كتب

باحث فرنسي: العدو صناعة وبناء يمكن تفكيكه

باحث فرنسي: الخروج من الحرب الأهلية عبر النسيان والصفح هو الأصعب (عربي21)
باحث فرنسي: الخروج من الحرب الأهلية عبر النسيان والصفح هو الأصعب (عربي21)

الكتاب: صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح
المؤلف: بيار كونيسا
المترجم: نبيل عجان
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
سنة الإصدار:2015

"الحرب هي، قبل كل شيء، ترخيص ممنوح شرعيا لقتل أناس لا نعرفهم، أو أحيانا نعرفهم حق المعرفة على غرار الحروب الأهلية،.. إن الحرب هي اللحظة غير الطبيعية، إذ يمكن معاقبة من يرفض قتل العدو بالموت، لذا يتعين علينا القيام بذلك عن طيب خاطر والاقتناع بما نفعل". 

يتقبل معظم البشر هذه الحقيقة المرّة ويسلّمون بواقعيتها، دون أن تستوقفهم الكيفية التي صار بها العدو عدوا، وما إذا كانت هذه (العداوة) تستحق الذهاب إلى حرب مدمرة، قد يكون الرابح فيها خاسرا على كل الأحوال، أو طرفا ثالثا تزدهر مصالحه باستعار نارها. حول الآليات التي تنشأ بواسطتها علاقة العداوة، وكيفية تغذيتها وتطويرها وصناعتها بالأساس يدور كتاب الباحث والدبلوماسي الفرنسي بيار كونيسا "صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح"، الذي يستهله بسؤال: هل العدو ضرورة؟.

يرى كونيسا أن التنظير الاستراتيجي والسياسي والعسكري لم ينشغل يوما بالطريقة التي يتم بها اختيار العدو، وركز دائما على ملامحه البنيوية والاستراتيجية؛ حالة القوات المسلحة، الميزانية العسكرية..الخ. لكنه لم يسع لمعرفة كيف يحدد مجتمع ما أعداءه، مكتفيا باستعادة عبارة الجنرال والمؤرخ الحربي كارل فون كلاوزفيتز"الحرب ليست سوى مواصلة السياسة بوسائل أخرى". وهي عبارة تعجز عن تفسير الحروب الأهلية، والمجازر الكبرى، والأعمال الإرهابية، والنزاعات الدينية، فضلا عن الحرب النووية بحسب ما يرى كونيسا مستشهدا بما قاله حائز نوبل، العالم النووي السوفييتي أندريه سخاروف: "ستكون الحرب النووية الحرارية شيئا مختلفا عن مواصلة بسيطة للسياسة بوسائل أخرى، ستكون وسيلة للانتحار الجماعي!".

العدو صناعة اجتماعية وسياسية

يناقش كتاب كونيسا فرضية أن العدو عبارة عن عملية بناء، تبدأ صناعته بتبني أيديولوجيا استراتيجية محددة، وإطلاق خطاب خاص بها، يغذيه صنّاع رأي أسماهم "محددي العدو"، وأخيرا آليات صعود نحو العنف. لكنه يتساءل أيضا "لماذا العدو؟" وهل هناك حاجة اجتماعية وسياسية لوجود العدو في المجتمعات المعاصرة؟

يبدو أن العدو هو بالفعل كذلك. "هو جزء من متخيل جمعي خاص بكل جماعة. إنه أنا آخري، يجب أن نجعلها غيرية، نلونها بالأسود ونجعلها مهدِدة لكي يبدو استخدام العنف شرعيا". يقول كونيسا: "إن العدو قد يكون موحِدا للجماعة، محددا لهويتها ومميزا لها. كما يمكن توظيفه كمهدىء لحالات القلق الجماعي، فعلى الرغم من أن الدول المتقدمة تعيش أمانا مثاليا، "اخترعت" ما يسمى بـ"مبدأ الحيطة" الذي يضفي طابع الكارثية أو المأساة على أخطار محتملة بعيدة التحقق، ما جعل مواطنيها في حالة قلق دائم وانتظار لحماية السلطات لهم من كل ما هو غير متوقع.

 

يؤكد كونيسا على أن صناعة العدو كآخر مهدِد هي فعل سياسي بالضرورة


لكن هذا العدو يجب أن يكون مختلفا، حتى لو كان هذا الاختلاف زائفا أو مفتعلا. يبدأ التمييز شفويا باستخدام ألفاظ تحط من قدر الآخر لتبرير العنف تجاهه وحرمانه من المعاملة الإنسانية العادلة، فهو ليس ندّاً، ليس محاربا أو عدوا، إنه بربري، إرهابي، قاطع طريق، عنيف. ويصبح التمييز في ما بعد ثقافيا وعرقيا منشئا لنظريات التفوق العنصري. 

يقول كونيسا إن اليابان طورت "فكرا قوميا مهيمنا.. تجاه الآسيويين الآخرين، وبخاصة تجاه الصينيين. منذ بداية الثلاثينيات وضع مبدأ التفوق العرقي الياباني بالارتكاز على نظرية كوكوتاي نو هونغي (مبادئ الأمة): يعيش الغربيون الماديون المنحطون في مجتمع فرداني ومادي، ولن تكون نتيجة توسع هذا المجتمع سوى حرب بين الروح والمادة... وعلى العرق الياباني ..أن يتكفل بمصير الآسيويين من خلال تأمين الحماية لهم تعويضا عن إسهامهم بدعم جهده في الحرب ودعم توسعه، وتشكل مقاومته جريمة".

يؤكد كونيسا على أن صناعة العدو كآخر مهدِد هي فعل سياسي بالضرورة، يثير الدهشة أحيانا أن تعرفها الدول الديمقراطية، التي يثبت واقع الحال أنها ليست دائما سلمية، أكثر من الأنظمة الدكتاتورية التي قد لا تمتلك أية نوايا حربية. تبرز هنا الولايات المتحدة الأميركية كمثال قوي على دولة أوكلت لنفسها مهمة الحفاظ على الأمن العالمي، لتغطي على مصالحها وتبرر تدخلها العسكري في الكثير من المناطق. 

الحرب قرار جمعي

يتوسع كونيسا في الحديث عن "محددي العدو"؛ مراكز البحوث الاستراتيجية، وأجهزة الاستخبارات، والاستراتيجيون غير الرسميين. أولئك الذين "يسهمون باسم المصلحة العامة بتحديد العدو للرأي العام. فالحرب ليست شأن حاكم ما بحاجة إلى المجد، بل أصبحت شأن الجميع. ولذا فإن تهيئة العقول لاختيار العدو ينتج أيضا عن آلية سوسيولوجية تؤسس للموافقة الجماعية". تقدم مراكز التفكير الاستراتيجية توصيفات للتهديدات وآلياتها، وتبرر نظام الدفاع وشكل الجيوش. ولدى الولايات المتحدة الأمريكية أكبر عدد من هذه المراكز على مستوى العالم، حيث يصل عددها إلى نحو 1500، وتضم عددا هائلا من الموظفين، وتعمل بميزانيات ضخمة. 

 

أجهزة الاستخبارات تصر على خلق العدو. وعادة ما يتم التعامل مع هذه الأجهزة في الديمقراطيات باعتبارها تمتلك امتياز المعرفة، دون أن تكون مضطرة للتفسير


يشير كونيسا إلى أن النقاشات الاستراتيجية الغربية اليوم بمجملها تصدر عن الحلقات الأمريكية ويعيد معالجتها الآخرون. وتنحاز الولايات المتحدة  لمراكزها البحثية، وتعطي قيمة أكبر لكل ما يصدر عنها على حساب أية مراكز أخرى حول العالم، وتعتمد بالتالي في تفسيرها للأمن والقضايا الكبرى على وجهات النظر الصادرة عن هذه المراكز.

أما أجهزة الاستخبارات فقد عرفت حضورا استثنائيا في فترة الخمسينيات والستينيات "من خلال تنظيمها انقلابات واغتيالات أو عمليات تحريض. ويقدر أن وكالة الاستخبارات الأمريكية لوحدها سببت خمسين انقلابا تقريبا في العالم، وأسهمت كذلك في إعادة إحياء نظرية المؤامرة.." وتلعب هذه الأجهزة دورا في تحديد العدو، واختلاقه إن لزم الأمر. 

ويلفت كونيسا الانتباه إلى أن العشرات من الوثائق الصادرة عن منظمات دولية والكثير من الدول تؤكد بوضوح أن المشاكل الحقيقية التي تواجهها الشعوب تتعلق بالأمن الغذائي والمائي وانتشار الأسلحة، لكن أجهزة الاستخبارات تصر على خلق العدو. وعادة ما يتم التعامل مع هذه الأجهزة في الديمقراطيات باعتبارها تمتلك امتياز المعرفة، دون أن تكون مضطرة للتفسير أو التبرير، وهو أمر يمنحها، كما يبدو، امتياز الكذب أيضا.

ويقوم الاستراتيجيون غير الرسميين أو الميثولوجيون بالترويج لخطاب اجتماعي وسياسي يعيدون فيه "تدوير مواضيع تاريخية قديمة ويصنعون منها ميثولوجيا جديدة"، هؤلاء هم المثقفون والإعلاميون، ورجال الدين، والسياسيون والسينمائيون. يقول كونيسا:" تقدم الأزمة اليوغوسلافية مثالا على العملية السوسيولوجية المطروحة هنا: مثقفون قدماء منشقون، سلطات دينية، محاربون قدماء، زعماء سياسيون... كل منهم قدم إسهامه في خطاب صناعة العدو، للوصول إلى الحرب الأهلية".

كيف نفكك العدو؟

في الفصل الثاني من كتابه يضع كونيسا تصنيفا ونماذج للأعداء، لافتا إلى أن العدو غالبا مزيج من نماذج متعددة "تفسر طول أمد التنافس القاتل". من هذه التصنيفات: العدو القريب وهو عدو ينشأ الصراع معه بسبب الحدود، والخصم العالمي او المنافس الكوكبي كما كانت الحال بالنسبة للحرب الباردة، أو تنافس الإمبرياليات في سباق الاستعمار. وهناك العدو الحميم الذي تؤدي الخصومة معه إلى الحرب الأهلية. والعدو الهمجي أو هكذا يراه المحتلُ الذي يريد إخضاعه، فيواجهه بالقوة والعنف، ويصبح قمعه هو "إحلال السلام"!. وهناك العدو التصوري وهو كما يقول كونيسا وضع فريد عرفه العالم تحت رئاسة جورج بوش الإبن، "المسيطر ليس لديه عدو يجاريه، لا يمكنه سوى محاربة مفاهيم في صراع شامل. إنها الحرب الشاملة ضد انتشار أسلحة الدمار الشامل والإرهاب"، حرب استباقية.

 

يبدو الخروج من الحرب الأهلية عبر النسيان والصفح هو الأصعب، سيما إذا جرت هذه المحاولات عبر قوانين عفو تدفن معها الحقائق وتمنع تحقيق العدالة.


والعدو الإعلامي الذي يتم استحضاره من خلال "الشيطنة لا من خلال التهديد الاستراتيجي الذي يمثله"، ويتحدد هذا العدو عبر مثقفين وإعلاميين أو عبر العاملين في المجال الإنساني. وهناك أيضا العدو المطلق أو حرب الخير ضد الشر التي "لا تقتصرعلى النزاعات الدينية؛ إذ هي أيضا حرب الأنظمة الشمولية الكبيرة العلمانية في القرن العشرين.. الآخر هو الشر بل حتى الشيطان، ويجب على الحرب أن تؤدي إلى إبادته التامة على مستوى العالم، وأيضا على مستوى الخونة والمتآمرين. الحرب هي طرد للأرواح الشريرة".  

مع ذلك يرى كونيسا أننا إذا سلمنا بفكرة أن العدو بنية فمن الممكن إذن تفكيكها. ومحاولات تفكيك العدو عبر التاريخ كثيرة، كتب لبعضها النجاح، وأخفقت أخرى. وأهم هذه المحاولات الناجحة المصالحة بين فرنسا وألمانيا، بعد ثلاثة حروب مدمرة. في المقابل لم تقبل اليابان الإقرار بالمسؤولية تجاه جيرانها الآسيويين، وكذلك لم تقبل فرنسا الاعتراف بمسؤوليتها عن مجزرة سطيف في الجزائر.

يمكن أيضا تفكيك العدو من خلال الوصول إلى تسويات، ونجحت بالفعل الكثير من الدول في إنهاء خلافاتها الحدودية، على سبيل المثال، بطرق سلمية تماما. 

ويبدو الخروج من الحرب الأهلية عبر النسيان والصفح هو الأصعب، سيما إذا جرت هذه المحاولات عبر قوانين عفو تدفن معها الحقائق وتمنع تحقيق العدالة. 

يقول كونيسا: "يوجد نوعان من العدالة في مرحلة الخروج من الحروب الأهلية يمكنهما أن يعملا بالتوازي، هما العدالة الترميمية، والعدالة التعويضية". تركز الأولى على القصاص وتسمح بمعاقبة بعض المذنبين، لكن ليس بالمصالحة ضمن جماعة أو أمة..، أما العدالة الانتقالية أو التعويضية .. تقتصر مهمتها على إدارة الانتقال من الحرب إلى السلم، أو من نظام استبدادي إلى الديمقراطية.. ويجب عليها أن تعالج الإرث الذاكري للإساءات الجماعية". وأفضل مثال عليها هو لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا.

التعليقات (0)