مقالات مختارة

ورشة البحرين الاقتصادية فشلت قبل عقدها

سعيد الشهابي
1300x600
1300x600

لعلها المرة الأولى في تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي التي ترفع فيها دول عربية عديدة الراية البيضاء بوجه عدو غاشم، مع أنها ليست المعنية مباشرة بالصراع، وهو التطور السلبي الأكبر منذ النكبة قبل 71 عاما. ومع أن هذا الاستسلام لم يكن متوقعا بهذه السرعة، إلا أنه كان نتيجة عملية تطبيع تواصلت بضع سنوات، في الخفاء تارة وفي العلن أخرى. وقد ساهمت ظروف محلية ودولية في توفير مناخ الاستسلام، ضمن أطر بعيدة عن المبادئ أو الأخلاق أو القيم. الاستسلام هذه المرة يتم بشكل قبيح جدا للأسباب التالية:


الأول؛ أنه يمول بأموال النفط الهائلة التي تحتويها خزانات المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية، ولم يحدث من قبل أن دفع المستسلمون ضريبة مقابل تنازلهم عن حقوق مشروعة، رفعت الشعوب العربية رايتها طوال العقود السبعة الماضية. الهدف من هذه الأموال شراء مواقف أصحاب القضية، وإجبارهم على قبول الاستسلام الذي ينطوي على التنازل عن وطنهم المحتل لصالح قوات الاحتلال، مقابل استلام تلك الأموال التي قد تبقى وعودا ولا يتم تسليمها للمتنازلين عن أرضهم.


الثاني؛ أن مراسم الاستسلام تقام على أرض عربية يفترض أن تكون حكومتها شريكة في التضامن مع الشعب المنكوب بالاحتلال وليس مع محتلي أرضه. فالبحرين ليست مضطرة للسماح بعقد ما أطلق عليه «ورشة السلام من أجل الازدهار»، خصوصا أن شعبها يتميز بصلابة موقفه تجاه قضية فلسطين. هذا الشعب هو الذي استقبل الحاج أمين الحسيني في 1936 وحمله على الأكتاف تقديرا لفلسطين، عندما كان رئيسا للهيئة العربية العليا. هذا الشعب هو الذي رفض سبعون من أعيانه في 1948 دعوة من قبطان مدمرة أمريكية رست في مياه البحرين، لحضور حفل على متنها، ووقعوا رسالة قالوا فيها إنهم يرفضون دعوة من دولة اعترفت بـ «إسرائيل». وأبناء البحرين هم الذين خرجوا في تشرين الأول/ أكتوبر 1956 احتجاجا على العدوان الثلاثي على مصر، الذي شاركت فيه كل من بريطانيا وفرنسا بجانب «إسرائيل» واستولوا على قناة السويس. تلك الاحتجاجات دفعت البريطانيين لإنزال قواتهم في شوارع المنامة، واعتقلت قادة هيئة الاتحاد الوطني المعارضة، ونفوا ثلاثة من قادتها إلى جزيرة «سانت هيلانة» وسط المحيط الأطلسي. وفي أيلول/سبتمبر 2001 قدم شعب البحرين شهيدهم الشاب محمد جمعة الشاخوري أمام السفارة الأمريكية في المنامة خلال احتجاجات ضد قتل الشهيد محمد الدرة. هذا الشعب نفسه يقف اليوم معارضا باحتجاجاته في الليالي الرمضانية استخدام أرضه لرفع راية الاستسلام التي رفعها التحالف السعودي ـ الإماراتي أمام العدو الإسرائيلي.


الثالث؛ أن الاستسلام لم يأت بسبب قوة العدو أو ضعف الجانب العربي، بل نتيجة صفقات سياسية وأمنية عقدتها أنظمة عربية محددة مع «إسرائيل» برعاية أمريكية، وفي ظل ضعف هذه الأنظمة سياسيا وأمنيا، فالإسرائيليون يمرون بحقبة من الضعف والخور غير مسبوقة في تاريخهم؛ فقد خسروا الحروب كافة التي شنوها في الأعوام الأربعة عشر الأخيرة ضد فصائل المقاومة اللبنانية (ممثلة بحزب الله)، والفلسطينية (ممثلة بحركتي حماس والجهاد الأسلامي ومنظمات عديدة أخرى). ويواجهون انقسامات داخلية غير قليلة، بالإضافة لتصاعد ما يسمونه «معاداة السامية» في الغرب بسبب سياسات الحكومة الإسرائيلية، وأساليب الابتزاز التي تمارسها لخدمة سياسات احتلالها. يعرف الأوروبيون مثلا أن «إسرائيل» وقوى الضغط التابعة لها في أمريكا ساهمت بشكل مباشر في دفع الرئيس الأمريكي لإلغاء الاتفاق النووي مع إيران، وهو الإنجاز الأكبر للدبلوماسية الدولية في العقود الأخيرة. فالكيان الإسرائيلي اليوم ليس هو الذي هزم الجيوش العربية في أغلب الحروب منذ النكبة، بل فقد الكثير من هيبته بعد بروز حركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية التي ترفض الاعتراف بوجوده. فمن الذي أعطى تحالف قوى الثورة المضادة الذي ينظم لقاء الاستسلام في البحرين حق إلغاء الحلم الفلسطيني ودعم «إسرائيل» غير المحدود أو المشروط؟


الرابع؛ أن حكومة البحرين لا يحق لها أن تورط الشعب في مبادرات من هذا النوع، دون استشارته أو عرض المبادرة على المجالس الصورية التي أنشأتها لإسكات المعارضين والجهات الدولية الناقدة لسياساتها. إنها بهذه الأساليب تصب الزيت على النار، وتعمق حالة الاستقطاب السياسي والفكري في بلد صغير لا يكاد يطعم سكانه.

 

البحرين تعيش أزمة سياسية كبيرة منذ ثمانية أعوام، وتعاني من حالة استقطاب حادة مع المواطنين الذين لم يتوقفوا حتى الآن عن الحراك السلمي من أجل تغيير سياسي جوهري. وتمارس هذه الحكومة أبشع أساليب الاضطهاد والتنكيل بمعارضيها، في الوقت الذي تعاني فيه من تصدعات في صفوف رموزها، كما ظهر مؤخرا من شد وجذب بين القصر الملكي ورئاسة الوزراء، بعد قيام رئيس الوزراء بالتواصل مع حكومة قطر. ذلك الاتصال أدى لغضب سعودي وإماراتي، دفع مسؤولي هذه البلدان لإصدار توضيحات وتأكيدات لسياساتهم تجاه دولة قطر، التي رفضت الاستسلام للسعودية التي تسعى لفرض هيمنة مطلقة على المنطقة.

 

حكومة البحرين تعرف أن ردة فعل الشعب ستكون غاضبة جدا، ولذلك عمدت لتجريم انتقاد سياساتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقد اعتقل العديد من البحرانيين بسبب ذلك وسجن بعضهم ثلاث سنوات عقابا لهم.


هذه الحقائق تؤكد أمورا عديدة: أولها إصرار الولايات المتحدة على مصادرة القضية الفلسطينية بأي صورة، وتوجيه سياستها الخارجية لتحقيق ذلك. ثانيها: عجز حكومات دول مجلس التعاون الخليجي عن أداء دور يتناغم مع الأدوار القومية والتطلعات التقدمية لدى قطاعات واسعة من أبناء الأمة. ثالثا: محور المقاومة أصبح موجعا للاستسلاميين الذين يبحثون عن مخارج لسياساتهم، بعد أن أثبتت التطورات عدم جدواها. هذه الحقائق تؤكد أن روح المقاومة ما تزال مختزنة في نفوس الكثيرين، وأن توالي العقود على القضية الأم، لم يضعف بريقها أو يقلل حماس الشعوب العربية تجاهها، برغم هيمنة ثقافة الاستسلام لدى العديد من الأنظمة العربية، وشيخوخة قياداتها، وتوسع نفوذ التحالف الإنجلو ـ أمريكي في العالم العربي.


التحالف السعودي ـ الإماراتي ضمن محور الثورة المضادة يؤسس موقفه السياسي الجديد على تراجع الإرادة الفلسطينية وضعف أجهزتها وآلياتها، ويرى في هذا الضعف عامل تشجيع لجذب القيادات الفلسطينية نحو «صفقة القرن»، التي ما برحت تفصيلاتها خافية عن الناس. ولكن اتضح الآن من ردود فعل الفلسطينيين أنهم ليسوا كذلك؛ فالسلطة الفلسطينية ترفض مشروع ندوة البحرين وتعتبره خطوة خيانية للقضية. وقال رئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتيه، إن الفلسطينيين لا يبحثون عن الرفاهية الاقتصادية تحت الاحتلال، موضحا أن «القيادة الفلسطينية لم تُستشر حول الورشة لا من ناحية المدخلات ولا المخرجات ولا التوصيات، ولا حتى الشكل والمضمون». وقال رئيس الوزراء: «الأزمة المالية التي يعيشها الفلسطينيون نتاج الحرب المالية التي تُشن عليهم بهدف الابتزاز السياسي. إنهم لن يرضخوا لهذا الابتزاز». وأعلنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وفصائل المقاومة في غزة، أنه «لا لمقايضة الحقوق بالاستثمارات الاقتصادية»، ورفضت «ورشة البحرين» واعتبرتها «طعنة في خاصرة الأمة».


الأمر الواضح أن مخططي ما يسمى «صفقة القرن»، يأملون بإقامة منظومة سياسية في الشرق الأوسط أكثر ارتباطا بالولايات المتحدة الأمريكية، وأقل تحسسا ورفضا للكيان الإسرائيلي، وأقل حماسا لتحرير فلسطين أو إقامة دولة فلسطينية. ويعلم هؤلاء المخططون أن ذلك لا يمكن تحقيقه إلا بالحفاظ على الأنظمة السياسية القائمة، التي تشعر بشكل دائم بالحاجة للدعم الغربي على صعيدي السياسة والأمن. ويفترض أن تلك الصفقة تتضمن أيضا، إبقاء المنطقة خارج الإصلاح السياسي أو التحول الديمقراطي.

 

عن صحيفة القدس العربي

0
التعليقات (0)