قضايا وآراء

جيسون غرينبلات: قلب الحقائق وتحويل الضحية إلى جلاد لن يخدم الإستقرار والرفاه في المنطقة

باسم نعيم
1300x600
1300x600

نشر مؤخرا السيد جيسون غرينبلات، مساعد الرئيس دونالد ترامب والممثل الخاص في المفاوضات الدولية، مقالا في صحيفة نيويورك تايمز، حول الأوضاع المأساوية في غزة ودور حماس في هذه الكارثة الإنسانية التي يعيشها سكان القطاع.

 

الحقيقة أننا لم نفاجأ كثيرا مما جاء في المقال من قلب للحقائق وتدليس على القراء، لأن ما ذكره السيد غرينبلات ينسجم تماما مع سياسة الإدارة الأمريكية الحالية والتي تتبنى الموقف الإسرائيلي المتطرف وبالكامل، فكل ما إتخذته الإدارة حتى اللحظة من قرارات او قامت به من إجراءات يعزز تأبيد الاحتلال ويتنكر لكل الحقوق الفلسطينية، بما فيها ما توافق عليه المجتمع الدولي كحد أدنى لحل الصراع.

 

فالإدارة الحالية إعترفت بالقدس عاصمة لإسرائيل وشطبت حق الفلسطينيين في العودة والتعويض، وإعترفت بضم الجولان، وارسلت إشارات واضحة بموافقتها الضمنية على ضم الضفة الغربية المحتلة بالكامل أو جزئيا، ولم تشر في أي موضع لحق الفلسطينيين في دولة مستقلة.

 

حتى أنّ السيد غرينبلات الذي يظهر حرصه على حياة الفلسطينيين ورفاههم، لم يدن الاحتلال الإسرائيلي ولو بكلمة واحدة في كل ما ترتكبه يوميا من جرائم بحق الشعب الفلسطيني، سواء في غزة أو الضفة الغربية أو القدس، التي أدانتها التقارير الأممية والدولية و وثقتها آلاف التقارير الإعلامية، بل على العكس، في كل مرة تعتدي فيه دولة الاحتلال على شعبنا، يبادر غرينبلات وقادته للتعبير عن دعمهم المطلق للإحتلال، بل وإعطائه الحق في المزيد من العدوان، تحت ذريعة الدفاع عن النفس.

 

ولعل ما يحدث هذه الأيام خير دليل، فمنذ أول أمس قتلت إسرائيل 22 فلسطينيا في غزة، بما فيهم أطفال ونساء، وجرحت أكثر من 150 ودمرت حوالي 600 بيت ومنشأة مدنية، ومع ذلك غرد غرينبلات على حسابه الشخصي يتهم الفلسطينيين بالمبادرة لإطلاق الصواريخ على الاحتلال وحقه في الدفاع عن نفسه والرد على العدوان.


لعل أهم ما يميز المقال أنّه من بدايته حتى النهاية يقلب الحقائق رأسا على عقب، ويدلس على القراء، مستغلا عدم معرفة الكثيرين لبعض التفاصيل الميدانية، لتمرير فكرته المسمومة. 


بأسلوب غير موضوعي ومنحاز بالكامل لصالح الاحتلال الإسرائيلي يحاول غرينبلات تحويل الضحية إلى جلاد، حيث يسرد بعض التفاصيل المترتبة عن الحصار المفروض على قطاع غزة منذ أكثر من 12 عاما، وهي في مجملها معلومات صحيحة، كالحديث عن نقص الدواء والكهرباء وإنتشار البطالة وصعوبة الحركة عبر المعابر و تهاوي البنية التحتية، ولكن ما هو السبب الحقيقي لهذه المأساة الإنسانية؟ 


بدون مراعاة للحقائق البينة على الأرض، يدعي أن حماس وسيطرتها على القطاع في عام 2007 هو السبب في ذلك. لو أنكرنا هذه الادعاءات فسيرد البعض أنه متوقع أن تنفي حماس مسؤوليتها عن ذلك، ولكن ماذا يقول السيد غرينبلات في عشرات التقارير الأممية والدولية التي تتهم إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وجرائم بحق الإنسانية، بحصارها لمليوني إنسان فلسطيني في قطاع غزة وحرمانهم من حقوقهم الأساسية، وكان آخرها تقرير اللجنة الأممية المستقلة المنبثقة عن مجلس حقوق الإنسان في جنيف والصادر بتاريخ 25 فبراير من هذا العام. 


قطاع غزة حسب القانون الدولي جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإسرائيل كقوة احتلال هي المسؤولة عن حياة السكان المدنيين واحتياجاتهم اليومية، ولا يمكن تبرير تخلي إسرائيل عن مسؤولياتها بأي أسباب. 


يقارن السيد غرينبلات بين الحياة في غزة وحياة الفلسطينيين في الضفة الغربية، ودون الاستناد إلى أرقام أو حقائق تحاول إيهام القراء بأن فلسطينيي الضفة الغربية يعيشون حياة رغيدة بسبب تخليهم عن العنف. أي حياة رغيدة يعيشها الفلسطيني في الضفة الغربية وهو يتعرض بشكل ممنهج للقتل والاقتلاع من أرضه، والإذلال المقنن على مدار الساعة، كيف يهنأ الفلسطيني وسور الفصل العنصري يفرق بين أبناء الأسرة الواحدة، وقطعان المستوطنين يدمرون مزروعاته ويحرقون بيته ويسرقون مياهه. 


حتى محاولات رئيس السلطة محمود عباس للوصول إلى حل مقبول دوليا، ورغم تحفظ الكثير من الفلسطينيين على مدى جدوى ذلك، بماذا قوبلت أمريكيا واسرائيليا؟ بالمزيد من الاستيطان، بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، بشطب حق اللاجئين في العودة، ورفض الاسرائيليين وجود أي كيان سياسي بين البحر والنهر غير إسرائيل، ووقف الدعم المالي الأمريكي عن الفلسطينيين وإغلاق مكاتب منظمة التحرير في واشنطن وطرد السفير وإغلاق القنصلية الأمريكية في القدس والتي أفتتحت عام 1844، وإلحاقها بسفارة الولايات المتحدة لدى إسرائيل. 


أما الفلسطينيون الذين يعيشون في الأراضي التي إحتلت عام 1948، فلعل العنصرية التي تُمارس بحقهم كانت قبل أعوام مجرد سلوكيات وإجراءات تنفيذية، ولكن اليوم وبعد صدور "قانون القومية" العنصري في سبتمبر من العام الماضي، لم يعد هناك شك أننا نتعامل مع نظام فصل عنصري شكلاً ومضموناً، وكل التقارير الدولية، بما فيها تقارير اسرائيلية، تؤيد ذلك من خلال مئات الأمثلة عن السلوك العنصري للنظام في إسرائيل تجاه المواطنين العرب.


لقد أسهبت في الحديث عن "سوء استعمال" حماس لما يدخل من مواد إلى القطاع في تعزيز بنيتها العسكرية، مستغلا عدم معرفة الكثيرين بتفاصيل العمل على المعابر والحصار المفروض اسرائيليا على القطاع. 


فكم من الناس يعلم أن إسرائيل تمنع حوالي 650 سلعة أساسية من الدخول الى قطاع غزة لأسباب أمنية، بما فيها بعض أنواع حليب الأطفال والاحتياجات الدوائية، حتى شباك الصيد وإحتياجات الصيادين لتطوير وإصلاح مراكبهم، ما حرمهم من الإستفادة من توسيع مساحة الصيد بعد التفاهمات الأخيرة، بل إنها تمنع كثير من احتياجات العاملين في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، لإبقاء القطاع متخلفا عن جيرانه بسنوات. 


ثم إن المواد التي تدعي أنها مزدوجة الاستعمال، فهل تعلم أنها تدخل ضمن نظام أقرته الأمم المتحدة بعد وقف إطلاق النار في عام 2014، ويسمى GRM، والذي تراقبه اسرائيل عن بعد بدقة عالية وتعرف بالتفاصيل حركة المواد التي تدخل إلى غزة من لحظة دخولها وحتى وصولها للمواطن، حتى أن بعض المؤسسات الدولية والعاملين في القطاع الخاص اشتكوا ان هذا النظام يعيق إعادة البناء وترميم البنية التحتية للقطاع بسبب التعنت الإسرائيلي والبحث عن مبررات لإيقاف العمل بالنظام. 


ثم ما دخل وجود حماس أو سلوكها، في أن مئات المرضى الفلسطينيين يموتون كل عام حسب إحصائيات WHO، بسبب منعهم من السفر لتلقي العلاج في الخارج، أو إصدار الموافقة بعد عدة أسابيع، أو حرمان النظام الصحي من كثير من الاحتياجات الأساسية لاستمرار عمله، وفِي مقدمتها الكهرباء. 


لم يذكر السيد غرينبلات في مقاله أن النقص الحاد في الكهرباء في غزة سببه تدمير إسرائيل لمحطة الكهرباء الوحيدة هنا في عام 2006، وعرقلة إسرائيل تدفق الوقود اللازم لتشغيل ما تبقى من المحطة. 


غزة حقا تعاني، ولكن ليس بسبب حماس وإدارتها، ولكن بلا ريب هي مسؤولية إسرائيلية كاملة وللأسف بغطاء دولي. حماس بذلت كل ما في وسعها لتجنيب شعبنا الفلسطيني في غزة أي تداعيات سلبية للحصار الإسرائيلي، ولذلك عملت في عدة اتجاهات وعلى أكثر من مستوى، فأولا فتحنا الأبواب على مصراعيها ويسرنا كل السبل لوصول الدعم الدولي إلى سكان القطاع، وقبلنا بأن تنفذ هذه المشاريع بإشراف دولي كامل بالتنسيق مع الجهات الحكومية. ثم بذلنا جهوداً كبيرا مع الأشقاء المصريين لتأمين جانبي الحدود بين غزة ومصر، لضمان استمرار فتح معبر رفح في الاتجاهين معظم أيام السنة. من ناحية أخرى عملنا بالتنسيق مع الأمم المتحدة والقيادة المصرية للوصول الى تفاهمات تحقق التهدئة مع الاحتلال وتجنب أي تصعيد، كخطوة على طريق فك الحصار وتسهيل حياة الناس هنا.

 

كما اجتهدنا، رغم الظروف المعقدة، في تحقيق إدارة حكومية رشيدة، أنجزت الكثير رغم التحديات الكبيرة، وفِي مقدمة ما أنجزته الأمن والاستقرار واستمرار الأجهزة الحكومية الحيوية في تقديم الخدمات للمواطنين.

 

هذا على المستوى العملياتي الميداني، ولكن على المستوى السياسي الاستراتيجي فقد بذلت حماس جهوداً كبيرة في سبيل تحقيق المصالحة الفلسطينية وإنجاز الوحدة وإنهاء الانقسام وتشكيل حكومة وحدة فلسطينية مقبولة دوليا، ولكن هذه الجهود أُفشلت بسبب الفيتو الأمريكي والتخريب الإسرائيلي، ومن ناحية ثانية بذلنا مع كل شركائنا الفلسطينيين جهدا عظيما للوصول إلى صيغة توافقية، ومقبولة دوليا، حول الرؤية الوطنية للخروج من الأزمة الراهنة وهذا ما عبرت عنه وثيقة الوفاق الوطني في عام 2006، والذي أكدته حماس في وثيقتها الأخيرة والتي نشرت في مايو 2017، بقبولها بدولة في حدود عام 1967 وعاصمتها القدس وحفظ حق اللاجئين في العودة.


حماس حركة تحرر وطني فلسطيني، منتخبة من الأغلبية في الشارع الفلسطيني وبشكل ديموقراطي، حر وشفاف، وبرقابة دولية في الانتخابات التي جرت في عام 2006، تؤمن بحق شعبنا في الحرية والاستقلال وتقرير المصير والعودة. 


نحن لا نتبنى العنف، ولكن نتبنى حقنا في المقاومة بكل السبل المتاحة، بِما فيها المقاومة المسلحة، والتي كفلتها الشرائع الدولية لكل الشعوب تحت الاحتلال، ولكن يبدو أن إدارتك لم تعد تؤمن بالقانون الدولي او الشرعية الدولية، بل تعمل على تجاوزها وتدمير مؤسساتها. 
حماس لم تبادر في أي من الحروب الثلاثة التي شنتها اسرائيل على غزة، في العام 2008 و2012و 2014 على التوالي، طبعا إلى جانب كثيرة من الاعتداءات البينية، إلى استدراج الحرب، ولكن إسرائيل هي من بادرت في كل مرة، ويمكنك والقراء مراجعة تسلسل الأحداث في حينه، وحماس دافعت عن شعبها بما تملكه من إمكانيات محدودة، لا تقارن بما لدى الاحتلال من أسلحة متقدمة وفتاكة.


الشعب الفلسطيني بكل فصائله وقواه الحية، بما فيها حماس، خرجوا في تظاهرات سلمية، وبشهادة الامم المتحدة، نحو السلك الفاصل شرق قطاع غزة، يطالبون برفع الحصار عن غزة، والتأكيد على حقهم في العودة، فماذا كان رد الاحتلال؟ استخدام الذخيرة الحية والقناصين للقتل والتشويه، وماذا كانت النتيجة بالأرقام ؟ حوالي 280 قتيلا فلسطينيا، وأكثر من 28 ألف جريح، كثير منهم سيعيش بقية حياته معاقا، وفِي الجانب الآخر لم يقتل اَي إسرائيلي بسبب التظاهرات. ومثل هذه السيناريوهات نراها يوميا وان كان بحجم أصغر في الضفة الغربية. 


حماس تتحمل كل هذا الضغط والحصار والملاحقة فقط لأنها تضع غزة وفلسطين أولاً، ولكن ليس حسب الرؤية الأمريكية المطابقة للرواية الإسرائيلية. 


أبشرك أن حماس لن تغيب عن المشهد، لأن حماس ليست مجموعة مارقة، بل هي جزء أصيل وكبير من الشعب الفلسطيني، وهي تعبر عن موقف الملايين من الفلسطينيين في الداخل والخارج، ولكن ما أبشرك به من الآن أن صفقتكم لشطب القضية الفلسطينية لن تمر وستُمنى بفشل ذريع، وبدلا من التعامي وتمني المستحيل، فإن المطلوب هو أن تثوبوا إلى رشدكم وتدركوا جيداً أن السلام والاستقرار لا يبنى هنا أو في أي مكان في العالم على الأكاذيب وتشويه الحقائق، بل على العدل والإنصاف. 


والعدل يقتضي احترام حقوق وطموحات شعبنا الفلسطيني في الحرية والاستقلال، ليساهم في صناعة الخير والرفاه لنفسه ولشعوب المنطقة، بل والعالم أجمع. 

 

د. باسم نعيم
عضو مكتب العلاقات الدولية في حركة حماس 

0
التعليقات (0)