مقالات مختارة

أسرار تاريخية عن عرب الخمسينيات تكشفها مذكرات الرئيس الأمريكي إيزنهاور

أحمد القديدي
1300x600
1300x600

إن الذي لا يقرأ التاريخ لا يفهم الحاضر. وأبلغ كتب التاريخ تلك المذكرات التي يسجلها قادة حكموا العالم وتركوا بصماتهم على مصير البشرية؛ خيرا كان أو شرا، ولعل بعض نكباتنا نحن العرب -قادة ونخبة- أننا لا نقرأ، وإذا قرأنا فإننا لا نعتبر كما قال أحد أعدائنا.

وأنا واثق من أن الجيل العربي في العشرينيات والثلاثينيات لو قرأ كتاب لورنس العرب (أعمدة الحكمة السبعة) لفهم نوايا بريطانيا في اقتطاع فلسطين للشتات اليهودي، ولو قرأ نفس الجيل كتاب (تيودور هرتزل) (الدولة اليهودية) لأدرك خطر مخططات الصهيونية.

تجول هذه الخواطر في ذهني وأنا اقرأ الطبعة الثالثة المنقحة لمذكرات رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الجنرال دوايت ايزنهاور الذي حكم أكبر قوة على وجه الأرض من سنة 1953 إلى سنة 1961 وعايش الزلازل السياسية لفترة ما بعد الحرب مثل الحرب الباردة والعدوان الثلاثي على مصر وخروج الاستعمار الفرنسي من المغرب العربي وإعادة شاه ايران إلى عرشه بعد إجهاض ثورة مصدق والإنزال العسكري في لبنان عام 1958 حين كان كميل شمعون رئيسا وتنفيذ عقيدة (فوستر دالس) لاحتواء المد الشيوعي في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا.

وبالنسبة لنا كعرب فإن مطالعة هذه المذكرات تكشف جوانب غامضة من السياسة الأمريكية إزاءنا بل وتبصرنا بضرورة قراءة ألف حساب لاستراتيجيات القوى العظمى خاصة ونحن نقتحم عالما معولما مرتبط المصالح متشابك الأزمات فمذكرات ايزنهاور التي رتبها وجمعها وعلق عليها الصحفي الأمريكي المعروف (ستيفن امبروز) تكشف لنا خارطة الشرق الأوسط كما تراها واشنطن في الخمسينيات وتداعيات الثورة المصرية كما تكشف أسرار المناورات السياسية الكبرى التي أطاحت بكثير من الأنظمة والرؤوس وغيرت المعادلات وقلبت التحالفات بالانشقاقات العربية والإسلامية وهشاشة توجهات الأنظمة في الشرق الأوسط في الخمسينيات.

يكشف (امبروز) في كتابه سرا ظل مجهولا حتى صدور مذكرات ايزنهاور وهذا السر هو أن (فوستر دالس) وزير الخارجية طلب من المخابرات المركزية الأمريكية أن تعد سيناريوهات محتملة لقتل جمال عبدالناصر وفعلا تم أعداد هذه الصيغ الممكنة وعرضه(دالس) على ايزنهاور فرفضها.. ورفض الفكرة قائلا انه يستبعد أن يكون عبدالناصر وراء زعزعة المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط كان ذلك في أواخر سنة 1955 وفي أواخر تلك السنة أيضا اتجه عبدالناصر إلى الولايات المتحدة لتسليح مصر بمبلغ سبعة وعشرين مليون دولار فهب (دالس) والكونجرس الموالي لإسرائيل لإجبار ايزنهاور على رفض الصفقة فتوجه عبدالناصر إلى تشيكوسلوفاكيا التي عقد معها صفقة فاقت الصفقة الأمريكية بخمس مرات وقبلت الحكومة التشيكية أن تقبض مقابل أسلحتها مقايضة بكميات من القطن المصري ولم ييأس عبدالناصر من أمريكا فعرض على ايزنهاور تمويل بناء سد أسوان بالتعاون مع البنك الدولي فتم نفس الضغط ـ إلى جانب ضغط (إيدن) الذي كان يعتبر القضاء على مصر قصما حاسما لظهر العرب ورفض ايزنهاور تمويل السد العالي فالتفت عبدالناصر إلى السوفييت وقد كتب ايزنهاور في مذكراته 1956 مايلي: (اني مقتنع أن عبدالناصر لن يقوم بأي حركة من أجل السلام وان العرب أصبحوا وقحين ولذلك سوف أعمل جهدي على إحداث الشقاق بين عبدالناصر والملك سعود).

وتصاعدت تحديات عبدالناصر مهددا بتأميم القنال فتضاعف خوف أمريكا وفرنسا وبريطانيا واستغلت إسرائيل التي كان يتزعمها (بن جوريون) آنذاك هذا الخوف لإثارة الغرب بأسره ضد مصر ولم تنقطع تحديات عبدالناصر فأعلن في أواخر مايو أن مصر تعترف رسميا بالصين الشعبية وترفض صين (شان غاي تشاك) وتحرك (ايدن) في اتجاه الاحتلال العسكري للقنال ولمصر أن لزم الأمر قائلا في مذكرة بتاريخ 27 مايو 56 موجهة إلى ايزنهاور:(أن الغرب سيختنق وستنقطع عنه حنفية النفط ولا يمكن أن نترك عبدالناصر يؤمم القنال ويهدد مصالحنا البحرية.. والأمر يدعو إلى تأديب عبدالناصر..). وكان ايزنهاور يميل حسب المعطيات التي استقاها من (دالس) ومن المخابرات الأمريكية إلى عقد ندوة لإيجاد حل قائلا في رسالة ابلغها (روبرت مورفي) إلى (ايدن) بتاريخ 2 سبتمبر 56: (أن لدينا في الشرق الأوسط وخاصة السعوديين حلفاء أعربوا لنا عن رغبتهم في تحجيم عبدالناصر ولكنهم يرون أن عملا عسكريا في القنال لا يأتي بتلك النتيجة..). وجاء جواب (ايدن) 1956 ليذكر ايزنهاور بان بريطانيا وفرنسا تحالفتا في الحرب الأخيرة مع الولايات المتحدة (ولا يمكن أن نترك الغرب ينهار على مراحل).

في منتصف نهار 31 أكتوبر علم ايزنهاور أن الطائرات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية معززة في الأرض بقوات ثلاثية كبرى هاجمت مصر وان عبدالناصر تمكن من غلق القنال وجمع قواته للمقاومة وكتب الرئيس الأمريكي في مذكراته بان ذلك الهجوم كان مفاجأة عظمى له تعادل مفاجأة (بيرل هاربر) في ديسمبر 1941 والبقية معلومة فقد تحرك ايزنهاور وبولجانين زعيم الاتحاد السوفييتي حينذاك لإنهاء العدوان واغتنم الكرملين هذا الحدث ـ ومناخ الانتخابات الرئاسية الأمريكية ـ ليقوم بغزو المجر واحتلال عاصمته بودابست لسحق المتحررين. ويهب ايزنهاور ليستخلص العبرة من العدوان الثلاثي فيقول (أنا مؤمن بأن مصالح أمريكا رهينة استقرار منطقة الشرق الأوسط لأن مصلحة أمريكا تتلخص في الحفاظ على حاجة العرب المستمرة للمعونة الغربية مع استعدادنا للتدخل العسكري اذا ثبت أن جزءا من هذا العالم العربي صلب عوده لدرجة تهديد إسرائيل) ثم يقول ايزنهاور تلك الحكمة التي ذهبت مذهب الأمثال في الخمسينيات حين خطب أمام الكونجرس يوم 3 مارس 1957 قائلا: (نحن بإزاء قادة عرب محتاجين للسلاح يحكمون شعوبا محتاجة للخبز).

عن صحيفة الشرق القطرية

0
التعليقات (0)

خبر عاجل