كتاب عربي 21

"دسترة" الطغيان.. النقد الذاتي (55)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
التعديات الدستورية التي يقوم بها السيسي، وبعد تمهيد إعلامي وبرلماني امتد لأكثر من عام حول تلك المقترحات، تدور كلها حول خمس كلمات مفتاحية: الشرعنة والدسترة والفرعنة والعسكرة والبلطجة التي يمارسها السيسي باختطاف كل مؤسسات الدولة تحت تهديد السلاح.. هذه الكلمات الخمس تلخص الهدف من تلك التعديات الدستورية التي تشكل مدخلا لتأبيد الطاغية على كرسيه وإحكام قبضة استبداده واغتصاب السياسة وقتلها، بحيث يشكل بكل سياساته تلك في الترويع والتفزيع والإفقار والتجويع؛ حالة يمكن من خلالها إحكام ما يمكن تسميه بسياسة القطيع.

إن فكرة الشرعنة التي تقوم بإضفاء حق على باطل في إطار اغتصاب السلطة وقطع الطريق على مسار ديمقراطي وتعطيل الدستور، والتي اتخذت شكلا انقلابيا فجا، تحاول إيجاد غطاء شعبي يعمي على كل هذه التعديات السياسية؛ بوصفها ثورة شعبية، وبدت مسالك الشرعنة تلك تعبر عن نفسها في بوابات عدة، ضمن افتعال معركة كبرى حول إرهاب محتمل؛ صار هو مناط شرعنة حكمه وطغيانه، وكذلك تحويل مصر إلى سجن كبير تحت دعوى أهمية مصر وحفظ الاستقرار في الدولة، ومنع هجرة المصريين إلى بلاد الغرب. أما الأمر الآخر، فإنما يتعلق بحمايته للكيان الصهيوني واعتبار أمنه جزءا لا يتجزأ من الأمن القومي المصري، ضمن صفقة قرن يرتب لها على الأرض.. كل تلك المقولات يستخدمها السيسي في شرعنة زائفة، مقترنة بما يمكن أن يسميه بالشرعية المسلحة، والتي اعتمدت ضمن العلوم السيسية.

أما عن الدسترة، فهي محاولة إضفاء حالة دستورية زائفة على ما لا يعد دستوريا، أو يناقض وينقض القيم الدستورية الحقيقية والعرفية، بحيث يتاح للمستبد أن يجعل من الدستور ألعوبته، ويجعل التلهي بالعبث بالدستور حرفته. باختصار، فإن المستبد يضع نفسه بأهوائه وخطابه وسياسات طغيانه في مقام الدستور، في إطار "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".. يفعل كل ذلك وهو لم يرع أو يراعي أي دستور، حتى ذلك الدستور الذي اصطنعه على عينه، ويتأفف من كل ذلك، ويمارس بسياساته نقض أي مبادئ دستورية عليا عروة عروة، فيدستر ما لا يمكن قبوله، ويمرر رغبته في صورة ما يسميه بتعديلات دستورية.

وفي واقع الأمر، فإن فعل الدسترة الزائف إنما يشير في حقيقة الأمر إلى اختلاف هذا الفعل عن الحالة الدستورية التي تقوم على عقيدة تأسيسية في الدول العادلة والفاعلة بحيث تجعل من الدستور حكما مهما وتعاقدا سياسيا واجتماعيا. لهذا فقط يمكن أن تُكتب الدساتير وتدبج صياغاتها لحماية القيم الأساسية والحقوق الإنسانية، والسلطات وتوازنها وفاعلية ما يتعلق بالمواطنة وحقوقها التأسيسية والسياسية. ومن هنا، فإن فعل الدسترة إذ يعبر عن حالة زائفة، فإنه ينتهك الجوهر الدستوري وأسسه الجوهرية ووظيفته التعاقدية. ومن هنا أيضا، فإننا نستطيع أن نقول إن معركة التعديات الدستورية هي معركة كبرى ضد عبث المستبد وتلهيه بالدستور، ليؤكد أن الدساتير لا توضع لمصلحة المستبد، بل لمصلحة الناس والشعوب ضمن علاقات سوية تؤكد على جوهر العدالة والفاعلية.

منذ متى احترم السيسي الدستور، سواء في نصوصه أو في ممارساته أو في سياساته؟ بل نستطيع أن نقول إنه يصيغ دستوره النافي للدستور (الدستور النيجاتيف). ومن هنا، تبدو هذه المعركة هي معركة ضد الدسترة والفرعنة.

أما عن الفرعنة، فحدث ولا حرج.. فإن تكريس الحالة الفرعونية وتأبيد السلطة، والوقوف على أمر يتعلق بضرورات التداول وتحديد المدة القصوى بثماني سنوات على فترتين، إنما يعبر عن مواجهة حال التأبيد للفرعون وتكريس طغيانه، ووضع الحدود على سلطانه. وعلى هذا، فإن محاولة تفصيل النصوص ضمن عملية دسترة عبثية للمادة 140، في محاولة لتأبيد حكمه حتى العام 2034، إنما تشكل استهانة دستورية تناقض مادة التحصين لتلك المادة بالذات ضد التعديل.. استهانة بإرادة الشعوب والمكتسبات الحقيقية لثورة يناير، في طار يشرعن الفرعنة ويدستر الاستبداد ويؤبد للسلطة وطغيانها.

مرة أخرى، إن إرادة الطاغية ورغباته هي الفيصل في عملية استخفاف كبرى بالشعوب والطغيان عليها، فلا يقيم لها وزنا ولا يعتبرهم إلا قطيعا؛ ما عليه إلا الطاعة العمياء، والخضوع لكل قواعد الاستبداد والاستعباد، وكأن الطاغية يعتبر نفسه إلها لا ترد له كلمة، مطلق اليد ما أراد، يحكم شعبه ويتحكم فيه بكل مسالك الاستعباد. إن تكريس العلاقة السياسية الفرعونية على هذا النحو ضمن تكريس الطغيان؛ هو دسترة الفرعنة وفرعنة الدسترة.

أما عن العسكرة، فهي طريق مرسوم من مستبد غشوم لا يجد أي مساحة إلا وأضفى عليها حالة عسكرية، يفرض فيها الإكراه والإجبار والتغول والاستكبار. إنها حالة عسكرة للدولة والمجتمع في إطار أن العسكر هم من يحمون مدنية الدولة وديمقراطيتها، ولتعبر هذه التعديات عن أقصى درجات الفجر السياسي، حينما يكون السلاح هو الفيصل في إدارة الحياة المدنية وأمور الشأن العام وتسيير المجال العام، والقدرة على ممارسة حياة سياسية حقيقية. ومن المؤسف حقا أن تأتي العسكرة لتحمي المدنية وتحمي الديمقراطية، بدلا من أن تكون المؤسسة العسكرية تحت أمر القواعد الديموقراطية والإدارة المدنية. إن هذا الباب الذي يتعلق بالعلاقات المدنية العسكرية وعسكرة الدولة والمجتمع، والتغول على مساحات الحياة المدنية والسياسية، بل والنشاط الاقتصادي والإعلامي، إنما يعبر في حقيقة الأمر عن عبثية وتلهٍ بالحقائق الجوهرية الدستورية وشرعنة الانقلابات العسكرية، حينما يكون العسكر هم الحكم في الساحات المدنية والمساحات السياسية، في إطار توريط للمؤسسة العسكرية في ما لا تحسنه وفي ما لا يجب أن تتدخل فيه، والتورط والانخراط في غير ميدانها الحقيقي.

أما الأمر الخامس، فإنه يتعلق بحالة الاختطاف الكبرى لمؤسسة الدولة في إطار عصابة استطاعت أن تختطف الدولة بكل مؤسساتها تحت تهديد السلاح، وتوجيه وظائف تلك المؤسسات إلى عكس وظائفها الأساسية والجوهرية. وفي هذا السياق، فإن اختطاف الأجهزة الإدارية والبيروقراطية واختطاف القضاء، وكذا الإعلام، والأخطر من ذلك جميعا، اختطاف البرلمان وكل ما يتعلق بوظائفه الأساسية في الرقابة الشعبية والمحاسبة والمساءلة، يُتوج للأسف باختطاف المؤسسة العسكرية ذاتها، في إطار عملية توريط كبرى من هذه العصابة التي اختطفت كل المؤسسات وعكست مقتضى وظائفها إلى نقائضها، فشكلت ما يمكن تسميته بـ"دولة الضد"، متجاوزة ما أسميناه من قبل "دولة كأن".

إن هذه المفردات الخمس التي "تدستر" الطغيان، والتي تشكل جوهر معركة التعديلات الدستورية، تؤكد على ضرورة أن تكون المعركة على تلك الساحات الخمس، من شرعنة ودسترة وفرعنة وعسكرة واختطاف المؤسسات والبلطجة. إن هذه الخماسية الخبيثة الصانعة للطغيان والممكّنة لشبكات الفساد ومؤسسات الاستبداد؛ إنما تشكل جوهر تلك المعركة في مواجهة استبداد الطاغية، والتي من مصلحة الجميع أن تتم مواجهتها بكل قوة، ولكل شبكات الطغيان وكل ادعاء زائف بتسويغ الاستقرار الزائف.

ومن هنا تكون هذه المعركة واجبة في مواجهة الطاغية من دون تأجيل أو إبطاء، تتكاتف فيها كافة قوى المعارضة والمقاومة، لتؤكد على مطالبها التأسيسية في دولة عادلة راشدة فاعلة ضد الفساد والاستبداد، وضد الطغيان الذي يخرب كل عمران، ويقتل فعاليات الإنسان، ويجعل من المواطن عبدا في عصر الأقنان. فهل اتضح الآن لماذا على تلك القوى السياسية أن تخوض تلك المعركة الحقيقية ضد الطاغية والطغيان؟ إنها أحد العناوين لمعركة الدستور التي من الواجب أن لا تستقطب في هوامشها وتراشقها حول المواقف المتنوعة؛ القوى الفاعلة والمعارضة فيها، لأن ذلك يتعلق إذا ما أُحسن استثماره بتوزيع الأدوار وتوظيف التنوع والاختلاف. إنها المعركة الكبرى التي تتعلق بصناعة التوافق وحالة الاصطفاف.
التعليقات (0)