مقالات مختارة

ذاك الذي استخف قومه فأطاعـوه !

عبد الله العمادي
1300x600
1300x600

كلما قرأت قصص الجبابرة والمجرمين في القرآن أدركت أن قصصهم ما ذكرها وخلدها الله في كتابه إلا لديمومة الانتباه، والتحذير من شخصيات مماثلة ستأتي من بعد أولئك الأولين، يكررون الأخطاء أو الأفعال والسلوكيات نفسها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.


أبرز من يمكن الحديث عنه دون كلل أو ملل، ذاك الذي استخف قومه فأطاعوه، إنه فرعون موسى، ذاك الذي أوضح لنا القرآن بشكل دقيق صفاته وتركيبته النفسية، الذي -وإن غرق في اليم في زمن ما- ما زال يظهر ويتكرر في كل زمان ومكان وعلى هيئات وصور شتى.

كان ذاك الفرعون نموذجا فريدا من البشر لم يكن قد ظهر قبله أحد بالعقلية التي كان عليها، وإن كان من بعده ظهر كثيرون. هذا الفرعون لم يكن سوى ممثل بارع، أتقن الأدوار التي رسمها له وزيره هامان، وبعض آخر من بطانته السيئة، أصحاب المصالح والمنافع، الذين هالهم أن يخرج فتى فقير من بني إسرائيل، يحاول أن يوضح بعض خفايا وأسرار التمثيليات التي كان يقوم بها فرعون وزبانيته.

ما كان يحدث في السابق من فرعون تجاه موسى -عليه السلام- يمكن أن نقول عنه بلغتنا المعاصرة إنه استهبال للناس واستخفاف عميق بعقولهم، عبر تمثيل بارع لأدوار متقنة من فرعون وزبانيته، من بعد توجيه مصادر المعلومات لتتحدث وتنطق بنفس العلم والكلام، حتى يعيش الناس ضمن إطار واحد من المعلومات، لا يرون أو يسمعون غيرها من معلومات. إنهم بالطبع لا يرونها ولا يسمعونها لأنها لا تصلهم بفعل السواتر والحواجز التي يكون الفرعون قد بناها، وأحكم قبضته وسيطرته عليها، كي تسهل عليه عملية الاستخفاف بالناس، من أجل أن تثمر بعد ذلك على شكل طاعة شبه عمياء له.

إن استخفاف الطغاة للجماهير، كما يقول سيد قطب في ظلاله: "أمر لا غرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولا عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها، ولا يعودوا يبحثون عنها، ويلقون في روعهم ما يشاؤون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة. ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين"!.

أركان الاستخفاف    

عملية الاستخفاف، وحتى تكتمل وتكون فاعلة مؤثرة، لا تعتمد فقط على وجود زعيم أو رئيس متجبر كذاب أشر، بل هي عملية لا تكتمل إلا بوجود ركنين أساسيين. الأول هو كما أسلفنا، وجود فرعون متجبر كاذب ظالم جبار، يملك بقدرة قادر، مفاتيح القوى في سلطانه ويسيطر على زمام الأمور، هذا ركن أول. أما الثاني، فلابد من وجود شعب عنده القابلية للتعاطي مع عملية الاستخفاف، الأمر الذي يقول عنه علماء التفسير في شروحاتهم لقوله تعالى (فاستخف قومه فأطاعوه) إن فرعون استخف قومه، بمعنى وجدهم جهّالا سذجا، لا يحكمون عقولهم فيما يقع أمامهم من حوادث وظواهر، وإن فرعون -كما جاء في تفسير السعدي-: "لقي ملأ لا معقول عندهم، فمهما قال اتبعوه، من حق وباطل".

فرعون حين وجد قومه على هذه الشاكلة وتلك السذاجة، قام بزيادة جرعات التجهيل والتسفيه لعقولهم عبر وزارات الإعلام والدعاية الفرعونية، حتى وصل به الأمر إلى الزعم والادعاء أنه ربهم الأعلى، باعتبار أنه مالك لكل خيرات وأنهار مصر يومئذ، مقارنة بهذا الذي يقود حركة معارضة ضده، من فقراء وبؤساء بني إسرائيل -ويقصد موسى عليه السلام- المهين الذي لا يكاد يتكلم بلسان واضح مبين (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يُبين). فصدق الناس تلك الدعايات واتبعوه وساروا خلفه في ضلال مبين.

الوصف القرآني الدقيق لأولئك السذج من قوم فرعون، يبين لك أن قابلية أي شعب للاستخفاف لا تأتي هكذا بين ليلة وضحاها، بل نتيجة فسق متراكم (فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين). ذلك أن أي طاغية -كما يقول سيد قطب رحمه الله- لا يملك أن يفعل بالجماهير هذه الفعلة إلا وهم فاسقون لا يستقيمون على طريق، ولا يمسكون بحبل الله، ولا يزنون بميزان الإيمان، فأما المؤمنون فيصعب خداعهم واستخفافهم واللعب بهم كالريشة في مهب الريح.

إن الخطورة الكامنة في قبول أي شعب عملية الاستخفاف، وعدم بذل الجهد للخروج من الإطار الذي يرسمه لهم أي فرعون، تؤدي بالضرورة إلى إطالة عمر هذا الفرعون أو الطاغية، وتتسبب في تعميق حالة البؤس في أوساطهم، وهم يحسبونها حالة طارئة تزول، وفي واقع الأمر إنها لن تزول، بل إنهم هم أنفسهم، وبحكم الحقيقة القرآنية، معرضون للزوال والعقاب الإلهي "فلما آسفونا" أي أغضبونا وأسخطونا بأفعالهم "انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين".
ويا لها من نهاية بائسة ذليلة.. فهل من مدّكر؟

عن صحيفة الشرق القطرية

0
التعليقات (0)