كتاب عربي 21

العيد أن نعيد ما ينبغي أن نعيد

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)

ليس هناك ما يستوجب قطع تسلسل "مقالات الحريق"، فالقضايا في المنطقة تشتعل ذاتيا ثم تتحول إلى رماد قبل أن ننظر فيها، لنلهث بعدها إلى حريق جديد، وننتقل من رماد إلى رماد، فهذا واقعنا بكل صراحة وكل أسف، لكنني أردت أن أتوقف وسط الخرائب لأبتسم في وجوهكم وأصافحكم باليد وألقي عليكم تحية العيد، وأسألكم عن الحال وعن إمكانية تغييره للأفضل:

كل عام وأنتم بخير، وإذا لم يكن الخير واقعياً، فكيف يمكن أن نحيل هذا البؤس إلى خير؟ كيف يمكن أن تتجاوز أمتنا كل هذا العته، وكل هذا التخلف، وكل هذا التسلط، وكل هذا الهوان المرير الذي تغرق فيه؟

باختصار وفي سؤال واحد: هل يمكن لهذه الأمة أن تتغير بإرادة ذاتية (في لحظة فاصلة) فتعزم أمرها وتحسم قرارها بالخروج من هذا الحال المهلك وتبدأ "عصراً جديداً" لا تدخله مثقلةً بالغم والفرقة والفشل.. متعثرة في الأطلال والأشلاء، بل تدخله مفعمة بالأمل والرغبة الصادقة في ترميم الشروخ وبناء الوطن المنشود؟

(2)

السؤال لطيف وبريء، لكنه متكرر لدرجة تدعو إلى الشك، حتى أن هذا المقال، بمعظم عباراته عن "البداية الجديدة"، يتكرر كل فترة بألفاظه ومعانيه، وكأنني لا أملّ الدوران حول الفكرة ذاتها، فكرة "الميلاد الاختياري الممكن". قد يكون للتكرار وجه إيجابي يتمثل في الإصرار على التجدد والنهوض، وقد يكون له وجه سلبي يتمثل في عدم التعلم وعدم القدرة على تجاوز الإخفاق المتكرر، لكن لا بديل عن الاستمرار في المحاولة، خاصة وأنني كإنسان وجودي حالم سأظل أتعلق بأمل الصحوة الحضارية لمجتمعنا مهما كانت المعوقات، فأنا من المؤمنين بفكرة "الميلاد الاختياري"، ومن المؤمنين بقدرة الإنسان على تقرير مصيره في أي لحظة بالطريقة التي يراها، وكل ما عليه أن يعزم ويحسم، فيضع خطاً فاصلا بين حياة "كانت" ليبدأ من جديدٍ حياةً "يجب أن تكون".

(3)

إذا كانت لديكم حساسية من الفلسفة الوجودية، وتبنيها لفكرة "الميلاد الثاني"، يمكنكم أن تستقبلوا الفكرة حسب معتقداتكم الدينية، فما أتحدث عنه قريب من ثورة "التوبة"، بمعنى أن يدرك الإنسان في لحظة ملهمة أن حياته على خطأ كلها أو بعضها، فيقرر في لخظة وعي مغاير أن يستبدل الكثير من سلوكه ومفاهيمه لصالح خيره وخير الناس من حوله، وهذا هو سر عدم يأسي من الإصلاح، ومن عودة العدل، ومن انتصار الحق، فقد يكون الظالم الذي ندعو الله أن يخسف به الأرض، هو المنصف الحامي بعد توبته وصلاح أفكاره وسلوكه، لذلك لا أحب أن أدعو على القوي الظالم المتغطرس: الله يحرقه، بل أدعو له: الله يهديه ويصلح حاله ويسخره لخدمة الخير وحماية الضعفاء.

(4)

هذه الفكرة الخطرة في الرهان على الأمل، تستوجب يقظة شديدة، وإدراك لمظاهر الخير وكوامن الشر، حتى لا ننساق وراء الظالمين متذللين متزلفين، على أمل أن يكونوا منصفين في يوم ما، إذا يجب أن نردهم عن ظلمهم بقدر استطاعتنا، نغلق في أوجههم طريق البطش والفساد، ولا نقبل به ما دامت صدورنا تستقبل الشهيق وتطرد الزفير، ونفتح أبواب الخير لمن يريد أن يسلك طريق الحق غير مخادع ولا مناور.

(5)

هذه الشروط الصعبة، لن يقدر عليها الجميع، لكنها ضرورة لكل من يقدر عليها، حتى لا نصنف الآخرين في خانة: "ملائكة إلى الأبد"، أو "أعداء إلى الأبد".. فكل إنسان يحمل الخير كما يحمل الشر، ونحن نحتمل الشر إذا كان في حدود الخطأ الذي يقبل التصحيح وعدم العودة إليه، وهذا الاحتمال قد يفتح طريق الخير أمام الشرير، ولا يجعله مضطرا للاستمرار في الشر كطريق بلا بديل، لمجرد تصوره أن الناس لن تتسامح معه.

(6)

إذا حاولنا تسييس هذه الفكرة الأخلاقية المستمدة من الدين ومن الفلسفة، فإنها تصلح كأساس لبناء فكرة المواطنة، كما تصلح كأساس لأسلوب المراجعة السياسية في سنوات ما بعد ثورة يناير، وتصلح أيضا كأساس ومعيار للحكم على جدية فكرة المصالحة الوطنية بين كل فئات الشعب، وتصلح أيضاً كممر آمن للانسحاب من سلطة الضرورة التي فرضتها ظروف احتقان دموي جلب الكثير من الكراهية ومن التمزق النفسي الذي أضر بالكيان الإنساني وبالتالي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لبلدنا.

(7)

باختصار شديد، فإن فكرة "بداية جديدة" تعني قياس مقدار الرغبات الفردية والجماعية في "التوبة" بكل أنواعها.. توبة الحاكم عن بطشه واعتماده على قوة العصا بدلا من قوة الفكرة، وتوبة الفاسد عن فساده، وتهيئة المجتمع لطموح الرزق الوفير بالحلال بدلا من الثراء بامتصاص دماء الفقراء، وتوبة الحاقد والكاره والحاسد والكاذب والمنافق، والطماع والجشِع، والعودة ما استطعنا إلى أخلاق العدل والمودة والرحمة والتكافل والتسامح والتعاضد.

(8)

شعرت قبل نهاية المقال برغبة شريرة في حذفه، فقد وسوس لي شيطاني أنه مقال ساذج، يخلو من الرؤية السياسية الناقدة، ويشبه "موعظة بلاغية" لن يصدقها إلا من يفكر فيها، لكنني أحببت فكرة "الموعظة" حتى لو كانت ساذجة ومكررة، فهي تليق بالبدايات، وبمواسم الفرص الجديدة، وبالأمل في هداية الله لخلقه، مهما بلغ عصيانهم، والأهم من ذلك أنها تنسجم مع فكرة إنسانية غريزية تسكن جميع البشر، من الرئيس إلى الحبيس، فالرئيس يحلم بالمعجزات ويتصور أنه حقق الكثير منها لمجرد أنه شق الطرق وافتتح مزارع ومصانع ومؤسسات، والحبيس يحلم بمعجزة الحرية في وطن يضيق بناسه وعلى وناسه، بينما أحلم أنا وأمثالي من السذج، بدولة دستور ومرجعيات قانونية وأخلاقية تساوي بين أبناء الوطن بصرف النظر عن مناصبهم وأقاربهم وعقائدهم.. وطن يكافئ المجتهدين والشرفاء، ويعاقب المخربين واللصوص.. وطن يسري فيه القانون على الحاكم قبل المحكوم.. وطن ينتصر على كل المعوقات، يضغط على جراحه، يلملم تمزقه وأشلاءه، يكبر على صغائره، ويمتلك إرادة التوبة.. إرادة "بداية جديدة"... 

وها أنا أفتح صدري بكل الحب والتسامح، وأمد يدي بكل الخير والأمل، وأدعو الله أن أجد نفسي مع الوقت واحداً من ملايين عزموا أمرهم على "بداية جديدة" للذات، تصنع "بداية جديدة" لوطن منشود طالما حلمنا به ولم نحصل عليه.

فلنبدأ، وإذا كنا قد بدأنا من قبل وفشلنا، فلنكرر المحاولة بلا يأس، فإن الله لن يغير ما حولنا وما علينا حتى نغير ما بأنفسنا، وقد قررت أن أبدأ بنفسي، لعل الله ينعم علينا بالفلاح بعد عقود من المحاولات الفاشلة..

اللهم عونك ونصرك للصابرين الفاعلين العازمين المحتسبين

[email protected]
التعليقات (3)
ظبيه الهاشمي
الجمعة، 21-06-2019 04:20 م
استاذنا انت حالم... شعوبنا بالذات عائشه في الماظي الا ما ندر....فلن تغير داخلها مهما صرخت... فجيناتنا.. تحمل الموروث... كل عيد واعاده وأنت بخير
طارق
السبت، 08-06-2019 09:21 م
البداية الجديدة لا تتاتى للشعوب الا بالنار كالغابات يحترق القديم والمتهالك لتحل محله براعم جديدة
الصعيدي المصري
السبت، 08-06-2019 05:30 م
.. بعد الانقلاب العسكري الدموي في مصر على السلطة الشرعية التي مثلت إرادة الشعب .. انقسم داعموا الانقلاب ممن ( يطلق عليهم ) الإعلاميين والنخب والمثقفين والسياسيين على اختلاف توجهاتهم إلى 3 أقسام .. الأول هو من استمروا على دعمهم لنظام الانقلاب وهؤلاء قد حصلوا ومازالوا على اختلاف مواقعهم على امتيازات معينة من النظام الانقلابي العسكري . . النوع الثاني .. هم من ظنوا بأنفسهم بأنهم على قدر من الموضوعية والشجاعة وأرادوا أن يثبتوا ذلك – لفترة لم تطل – لمتابعيهم ومريديهم .. باعتبار أنهم انتقدوا وعارضوا بل ودعموا الانقلاب على السلطة المنتخبة لأنها حسب ما روجوا له كانت سلطة فاشلة – وهاهم لا يهابون الخروج عن الدائرة الخضراء التي حددها لهم حليفهم السلطان الجديد – فإذا بهم يفاجئون بأن اليوم غير الأمس .. فغيروا جلودهم ومنابرهم إلى برنامج ترفيه واكتشاف مواهب والبحث قي أصل مشكلة شيماء مع هيفاء .. أو برنامج آخر عن عصير الطماطم والأكل الصحي أو برنامج ثالث عن عصير الكتب بطعم أرشميدس و المنفلوطي و نجيب الريحاني وتاريخ الجبرتي .. أو حتى بعيدا عن وجع دماغ قد يتسبب في هلاكهم .. النوع الثالث .. هم بعض الأكاديميين والنخبجية والمتثوقفين .. ممن استمروا في التنظير لذات القيم والمبادئ والمواعظ التي انقلبوا عليها عمليا .. معتمدين .. ربما على الظن بأن كثير من قرائهم له ذاكرة السمك .. هذه الذاكرة التي تضع برزخا متضادا غير مفهوما لترجمة هذه المبادئ مرة في الواقع العملي الذي مارسه المنظرون - وأخرى على النقيض في صفحات كتب الدرس التي يدرسونها لطلابهم أو ينشروها في مقالاتهم وتحليلاتهم ..