قضايا وآراء

اغتيال الديمقراطية في حياة وموت الرئيس مرسي

فاطمة رؤوف
1300x600
1300x600
شكل خبر وفاة الرئيس المصري السابق محمد مرسي؛ فاجعة في قلوب مناصريه والمتعاطفين معه، ولكنه أحيا الجدل القديم الذي ما برح الصحافة العالمية، حول إشكالية التغاضي عن وضعية الرئيس في حياته، وبعد مماته، وبالانتهاكات الجسيمة لمسار الديمقراطية التي يحفل بها الغرب، ولم تلق تلك الديمقراطية في مصر؛ الدعم الذي يمكنها من الحكم، والتغلب علي منظومة قيم الاستبداد والديكتاتورية، التي ثارت عليها الشعوب العربية. وألقى خبر الوفاة بعد ست سنوات من سجن الرئيس، الضوء على الأوضاع المزرية للمعتقلين في السجون المصرية، والتي لا يعيرها النظام المصري أي بال.

كريستين بلانت:

الجدير بالذكر، أنه في وقت مبكر من آذار/ مارس 2018، انتقدت لجنة بريطانية مستقلة برئاسة النائب "كريسبين بلانت"؛ ظروف الاعتقال التي يتعرض لها الرئيس المصري محمد مرسي وصرحت بالتالي: الرجل الذي يعاني من مرض السكري وفشل كلوي؛ في الحبس الانفرادي لمدة 23 ساعة في اليوم. وحذر "برانت" في ذلك الوقت من أن الحرمان من الرعاية الطبية الأساسية التي تحق له، ستؤدي إلى وفاته المفاجئة! وهو ما قد حدث.. رددها النائب البريطاني بعد تلقي خبر وفاة الرئيس المصري مباشرة!

إن السلطات المصرية لم تقدم سببا لوفاته، ولكن ارتفع صوت المنتقدين على الظروف المزرية التي عاشها الرئيس مرسي في السجن، حيث قضى سنوات سجنه القاسية؛ دون الدواء الضروري لمرض السكري وضغط الدم ومرض الكبد، بعد أن حرمته السلطات منه، واحتجزته في زنزانة انفرادية، وتجاهلت التحذيرات من خطورة غياب العناية الطبية، والتي بالفعل أدت لوفاته.

تم الإرسال من جهاز سامسونج:

أثار نشر خبر وفاة الرئيس مرسي بصيغة نمطية، تخلو من أي ديباجة تليق برئيس سابق، حفيظة الصحافة العالمية، ونشرت ردود فعل مختلفة مفادها؛ أنه كان رئيسا منتخبا ديمقراطيا لبلد كبير، تزعّم في لحظة تاريخية؛ ثورات ترنو للحياة الديمقراطية التي يتمتع بها المواطنون في الغرب.

تطابقت صيغة الخبر في معظم النشرات الإخبارية والمقالات، بحسب صور وملفات فيديو نشرها مدونون مصريون، وضجت منصات السوشيال ميديا بالسخرية من قراءة المذيعة في التلفزيون الرسمي للدولة؛ الخبر حتى نهايته، مذيلة الخبر بتلك العبارة المطبعة تلقائيا من جهاز المرسل: "تم الإرسال من جهاز سامسونج"، دون الانتباه إلى أنها دلالة على إرسال الخبر "نصيا" عبر المخابرات المتحكمة في وسائل الإعلام المختلفة، وبالأمر المباشر.

"تمرد" بوتقة الجيش للانقلاب على مرسي:

نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" مقالا تحليليا قالت فيه: بعد وفاة الرئيس مرسي في ظروف صاخبة، عادت مصر ثانية للحكم الاستبدادي.

وأضافت الصحيفة أن وفاة مرسي تعتبر حجر أساس كئيب، في المرحلة الانتقالية سيئة الحظ في مصر، بعد الربيع العربي عام 2011، كأول رئيس في انتخابات حرة عام 2012، وكمسؤول بارز في جماعة الإخوان المسلمين، ولكنه عُزل بعد عام من منصبه في انقلاب عسكري.

ووجهت إليه سلسلة من الاتهامات، منها الإرهاب والتجسس، وقضية اقتحام السجون، في محاكمات ترى منظمات حقوق الإنسان أنها سياسية معيبة، ودون إجراءات قانونية سليمة.

الجدير بالذكر، أن الصحافة العالمية تعلن صراحة أن مرسي كان بالنسبة للكثير من المصريين، الأمل العظيم لإخراج البلاد من تاريخها الديكتاتوري الطويل، بعد سنوات من الحكم القاسي والفاسد لحسني مبارك، ولكن كانت هناك خشية لبعض الطوائف الدينية، والأيدولوجيات السياسية، من تطبيق مرسي الذي يمثل "الإسلام السياسي" للشريعة.

وحذر المراقبون في واشنطن والمنطقة من محاولة مرسي إقامة حكم ديني بالبلاد، وعلى عكس المتوقع، فاجأ مرسي الجميع عندما حاول بناء علاقات ودية مع الولايات المتحدة، وأقام علاقة عمل دافئة مع باراك أوباما، وعمل الرجلان معا على وقف القتال بين إسرائيل وحركة حماس الفلسطينية في خريف عام 2012.

إلا أن حكم مرسي في الداخل عانى من مشاكل منذ البداية، وكانت الإدارة الأمريكية على علم بأن المعوقات كانت تتعلق بخطط أخرى للمنطقة، وأن اللاعبين الممولين لتلك الخطط لا يرون في فوز مرسي إلا كارثة كبرى، وتهديدا لوجستيا على تواجدهم بشكل أساسي.

وتتابع الصحيفة: لقد حكم مرسي بطريقة غير مرتبة، وأصدر مرة أمرا رئاسيا؛ ادعى منتقدوه إنه وضعه فوق القانون، فيما قال أنصاره إن الأمر كان محاولة لمواجهة المؤسسة الأمنية التي عملت على تقويض سلطاته. وفي بداية صيف عام 2013، وبتدعيم الجيش لحركة "تمرد"، تجمع المحتجون في ساحة التحرير التي كانت بوتقة التظاهرات عام 2011، مما منح الجيش المبرر لتنحيته، وسيطر وزير دفاعه السيسي على السلطة في تموز/ يوليو 2013، وبعد ستة أسابيع؛ فتحت قوات الأمن النار على المعتصمين في "ميدان رابعة" وقتلت 817 محتجا من أنصاره، فيما وُصفت بأنها أكبر مذبحة جماعية في التاريخ الحديث. وانتخب السيسي، ولا يزال يحكم البلد بقبضة حديدية، وقضى على آمال الديمقراطية في مصر، وقام بتنظيم استفتاء في نيسان/ أبريل 2019؛ يسمح له بالبقاء في السلطة حتى عام 2030، وتم تمريره بأغلبية، في عملية لم تسمح لأي صوت من المعارضة فيها بالتعبير الحر.

مزراع بسيط لأكاديمي متفوق ثم رئيسا للجمهورية:

بعد أن نشر التلفاز النمساوي خبر وفاة الرئيس محمد مرسي، بشكل مختصر، تم تحديث الخبر "بعد بضع سويعات" في موقعه الالكتروني بشكل أكثر إسهابا. هذا الموقف بدا واضحا في الصحافة، التي تعبر عن تقدير النظام الرسمي للنمسا للعلم والعلماء.. تحدث الخبر بتفاصيل تحمل الكثير من التقدير لمسار الرئيس المصري الراحل، الشخصي والعملي، وكتب: "من ابن المزارع البسيط، للأكاديمي المتفوق الذي يدرس بجامعات الولايات المتحدة، ومن ثم رئيسا للجمهورية، وكأول رئيس مدني انتخب بحرية من جموع الشعب المصري. لقد ولد مرسي في عائلة ذات إمكانيات متواضعة في محافظة الشرقية على دلتا النيل، وحصل على الدكتوراة من جامعة ساوثرن كاليفورنيا، ودرّس لاحقا كأستاذ في جامعة الزقازيق قرب الشرقية. لم يكن معروفا للمصريين ولا للإسلاميين عندما رشح للرئاسة عام 2012 مندوب لجماعة الإخوان المسلمين، بعد ثورة يناير العظيمة، ولكنه في النهاية، قبع تحت قيد العسكر بالسجن، في ظروف قاسية، مما أدي إلى موته البطيء.

اغتيال الديمقراطية وسيادة القانون:

من يطلع على مشهد الصحافة الألمانية؛ يدرك جيدا معايير المهنية في سرد الأحداث. لقد مات حكم القانون موتا بطيئا وقاسيا في ظل نظام حكم السيسي.

ونشرت صحيفة "زود دويتش تسايتونغ" التي تمثل اليسار والأكثر انتشارا في ألمانيا؛ أن الغرب أغرق الديمقراطية وسيادة القانون في وحل الاستبداد، الذي يظهر من خلال حياة وموت محمد مرسي؛ الرئيس الوحيد الذي تم انتخابه ديمقراطيا في مصر، فيما تتجاهل أوروبا والغرب هذا الأمر عن عمد. وأشارت إلى كم الأدلة الموثقة جيدا؛ على أن الآلاف من السجناء السياسيين يعانون من ظروف السجن التي تدمر صحتهم بشكل منتظم وممنهج، وهو ما تنكره السلطات الآن بشدة واستعلاء ولامبالاة.

معروف سلفا أن الدولة المصرية وقعت على معاهدات دولية؛ تفرض القيود على التعذيب أو الانتهاكات الجسدية، حتي لو كان القتل عن طريق الإغفال الطبي كما في حالة الرئيس محمد مرسي.

الإعدام بالموت البطيء:

كانت مصر واحدة من أوائل الدول الموقعة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948، لكن السيسي لا يخفى ويصرح علانية وبانتظام أن هذه الحقوق لم تعد موجودة الآن، وتمارس أجهزة مخابراته الإخفاء القسري، والتعذيب في المعتقلات؛ الأمر الذي يتم بشكل يومي، ولا يمكن لأحد أن يتوقع تحقيق أي محاكمات عادلة، إذا ما سقط أحد المواطنين لأسباب سياسية في مخالب جهاز الأمن غير الشفاف؛ هذا الجهاز الذي لا تخالجه أي تخوفات من الحساب أو الملاحقة الجنائية.

السيسي يبرر هذه الممارسات الوحشية، مرارا وتكرارا، بالتهديد المزعوم للمتطرفين (ويقصد قبل كل شيء جماعة الإخوان المسلمين)، بتشجيع من مؤيديه وداعميه، في الإمارات المتحدة، والمملكة السعودية". فيعتقد النظام المصري؛ أنه يمكن التخلص من المعارضين، من خلال أقصى قدر من القمع السياسي، خاصة ضد أقدم حركة إسلامية في العالم العربي، بعد أن أُعلن أنها جماعة إرهابية، بل يأمل أن تسير الولايات المتحدة في نفس المسار، مبررا أنها خطوة مهمة لدفع نموذجه الاستبدادي للاستقرار في جميع أنحاء المنطقة.

تجاهل أوروبا الانتهاكات الجسيمة والقمع:

الحكومة الفيدرالية الألمانية والاتحاد الأوربي يتجاهلان عن عمد؛ التقارير العالمية الموثقة بالأدلة على انتهاك النظام المصري لحقوق الإنسان، وخاصة في ملف الرئيس الراحل محمد مرسي، لاعتقادهم الخاطئ أن استقرار البلد الذي يبلغ عدد سكانه 100 مليون نسمة يأتي في المقدمة وفوق كل شيء، وكذلك في ما يتعلق بالملف الأهم، وهو تدفقات الهجرة المحتملة عبر البحر المتوسط.

ولكن كل ما عليك فعله، هو التطلع إلى الجزائر أو السودان، ليعلم الجميع أن هذا الاستقرار المفترض هو مجرد خداع ساذج للذات. وكما حدث في ربيع 2011، ستظل الشعوب، في تلك المنطقة، تطالب بالحرية والعدالة والكرامة الاجتماعية، وهذا لا يعني فقط الرفاهية الاقتصادية، ولكن أيضا وضع حد لقمع الدولة، ووأد الحريات.

مصر ليست مستقرة، لا اقتصاديا ولا سياسيا؛ فلو كان الأمر كذلك، لما احتاج النظام إلى هذا القمع السياسي الهائل.

منتقدو مرسي في التلفاز ومنتقدو السيسي في المعتقلات:

يدعم الليبراليون في العالم الغربي؛ أيديولوجية ترفض تيار الإسلام السياسي بشكل مطلق، ولكن في نفس الوقت؛ هم يرون أنهم تخلوا أيضا عن هذه الليبرالية في مصر، تدعيما لأجندات ومصالح بلادهم السياسية.

ونشرت مجلة دير شبيجل، الأكثر شيوعا، أن مرسي كان أول رئيس منتخب ديمقراطيا لمصر، وتابعت وفقا لرؤيتها: "رغم تطلعاته السلطوية، كان من الممكن خلال فترة حكمه توجيه الشعب المصري كافة؛ النقد إلى الحكومة بشكل علني وصاخب، وفي البرامج الحوارية.

وعلى العكس من ذلك، يجلس المنتقدون لنظام السيسي في السجون. وفي عام 2013، كان بإمكان معارضي الحكومة جمع التوقيعات في الشوارع والإنترنت من دون التعرض لمخاطر الاعتقال، مثل حركة "تمرد" التي أخرجت ملايين المعارضين لمرسي عام 2013 إلى شوارع القاهرة جهارا نهارا، بعد أن دفعها الجيش إلى الانقلاب على الرئيس مرسي، بالخصوص من قبل الرجل الذي عينه مرسي وزيرا للدفاع في عام 2012، والذي أسس نظاما سلطويا مستبدا.

الانتقاد الخجول الموجه إلى النظام؛ يمكن أن يكلف المرء اليوم عمله أو يرسله إلى غياهب السجون.

الأسد يلتهم الفريسة:

في عام 2016، أجرت المنظمة العالمية لحقوق الإنسان "هيومن رايتس ووتش" أبحاثا عن سجن "العقرب" شديد الحراسة في القاهرة، كشفت فيه أن النتائج المقلقة التي توصلت إليها المنظمة، وفقا لتقارير ميدانية موثقة؛ أن موظفي السجن قاموا بضرب المحتجزين بوحشية مفرطة، ويعملون على عزلهم في زنزانات ضيقة، تدعى "الخلايا التأديبية"، وعرقلة علاجهم الطبي، والتحفظ على الاتصال بأقاربهم، أو المحامين، بل وحرمانهم من أبسط الأمور التي يمنحها القانون الدولي، ودستور البلاد.

السجن في مصر، هو نهاية السلسلة القمعية والحلقة الأخيرة للدولة.. صرح بذلك نائب مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا "جو ستورك". وأضاف أن السجون المصرية، حتى الاحتياطي منها، تجعل المعارضين السياسيين يفقدون أصواتهم وآمالهم وأنفسهم، وأن الغرض الوحيد من هذه السجون، هو على ما يبدو؛ التخلص من منتقدي النظام بوحشية وعنف، والعمل على نسيانهم، بإلقائهم في المجهول.

هذه التوصيفات هائلة الترويع تذكرنا بما يعرف بأقبية السجون العتيقة في القرون الوسطي، التي ينقصها فقط مشهد الأسد وهو يلتهم فريسته من المعتقلين، ويقوم بتكملة هذا المشهد ضباط أمن الدولة، الذين يتفننون في وسائل التعذيب الوحشي التي تحسدهم عليها منظومة القتل الشيطانية لتلك الحقبة.

تحدث أيضا مدير منظمة مراقبة حقوق الإنسان في ألمانيا، "فينزل ميشالسكي"، قائلا إن المعتقلين يتعرضون في السجون المصرية للعديد من وسائل التعذيب المختلفة، منها الصدمات الكهربائية، والضرب بالكابلات، والاعتداءات الجنسية بها للسجناء الذكور، أو حتى اغتصابهم. وغالبا ما يتم تجاهل القانون في السجون المصرية، ولن يتم التحقيق مع الضباط والموظفين الذين انتهكوا واجباتهم.

لذلك، لم يكن مرسي أول سجين يستسلم لظروف السجن السيئة المميتة، لكنه قضية بارزة تلقي الضوء على الظروف العامة في السجون المصرية، لإغاثة المعتقلين من الموت المحقق.

بطش ممنهج ضد كل المعارضة:

لم يعد مجهولا لدى الكافة؛ أن مصر ليست مستقرة، لا اقتصاديا ولا سياسيا، ولفترة طويلة؛ لأن القمع لم يكن موجها ضد الإسلاميين فقط، حتى يدعي النظام المصري أنه يحارب الإرهاب، بل يستهدف نظامه؛ الناشطين اليساريين والعلمانيين في المجتمع المدني، والمدافعين عن حقوق الإنسان، والمحامين والصحفيين والفنانين والمثقفين، أو حتى "المثليين جنسيا"، والذين لا يشكلون أي تهديد للأمن القومي، إلا أنهم وغيرهم يدينون فشل النظام، وينتقدونه في تكميم الأفواه، ومصادرة الحريات عندما يتعلق الأمر بالمواطنة، أو تقديم خدمة شاملة للمواطنين، على رأسها ضمان تقديم خدمة التعليم للأجيال الأصغر سنا، أو التجرؤ على انتقاد دور الجيش الذي يشكل دولة داخل الدولة، طبقا لتقارير منظمات عالمية موثقة، تتهمها مصر وتزعم أنها تابعة لتمويل أجندات تتآمر عليها. تصاغ هذه التبريرات من أذرع إعلامية ترضخ بالكلية؛ لمنظومة القبضة الأمنية لشركات إعلام المخابرات.
التعليقات (9)
محمد رمضان
الثلاثاء، 09-07-2019 12:57 ص
مقال شامل حتي في البعد الدولي و الإقليمي
أحمد محمد عبد الجليل
الإثنين، 08-07-2019 06:30 م
سلمت يدك أستاذة فاطمة
Ahmed Ali
الإثنين، 08-07-2019 02:21 م
المقالة اكثر من رائعة وتشرح الأحداث بدقة شكرا لمجهودك استاذة فاطمة رؤف
تامر عبد الشافي
الإثنين، 08-07-2019 01:33 م
احسنتي الوصف وصح قلمك يا استاذة رحم الله الرئيس الشهيد البطل ومكن الشعب من البلاد ومقدراتها ومحاسبة كل الخونة والقصاص لدماء الاحرار
محمد الاسمر
الإثنين، 08-07-2019 01:30 م
كل الاحترام