قضايا وآراء

إيران بدأت ترد.. ماذا ستفعل أوروبا؟

صابر كل عنبري
1300x600
1300x600

التزمت إيران الصبر عاما كاملا على تداعيات الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، والتي صفّرت منافعها الاقتصادية من الاتفاق النووي وسط إطلاق تهديدات وتحذيرات جمة، من دون أن تنفذ، على أمل أن يقوم بقية الشركاء في الاتفاق، أي الترويكا الأوروبية والصين وروسيا بالتعويض لها عن الخسائر التي نجمت عن الانسحاب الأمريكي، لكنّها اختارت بالذكرى السنوية الأولى له، التي صادفت الأربعاء الماضي، لتعلن من خلال جملة قرارات مخفضة لمستوى تعهداتها النووية، أنها بصدد اعتماد سياسة جديدة وتغيير سياسة "الصبر الاستراتيجي" التي لطالما مارستها خلال العام الأخير. 

تحذير وإعلان لمرحلة جديدة

وجاء هذا الموقف الإيراني بعدما فشل أو عجز هؤلاء الشركاء عن القيام بما يحول دون تحول الاتفاق النووي إلى اتفاق من جانب واحد، لتنفذ طهران كافة تعهداتها بموجبه من دون مقابل، الأمر الذي دفع الأخيرة إلى اعتماد السياسة الجديدة، بعد أن شعرت أن الاستمرار في المسار الذي سلكته خلال العام الأول من الانسحاب الأمريكي، بات يحمل على محمل الضعف، بالتالي فإن قراراتها الأخيرة جاءت اضطرارا وليس اختيارا. 

المرحلة الأولى من هذه القرارات "الاضطرارية" ليست إلا رسالة تحذير وتمهيد للمرحلة الثانية منها، والتي تحظى بأهمية قصوى، في كونها تشمل إيقاف تعهدين "مهمين" للغاية، يلغي القيود المفروضة على مستوى تخصيب اليورانيوم وتفعيل مفاعل أراك للمياه الثقيلة. وكما هو معروف فإن موضوع تخصيب اليورانيوم وتحديده بنسبة 3.67، يشكل صلب الاتفاق النووي، فإذا ما قررت إيران رفع مستواها بنسبة عشرين بالمائة، التي وصلت إليها خلال المفاوضات المؤدية إلى الاتفاق النووي عام 2015، أو أكثر من ذلك، وكذلك تفعيل مفاعل أراك، فإنها تكون قد انسحبت من الاتفاق، وحتى إن لم تعلن عن ذلك بشكل صريح، لأنه يكون قد انهار الركن المتبقي من ركني الاتفاق النووي، المتمثل في التعهدات النووية الإيرانية، بعدما هدمت واشنطن مسبقا الركن الآخر المتمثل في العقوبات المرفوعة بموجب الاتفاق، من خلال إعادة فرضها والاستمرار في ذلك بلا هوادة، من دون أن تقوم أوروبا باللازم لإعادة بنائه. 

قرارات مرحلية

لكن أن تكون هذه القرارات الإيرانية "مرحلية"، وأن يؤجل تنفيذ المرحلة الأهم إلى ما بعد ستين يوما، يعني أن طهران لم تترك سياسة "الصبر الاستراتيجي" جانبا، مرة واحدة، وإنما بشكل تدريجي ومرحلي، على أمل أن ينفذ بقية شركاء الاتفاق تعهداتهم، الأمر الذي يؤكد أن السلطات الإيرانية لم تغلق الباب وإنما أبقته مواربا للعودة إلى الوراء، بدعوتها إلى التفاوض مع هذه الأطراف الخمسة، ولاسيما الترويكا الأوروبية (بريطانيا وفرنسا وألمانيا). وخص الأوروبيين بالذكر لأن من دونهم، ليس بإمكان الصينيين والروس، القيام بما يضمن لإيران بقاءها في الاتفاق. 

 

بدا أن طهران باتباعها سياسة "الردود المرحلية"، تكون قد رمت الكرة إلى الملعب الأوروبي


أما التفاوض الذي تريده طهران، ليس تفاوضا على النمط الذي جرى عليه خلال العام الأخير، بل تحت طائلة "الردود المرحلية"، أو كما قال الرئيس الإيراني حسن روحاني، بلغة جديدة. يؤكد ذلك أن الهدف الإيراني من تقليص تعهداتها النووية، هو رفع قدرة طهران على المساومة ودعم مواقفها في أي مفاوضات محتملة مع الأوروبيين، لدفعهم إلى تلبية مطالبها المتمثلة في تمكينها من الاستفادة من منافع الاتفاق النووي وخصوصا في القطاعين المصرفي والنفطي. 

بدا أن طهران باتباعها سياسة "الردود المرحلية"، تكون قد رمت الكرة إلى الملعب الأوروبي، مع إرباك الحسابات الأوروبية في الوقت نفسه، لتتحمل أوروبا مسؤولية تقرير مصير الاتفاق النووي، إن كانت تريد إنقاذها عبر إجراءات جرئية ومواجهة العقوبات الأمريكية أو أن تعزف نفس المعزوفة التي تعودت آذان العالم على سماعها خلال عام كامل لتدفن بذلك أبرز ثمار الدبلوماسية الدولية خلال العقود الماضية. 

فأوروبا التي حاولت خلال العام الذي مرّ على الانسحاب الأمريكي لتشجيع الإيرانيين على البقاء في الاتفاق النووي عبر مواقف كلامية مشفوعة بالتخويف من أن البديل هو الحرب، أصبحت اليوم في وضع لا يُحسد عليه، بعدما فشلت تلك السياسة المتعبة في إقناع طهران بالبقاء في الاتفاق، سواء كانت تلك السياسة نابعا من توزيع للأدوار مع الإدارة الأمريكية أو عجز عن قيام بخطوات عملية.

الترويكا الأوروبية ترفض المهلة الإيرانية

ينبعث مما سبق، سؤال ملح ما إذا كان الأوروبيون سيتجاوبون مع المطالب الإيرانية خلال مهلة ستين يوما، أم لا؟ لا أحد يملك الإجابة الدقيقة والشافية عليه إلا الترويكا الأوروبية التي رفضت المهلة الإيرانية. هذا الرفض بالرغم من أنه يمثل مؤشرا مبكرا على السياسة التي يمكن أن تتخذها أوروبا خلال المرحلة المقبلة تجاه التوجه الإيراني "الاضطراري" في التعامل مع الاتفاق النووي، لكنه لا يعتبر موقفها النهائي منه. وعلى الأغلب هذا الرفض المبكر يهدف إلى تخفيض سقف المطالب الإيرانية خلال أي مفاوضات محتملة تجريها مع الجانب الإيراني. 

 

السياسات الأوروبية تساير السياسات الأمريكية بشكل عام تجاه الملفات والقضايا العالمية


هذه المفاوضات حال بدأت تحت ضغط القرارات الإيرانية، يستبعد أن تستجيب فيها الترويكا لمطالب طهران بالقدر الذي يحبط مفعول العقوبات الأمريكية، لأسباب كثيرة، أهمها أن الأوروبيين بالرغم من رفضهم العلني للموقف الأمريكي من الاتفاق النووي، إلا أنهم لا يزالون يأملون من أن تجبر الضغوط الأمريكية "القصوى" طهران على الجلوس إلى طاولة التفاوض مرة أخرى لتضمين ملفات أخرى ظلت محل اهتمامهم، في مقدمتها البرنامج الصاروخي الإيراني إلى اتفاق شامل. 

كما أن استقراء السياسات الأوروبية على مدى العقود الماضية بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، وسيما طيلة العام الذي مرّ على الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، يؤكد أن السياسات الأوروبية تساير السياسات الأمريكية بشكل عام تجاه الملفات والقضايا العالمية، رغم وجود خلافات بين الجانبين إزاء هذه الملفات، ولو ظلّ الأوروبيون مصرّين على مواقفهم، لكنّهم لا يظهرون أي مقاومة تذكر أمام واشنطن، ليسري في نهاية المطاف موقف الأخيرة على أرض الواقع. وخير مثال على ذلك، هو الموقف من القضية الفلسطينية، وخاصة خلال السنوات الأخيرة، حيث مع وجود تباينات في ذلك بين الجانبين وتأكيدات أوروبية مستمرة على حل الدولتين، لكنهم أمام محاولات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وفريقه خلال هذه السنوات، والتي لم يبق لهذا الحل سوى إسما، لم يفعلوا شيئا، مكتفين بمواقف كلامية لا تغني ولا تسمن من جوع.  

لكن رغم ذلك، وبالنظر إلى أن البديل عن الاتفاق النووي "كارثي" ليس لأمن المنطقة، وإنما لأمن العالم بما فيه أوروبا التي ستكون هي المتضرر الأول من انهياره قبل غيره، فإنه قد تسعى إلى اتخاذ إجراءات "خجولة" في المفاوضات المحتملة في إطار آلية "إنستكس" التي أعلنت عنها لدعم المبادلات التجارية مع إيران، في كانون الثاني (يناير) الماضي، لعلّها ترضي بذلك الإيرانيين، مع إطلاق وعود جديدة. 

هذه الإجراءات، أيا كانت طبيعتها، يستبعد جدا أن تقنع طهران أو أن تعوّض لها عن الخسائر التي تسبّب بها انسحاب واشنطن من الصفقة النووية، لكن قد تنجح أوروبا بها في شراء مزيد من الوقت وتمديد المهلة الإيرانية، والحؤول مؤقتا دون انتقال طهران إلى تنفيذ المرحلة الثانية من ردودها المرحلية. أما في نهاية المطاف أمام المماطلة الأوروبية الجديدة ستضطر طهران إلى تطبيق هذه المرحلة، والانسحاب من الاتفاق النووي. 

 

لا تملك طهران خيارا سوى الصمود وخوض المواجهة، أيا كانت طبيعتها، مع انعدام شبه كامل لأي فرص للدبلوماسية والتفاوض مع الإدارة الأمريكية


وأخيرا يمكننا من الآن اعتبار الاتفاق النووي منهارا بشكل كامل في ظل العجز الأوروبي في إنقاذه، لتحدد مآلات ما بعد ذلك، نتائج الصراع المتصاعد يوميا بين واشنطن وطهران، والتي أصبحت مفتوحة على جميع الاحتمالات بما فيها الاحتمال الأسوأ الذي أصبحت تتزايد فرصه على ضوء التصعيد الأمريكي الخطير. والمقبل من الأيام ستكون حبلى بتطورات جسام على هذا الصعيد. 

أمام هذا الوضع لا تملك طهران خيارا سوى الصمود وخوض المواجهة، أيا كانت طبيعتها، مع انعدام شبه كامل لأي فرص للدبلوماسية والتفاوض مع الإدارة الأمريكية في الوقت الراهن، والدعوة التي أطلقها ترامب أخيرا لإجراء مفاوضات مع إيران تحت ضغط الرسائل العسكرية المتمثلة في إرسال حاملات الطائرات ووحدة من القاذفات إلى المنطقة، هي دعوة ملغومة، لا تشكل أدنى فرصة للعودة إلى طاولة التفاوض، يعرف ذلك صاحب الدعوة قبل غيره. 

التعليقات (0)