من معاداة السامية، رغم أن الدليل يثبت أن معاداة السامية في تصاعد، وأنها هناك متبناة من قبل الحكومة نفسها.

تواجه أجندة كوربين، التي تتبنى نمطا مخففا من الاشتراكية، معارضة شرسة من طيف متعدد من الخصوم، بما في ذلك قطاع الأعمال البريطاني، والمؤسسات الإعلامية البريطانية الكبرى ومن ضمنها تلك التي توصف بالليبرالية، وبشكل خاص في هذه الحالة الحكومة اليمينية المتطرفة في إسرائيل برئاسة بنيامين نتنياهو.

تخشى المؤسسة الحاكمة في بريطانيا من أن يشكل كوربين تحديا لمزيد من التغلغل الذي يمارسه التيار الليبرالي الجديد، الذي تستفيد مؤسسة الحكم من وجوده. أما السياسيون الإسرائيليون فيحقدون على كوربين لأنه جعل من دعم الشعب الفلسطيني ركنا من أركان برنامجه السياسي، بحيث أصبح أول زعيم أوروبي يمنح حق الفلسطينيين في العدالة، الأولوية على حق إسرائيل في الحفاظ على احتلالها للأراضي الفلسطينية والمستمر منذ واحد وخمسين عاما.

في المقابل، يعشق قطاع الأعمال والتجارة رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، كما تحبه وسائل الإعلام الكبرى في البلاد، والأهم من ذلك أنه محبوب لدى الحكومة الإسرائيلية. وبدلا من أن ينأى بنفسه عن أوربان وعن حملاته الانتخابية التي تتصيد اليهود في الجر، بادر نتنياهو إلى دعمه وإقراره على ما بدر منه، ووصف أوربان بأنه "صديق حقيقي لإسرائيل" وشكره "لدفاعه عن إسرائيل"، وانضم إلى الزعيم المجري في التنديد بسورس.

مثله في ذلك مثل أوربان، يمقت نتنياهو ليبرالية سورس ودعمه لسياسة الحدود المفتوحة، ويشاطر نتنياهو أوربان مخاوفه من أن تدفق المهاجرين، سوف يعيق جهوده التي تهدف إلى جعل دولته قدر المستطاع أمة نقية عرقيا.

فعلى سبيل المثال، زعم نتنياهو في وقت مبكر من هذا العام أن سورس يمول منظمات حقوق الإنسان لمساعدة طلاب اللجوء الأفارقة في إسرائيل الإفلات من برنامج الحكومة لإبعادهم. يوجد لدى نتنياهو العديد من الأسباب العملية والعقائدية التي تجعله يدعم ليس فقط أوربان، بل وأيضا الجيل الجديد من الزعماء المتطرفين قوميا، الذين سطع نجمهم في دول مثل بولندا وإيطاليا وفرنسا وفي غير ذلك من الأقطار.

العداء للمسلمين

إن المستهدف الأساسي من قبل التيارات القومية في الدول الأوروبية، هم المهاجرون المسلمون والعرب الذي يصلون من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع أن اليهود المحليين قد لا ينجون في المستقبل من أي عمليات تطهير تمارس ضد الأجانب.

ولهذا السبب، يغلب أن يتعاطف الزعماء القوميون المتطرفون في أوروبا مع إسرائيل وينحازون إليها بشأن مشكلتها مع العرب والمسلمين، وخاصة أن نتنياهو واليمين الإسرائيلي تمرسوا في تصوير الفلسطينيين كما لو كانوا مهاجرين بدلا من كونهم السكان الأصليين في البلاد.

كما يرغب نتنياهو في رؤية أوروبا وقد شلتها الخلافات السياسية، حتى تعجز عن الضغط باتجاه حل الدولتين، وهو الأمر الذي ما فتئت تقوم به ولكن بلا جدوى منذ سنين، وحتي تصبح عاجزة عن الاتفاق على تمويل جهود نشطاء حقوق الإنسان، التي يقصد منها حماية حقوق الفلسطينيين، وتغدو أضعف من أن تتمكن من تبني إجراءات عقابية ضد إسرائيل.

ولكن الأهم من ذلك كله هو أن نتنياهو واليمين الإسرائيلي بإمكانهم التوافق مع النظرة لليهودي المعادية للسامية، التي يشترك فيها غلاة القوميين في أوروبا. مع ملاحظة أن تلك الجماعات اليمينية المتطرفة، تعتبر اليهود غرباء وجالية منفصلة لا قبل لها بالاندماج أو بالتعايش السلمي بين ظهرانيهم، جالية لديها ولاءات منفصلة ينبغي تشجيعها على المغادرة أو إخراجها لتذهب للعيش في مكان آخر.

نتنياهو يوافق على ذلك. فهو أيضا يعتقد بأن اليهود جماعة مختلفة، وأنهم شعب متميز ومنفصل، وأن ولاءهم الأول ولاء قبلي، ولاء لعشيرتهم هم، وليس للدول الأخرى، وأنهم في واقع الأمر ما ينبغي لهم إلا أن يعيشوا في وطنهم، حيث يصبحون يهودا ملتزمين، في إسرائيل، في وطنهم الحقيقي.

أشار أستاذ الأجناس والأعراق في بودابيست زوفيا كاتا فينش مؤخرا إلى التقارب العقائدي ما بين صهيونية نتنياهو وقومية أوربان المجرية المسيحية قائلا: "لقد وجدا بكل سهولة لغة مشتركة. لقد استمرا في الحديث عن القيم المشتركة، وهي القومية، والخصوصية ... النقاء المجري، والنقاء اليهودي .... في مواجهة الآخرين".

يهود جزئيا فقط

 

في واقع الأمر، تجد آراء نتنياهو رواجا في إسرائيل. قبل سنوات معدودة أثار المؤلف الإسرائيلي الليبرالي الشهير إيه بي يهوشوا حفيظة اليهود الأمريكان، عندما قال إنهم بإمكانهم فقط أن يكونوا ما يمكن أن يطلق عليه "اليهود جزئيا" ماداموا خارج إسرائيل. وقال متحدثا عن الفرق الفاصل بينهم وبين اليهود الإسرائيليين: "لسنا بحال نفس الناس – نحن يهود بالكلية وهم يهود جزئيا". ووصف رفض جميع اليهود العيش داخل إسرائيل والتحول إلى يهود كاملين، بأنه فشل عميق جدا للشعب اليهودي.

ما من استطلاع للرأي إلا وتتجلى فيه العنصرية المتفشية بين الإسرائيليين تجاه غير اليهود. وبحسب ما ورد في استطلاع أجري هذا الشهر، فإن أكثر من نصف اليهود الإسرائيليين – أو أولئك الذين هم على استعداد للاعتراف بذلك – يعتقدون بأن "معظم اليهود أفضل من معظم غير اليهود لمجرد أنهم ولدوا يهودا". فقط خمس المستطلعة آراؤهم عارضوا هذه الفرضية ورفضوها. قال أربعة وسبعون بالمائة بأنهم ينزعجون حينما يسمعون العربية، التي هي لغة خمس سكان البلاد، أي المواطنون الإسرائيليون من أصول فلسطينية. وقال ثمانية وثمانون بالمائة بأنهم ما كانوا ليرضوا بأن يصاحب ابنهم فتاة عربية.

وفي استطلاع آخر منفصل أجري هذا الشهر، جاء الإسرائيليون بعد اليونانيين مباشرة في آرائهم المعادية للمهاجرين، وذلك من بين سبعة وعشرين دولة شملها الاستطلاع – وبذلك يكون الإسرائيليون قد تفوقوا في ذلك على المجريين أنفسهم.

بالطبع، عندما يتحدث الإسرائيليون عن المهاجرين فإنهم يقصدون غير اليهود، ولذلك لا يعتبرون ملايين اليهود الذين وصلوا إلى إسرائيل من أوروبا والأمريكيتين خلال العقود الماضية مهاجرين، بل يعتبرونهم "أوليم" أو أولئك الذين "ارتقوا" إلى إسرائيل، على افتراض أنهم عادوا إلى وطنهم الذي منحته لهم التوراة.

هذا التقارب والتجاذب ما بين القومية المتطرفة في أوروبا والقومية الصهيونية الغالية السائدة في إسرائيل، هو الذي يفسر لماذا يوقر اليمين المتطرف في أوروبا إسرائيل بينما يحتقر اليهود، ولماذا يفضل كثير من الإسرائيليين أوربان على سورس.

كما يفسر بالطبع لماذا يبغض نتنياهو ومعظم الإسرائيليين كوربين.

دور إسرائيل

لا يتوقف الأمر على أن كوربين يقدم أجندة سياسية محلية جامعة، على النقيض من أجندة أوربان في أوروبا، ولكن الأسوأ من ذلك أنه يرفض القعود عن مواجهة إرث أوروبا من العنصرية والاستعمار.

كان اليهود تاريخيا هم الضحايا الأهم للعنصرية في أوروبا. أما اليوم، فقد تم توجيه العنصرية الأوروبية نفسها لتتحول إلى دعم محموم لإسرائيل، على افتراض أنها باتت الملاذ الآمن لليهود مقابل حالة من اللامبالاة تجاه الفلسطينيين، الذين ما لبثوا يعانون منذ عقود التشريد والاضطهاد على أيدي إسرائيل.

يمثل كوربين قطيعة مع ما كان متعارفا عليه من تقليد في هذا الشأن، ولذلك فهو يشكل خطرا على إسرائيل. ولهذا السبب تسعى إسرائيل من وراء الكواليس إلى إعادة تعريف معاداة السامية، بشكل يسوّد سمعة المناهضين للعنصرية من أمثال كوربين وأنصاره في حزب العمال.

كنت قد وثقت في مقال سابق في ميدل إيست آي دور إسرائيل في إثارة ما يفترض أنه "أزمة معاداة السامية" داخل حزب العمال، وفي محاصرة الحزب حتى يتبنى تعريفا جديدا تفصيليا لمعاداة السامية من شأنه أن يعتبر، ولأول مرة، نقد إسرائيل مؤشرا على الخطاب المعادي للسامية.

في الشهر الماضي عبر نتنياهو عن ذلك صراحة في رسالة مصورة إلى مؤتمر عقد في فيينا. بعد أن أشاد بأوربان، قال نتنياهو: "معاداة السامية ومعاداة الصهيونية، ومعاداة السياسات الإسرائيلية – فكرة أنه ليس من حق الشعب اليهودي أن يكون له دولة – ذلك هو منتهى معاداة السامية في يومنا هذا". 

ولكن لا يقتصر الأمر على نتنياهو، فهو ليس الوحيد الذي يروج للفكرة السخيفة التي تقول بأن المعادين للعنصرية من أمثال كوربين – أولئك الذين تتطلب منهم مبادئهم رفض التعالي الإسرائيلي على الفلسطينيين – هم في واقع الأمر كارهون سرا لليهود. لو كان ذلك صحيحا، لما كانت الانتقادات الموجهة نحو كوربين تعني الكثير بالنسبة لليهود البريطانيين، كما يفهم من استطلاع الاتحاد الأوروبي هذا الشهر.

تشويهات إعلامية

لقد أدت وسائل الإعلام البريطانية دورا حيويا في الترويج لصورة مزيفة لكوربين، وذلك بحسب ما ورد في استطلاع أجراه ائتلاف إصلاح الإعلام في شهر أيلول/سبتمبر، بهدف تحليل التغطية الإعلامية البريطانية لحزب العمال. خلص الائتلاف، الذي تقوده مجموعة من الأكاديميين، إلى وجود "تضليل" منتظم في وسائل الإعلام، وأن الغارديان بالذات، التي يفترض فيها أنها ليبرالية، مارست بشكل صارخ تغطية مضللة ومجافية للحقيقة.

كما اكتشف باحثو الائتلاف أن "ثلثي النشرات الإخبارية في التلفزيون، احتوت على خطأ إخباري واحد على الأقل أو على تشويه كبير". واشتملت هذه الإخفاقات على "تحريف واضح في المصادر، وحذف لسياقات أساسية أو تجاهل لحق الرد، بالإضافة إلى تحريف في الأقوال أو إيراد مزاعم باطلة على ألسنة الصحفيين أنفسهم، أو على ألسنة مصادر تدون تحدي أو مواجهة أصحابها".

ترددت هذه المجموعة في استنتاج أن هذه الإخفاقات الدائمة من قبل وسائل الإعلام، تشير إلى نية مبيتة لتشويه سمعة كوربين.

مما يجدر التذكير به أنه بعد فترة قصيرة من انتخاب كوربين زعيما لحزب العمال في صيف عام 2015، منح جنرال في الجيش البريطاني حيزا في إحدى كبريات الصحف، وهي صحيفة التايمز المملوكة لروبرت ميردوخ، لكي يندد بكوربين، ويحذر من أن الجيش سيستخدم "كل الوسائل المتاحة، الصالحة والطالحة منها" لمنع زعيم العمال من أن يصبح رئيس وزراء، وللحيلولة دون أن يتمكن من تنفيذ سياساته.

العلاج الحقيقي

هناك توتر أيديولوجي خطير، قلما يتم التطرق إليه بالبحث والتقصي، بين الصهيونية على النمط الإسرائيلي والنظرة التقدمية أو الليبرالية، تماما كذلك الذي بين الأوربانية والليبرالية.

في المناخ السياسي الذي يشهد تصاعدا للتيارات القومية الأوروبية، فإن الخيار السافر الذي يواجه يهود أوروبا هو بين أن يراهنوا بقوة على رؤيتهم اليسارية الليبرالية التقليدية للعالم، أو أن يتخلوا عنها تماما ويتماهوا في التيار القومي المهيمن في إسرائيل. جيريمي كوربين يمثل الخيار الأول بينما يمثل الخيار الثاني الصهيونية المتطرفة التي يعتنقها نتنياهو.

بعد أن أمطروا بوابل من الحملات المغرضة، يبدو أن كثيرا من اليهود البريطانيين وقعوا ضحية تضليل باتوا معه يرون في كوربين خطرا يتهددهم، باعتباره زعيما لتيار يساري معاد للسامية بدلا من أن يروا فيه ملاذا يرجى منه تحصين بريطانيا ضد معاداة السامية، التي يجلبها اليمين المتطرف المنبعث من جديد.

أما الهجرة اليهودية إلى إسرائيل فستزيد الأمور سوءا، لأنها ستشبع رغبات وتحيزات القوميين البيض في أوروبا، وستوهن اليسار الأوروبي، وستعزز بالقدر نفسه تلك القومية اليهودية القبيحة التي تتطلب اضطهاد الفلسطينيين. 

 

 

ترجمة خاصة لموقع "عربي21" نقلا عن موقع "ميدل إيست آي"
0
التعليقات (0)