قضايا وآراء

تونس تُودّع آخرَ قادتها التاريخيين

امحمد مالكي
1300x600
1300x600

يُمكن القول، دون تردد، أن تونس فقدت في 25 تموز/ يوليو 2019 الشخصيةَ التاريخية الثانية بعد الرئيس الأسبق ومؤسس الجمهورية، "الحبيب بورقيبة". فالمرحوم" محمد الباجي قايد السبسي"، المولود في 29 نيسان/ أبريل 1926، علاوة على كونه عَمّـر أكثر من 92 سنة وعاش الحياة (كما يُقال) في عرضها وطولها، فهو سليل مدرستين تونسيتين: مدرسة الوطنية، أي الكفاح من أجل الاستقلال، ومدرسة إعادة بناء الدولة الوطنية، بنجاحاتها وكبواتها. وقد ساهمت هذه الازدواجية في جعل مساره الشخصي والسياسي مُتفرداً، ومنطويا على سمات وخصائص قلّما توفرت في غيره مِمّن كانوا أقراناً له، أو لم ينتسبوا إلى جيله بحكم عامل السِنّ.

بيد أن "محمد الباجي قايد السبسي"، وهذا عنصر قوة في مسيرته، ظل في قلب التحولات السياسية الكبرى التي شهدتها تونس منذ إنهاء دراسته الجامعية في باريس عام 1952، وعودته إلى بلده محاميا في مكتب "فتحي زهير"، يتدفق حيويةً وحماساً وإقبالا على الحياة لتطوير تجربته وخدمة بلده، التوّاق وقتئذ لاسترداد سيادته الوطنية.

 

ظل في قلب التحولات السياسية الكبرى التي شهدتها تونس منذ إنهاء دراسته الجامعية في باريس عام 1952، وعودته إلى بلده محاميا

سمحت فترة الالتحاق بفرنسا (من عام 1948 وحتى 1952) بأن يتعرف "محمد الباجي قايد السبسي" على الحبيب بورقيبة الابن"، قبل أن يتعرف على " الحبيب بورقيبة الأب"، ليُصبح أحد أكثر المناصرين لمنهجه في إعادة بناء تونس، والمدافعين عن تصوراته لما يجب على تونس الالتزامَ به والدفاعَ عنه. لذلك، سيعيش فور عودته من فرنسا حدث اغتيال الزعيم النقابي التونسي "فرحات حشاد"، شتاء عام 1952، والارتدادات الاجتماعية والسياسية التي أعقبت هذه الجريمة؛ ليس بالنسبة لتونس فقط، ولكن في كل بلاد المغرب، والمنطقة العربية والعالم. فهكذا، سيُنصِّب نفسَه محاميا مدافعاً عن "الاتحاد العام التونسي للشغل" (UGTT)، النقابة الأكثر تمثيلية وقوة في تونس، كما سينخرط في الديناميات السياسية التي سبقت حصول تونس على استقلالها الوطني (1956).

من سمات القيادة في شخصية "محمد الباجي قايد السبسي"، تواجده المستمر والفعال في الحياة السياسية التونسية لمدة قاربت الثلاثين سنة (1963 وحتى 1991). فعلاوة على عضويته البارزة في جسم الحزب منذ ما قبل 1964 وحتى 2011، قبل أن يؤسس "نداء تونس" (2012)، ظل إلى جانب "الحبيب بورقيبة"، مستشاراً له، أو متحملا مسؤولية تدبير مؤسسات وقطاعات بالغة الأهمية، من قبيل "إدارة الأمن الوطني" (1963)، ووزارة الداخلية (1965)، ووزارة الدفاع (1969)، ثم سفيرا في باريس (1970)، قبل أن يتوقف لفترة زمنية (1971-1979)، ويعود للعمل الحكومي حين تولى "محمد مزالي" رئاسة الحكومة، فعُيّن وزيرا للخارجية عام 1981 خلفا لحسان بلخوجة.

لم يكن "محمد الباجي قايد السبسي" ظلاًّ للرئيس "الحبيب بورقيبة"، أو مُساعداً مستظلاًّ بعباءته، بل كانت له مواقف مُميِّزة، كما يشهد بذلك تاريخ بناء الدولة الحديثة في تونس. ففي ذروة ما سُمي "مشكلة التعاضديات"، اتخذ موقفا مساندا للمشروع وصاحبه "أحمد بن صالح"، وحين طُرحت قضية إصلاح النظام سنة 1974، دعم فكرة الإصلاح، وساند مناصريها، وهو ما جعله ينتصر لـ"حركة الديمقراطيين الاشتراكيين" بقيادة "أحمد المستيري"، وينتسب إليها عام 1978. ثم إن دوره الدبلوماسي حين كان وزيرا للخارجية كان بارزا، وفعالا بالنسبة لتونس وإشعاعها العربي والدولي، كما تثبت ذلك العديد من الوقائع والمواقف، أبرزها دوره في استصدار قرار مجلس الأمن الخاصة بإدانة إسرائيل وغارتها على منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1986.

 

هذه المناقب والسمات المميزة لأحد رجالات تونس الكبار، لا تحجب الانتقادات التي وُجهت إلى المرحوم قيد حياته، لا سيما حين كان مديرا عاما لإدارة الأمن ووزيرا للداخلية، من زاوية حقوق الإنسان والحريات العامة

إن هذه المناقب والسمات المميزة لأحد رجالات تونس الكبار، لا تحجب الانتقادات التي وُجهت إلى المرحوم قيد حياته، لا سيما حين كان مديرا عاما لإدارة الأمن ووزيرا للداخلية، من زاوية حقوق الإنسان والحريات العامة، أيضا بخصوص السياسات العامة الكبرى التي أقدم عليها الرئيس الراحل بورقيبة، حيث كان شريكا له في صياغتها.

لم يكن دور "محمد الباجي قايد السبسي" خلال حكم "زين العابدين بن علي"، بنفس القوة والحيوية كما كان على عهد الحبيب بورقيبة، إذ باستثناء ترشحه للانتخابات النيابية عام 1989 وترؤسه مجلس النواب ما بين 1990-1992، ظل الراحل متراجعا، غير محسوب على نخبة النظام الجديد. وأذكر بكثير من الاعتزاز أنني تعرفت عليه خلال هذه الفترة، حين كنا نلتقي بشكل دوري في مؤتمرات "مؤسسة التميمي للبحث العلمي" في مدينة زغوان البعيدة عن تونس العاصمة، ونقضي جلسات ممتعة من المناقشات الفكرية والسياسية حول تجربة حكم "الحبيب بورقيبة". ولعل أكثر ما يذكرني النقد اللاذع للباحثين التونسيين لهذه الحقبة وإنجازاتها وإخفاقاتها، مقابل موضوعية الرجل ووسطيته في تقييم مرحلة حكم بورقيبة.

عاد الراحل "محمد الباجي قايد السبسي" إلى الحياة السياسية مع سقوط نظام "ابن علي" في 14 كانون الثاني/ يناير 2011، ليترأس الحكومة المؤقتة في 27 شباط/ فبراير 2011، بعد استقالة "محمد الغنوشي"، وليترشح للانتخابات الرئاسية ويفوز فيها كرئيس لتونس منذ 2014 وحتى وفاته في 25 تموز/ يوليو 2019.

وبوفاته يكون التونسيون قد ودّعوا في جنازة مهيبة أحد قادتهم الكبار، الذي ترك بصمته في تاريخ تونس الحديث، بطول وفعالية تجربته السياسية، وقدرته على التوافق والفوز في البحث عن المشترك، وفي مناصرة قضايا المرأة في المساواة مع قرينها الرجل، أيضا في تدعيم مقومات التحول الديمقراطي في تونس، والانتصار للتطلعات الكبرى لروح التغيير في البلاد التونسية.

التعليقات (0)