مقالات مختارة

«صراع الحضارات» لا مكان له في سياسة أمريكا الخارجية

هال براندز
1300x600
1300x600

لا نستطيع القول إن كبار المسؤولين الأمريكيين غالبا ما يتذرعون بأفكار أكاديمية بحتة بالحكم على الأشياء من خلال أبراج عاجية عالية.


لكن بداية الأسبوع الحالي، استخدمت كيرون سكينر، مديرة إدارة التخطيط السياسي بوزارة الخارجية الأمريكية، مفهوما مثيرا للجدل ابتدعه صامويل هنتنغتون، الأستاذ بجامعة هارفارد، في وصف التنافس الأمريكي الذي اتضحت ملامحه مع الصين.


ففي الكلمة التي ألقتها بمركز بحثي بواشنطن، قالت سكينر، إن نهوض الصين يشكل تحديا للأجيال المقبلة وهو ما يتطلب استجابة واعية منهم. كما جادلت بأن التنافس يمثل «صدام حضارات» عظيما، وهو مصطلح ابتكره هنتنغتون الذي توفي عام 2008، وقد ابتكره ليتنبأ بما سيحدث بعد نهاية الحرب الباردة.


إن إدارة ترامب بلا شك على حق في أن التنافس مع الصين سيستغرق عقدا كاملا، ومع ذلك فإن نموذج صدام الحضارات لن يساعد الولايات المتحدة في الفوز بهذه المنافسة؛ لأنها تدعم بالفعل استراتيجية بكين أفضل مما تدعم الولايات المتحدة.


قدم هنتنغتون أطروحة الصدام في مقال شهير عن السياسة الخارجية الأمريكية عام 1993، وجادل بأنه مع انهيار الشيوعية لم تعد المنافسات الآيديولوجية هي ما يقود شؤون العالم، وبدلا من ذلك سيحدث صراع بين الثقافات والدين والهوية، وأن الحضارة الغربية في أوروبا وأمريكا الشمالية وحضارة «سينيك» التي تضم الصين والكثير من جيرانها الآسيويين، ستكون من ضمن الحضارات المتصارعة.


اكتسبت أطروحة الصدام شعبية وسط صراعات دامية بين المجتمعات الإسلامية والمسيحية في يوغوسلافيا السابقة، خاصة بعد اندلاع الحرب على الإرهاب عقب أحداث 11 سبتمبر. ورغم ذلك فقد رفضت الحكومة الأمريكية الإطار الذي رسمه هنتنغتون، فيما جادلت إدارة جورج دبليو بوش بأن الحرب على الإرهاب كانت نتاجا لصراع داخل حضارة واحدة - الاتجاهات المتسامحة وغير المتسامحة من العالم الإسلامي - ولم تكن نتاجا لصدام بين العالم الإسلامي والغرب.


اليوم هناك اختلافات ثقافية عميقة بين الولايات المتحدة والصين، بالإضافة إلى عدد لا يحصى من الضغوط الاقتصادية والجيوسياسية، لكنّ منتقدي إدارة ترامب سيرون صراع الحضارات بوصفه صدى للفكرة التي روج لها مستشار ترامب السابق المثير للجدل ستيف بانون، الذي قال إن العالم قد وصل إلى مواجهة بين الغرب المسيحي وبقية العالم. حتى وإن نحينا تلك الإشكالية العويصة جانبا، فإن المفهوم لا بد أن يأتي بنتيجة عكسية من الناحيتين الآيديولوجية والجيوسياسية.


إن خطاب «الصدام» يضحي بالعنصر الأخلاقي في المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. فلطالما ادعت الولايات المتحدة أن القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ليستا من الأفكار الغربية المميزة، وبأنها أفكار عالمية يستحقها الناس في كل مكان للاستمتاع بها، وليس لأي حكومة كانت الحق في حرمان شعبها منها.


رغم تطبيق هذه الجدلية في بعض الأحيان بشكل انتقائي، فإنها تمثل قوة أساسية في السياسة الخارجية للتعريف بتطلعات الناس في مختلف أنحاء العالم، حتى في البلدان التي تسيطر عليها أنظمة معادية. علاوة على ذلك، فقد استخدم المسؤولون الأمريكيون فكرة حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية على أساس أنها فكرة عالمية، ووظفوها كهراوة عقائدية ضد الحكومات الاستبدادية، كما كان الحال عندما أثرت بدرجة كبيرة على الاتحاد السوفياتي خلال مرحلة الحرب الباردة.


على النقيض من ذلك، فقد تبنت الحكومة الصينية مفهوم الاختلافات الحضارية كوسيلة للحماية الذاتية. ولطالما رفضت بكين فكرة إجبارها على تحرير نظامها السياسي، أو ببساطة التوقف عن إلقاء المنشقين في السجون، على اعتبار أن المفاهيم «الغربية» للديمقراطية والحقوق الفردية لا تتناسب مع تقاليد الحضارة الصينية الفريدة.


لا ينبغي على الولايات المتحدة دعم هذه الفكرة ولو ضمنيا، ولا ينبغي عليها تأكيد الجدار الحضاري الذي سعت الصين لبنائه لعزل مواطنيها عن العالم الديمقراطي.


تعتبر أطروحة الصدام خطيرة من الناحية الجيوسياسية نظرا لوقوعها بين يدي الصين. فالحكومة الصينية جادلت منذ زمن بعيد بحتمية خضوع العالم إلى تقسيمات وفق خطوط حضارية: فالآسيويون لديهم المزيد من القواسم المشتركة بعضهم مع بعض أكثر مما لديهم مع الولايات المتحدة، ومن ثمّ يتعين على واشنطن ترك آسيا للآسيويين، مما يعني أنه عليها السماح للصين بالسيطرة على هذا الجزء من العالم.


إن هذا المنطق يمنح حجة فكرية لكل ما تفعله بكين لدفع الولايات المتحدة خارج منطقة غرب المحيط الهادي، مما يضعف من تحالفات الولايات المتحدة، ومن سعيها لبناء جيشها ومن قدرتها على تكوين شبكات تبعية اقتصادية مع جيرانها.


إن فكرة رسم حدود دقيقة بين الشرق والغرب هي أمر مهم لاستراتيجية الصين ومميت بالنسبة للولايات المتحدة؛ فالمواجهة بين الصين والولايات المتحدة ستحتاج إلى بناء تحالف يضم الحضارات ويشمل، على سبيل المثال، ديمقراطيات نصف الكرة الغربي وأوروبا ومجموعة من الدول الآسيوية التي تضررت من صعود الصين.


إن بناء تحالف متوازن في مواجهة الطموحات الصينية سيكون قويا بما يكفي، ولا ينبغي على الدبلوماسيين الصينيين النظر إلى هذه المهمة باعتبارها تحديا صعبا.

 

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية

0
التعليقات (0)