قضايا وآراء

الوطنية المصرية وتزييف التاريخ

محمد شريف كامل
1300x600
1300x600
إن الحوار والخلاف، بل والجدال، حول التاريخ والشخصيات العامة وخاصة الزعماء أمر عادي، بل ومحمود، إلا أنني حرصت منذ انقلاب 2013 على ألا أخوض أو أُشارك في أي جدال حول تاريخ مصر والمنطقة، ولا حول شخص جمال عبد الناصر أو ثورة 52، حتى أن صمتي فُسر أحيانا بأنه تراجع عن موقفي وخجل من شخص عبد الناصر وتاريخه، وفسره البعض بكوني من الإخوان المسلمين أو ما يسمون "الإسلاميون" خاصة بعد مشاركتي في تأسيس المجلس الثوري المصري وتحملي مسؤولية أمانته العامة لمدة ثلاث سنوات، والتي أعتبرها جزءا لا يتجزأ من مواقفي المبدئية من الوقوف مع الحق ورفض التفريط في حق الوطن والشعب.

إلا أن ذلك الحوار تحول إلى عملية ممنهجة لتزييف التاريخ ولم يقتصر على تاريخ مصر وحسب، بل امتد ليشمل تاريخ المنطقة ككل، بل وكافة الرموز الوطنية المصرية والعربية وأحيانا الدولية، وقد وصلت عملية التزييف للتشكيك في وطنية عرابي وسعد زغلول وطه حسين وأردوغان، بل ونيلسون مانديلا أيضا كان عميل للغرب.. والقائمة تطول بما لا يستوعبها هذا المقال.

ولم يأت التشكيك في الوطنية والتخوين نتاج مواقف أو تحليل سياسي يأخذ في اعتباره حقائق الأحداث ونتائجها وما كان عليه الزمان والمكان، بل جاء التخوين من منطلق الاختلاف في الرؤية، فأصبح الخلاف في وجهات النظر هو أساس منح وسام الوطنية وتقدير القيمة السياسية، وأصبح الخوض في وطنية الشخصيات التاريخية والرموز الوطنية طريقا للشهرة، ولكن الهدف لم يكن الشهرة وحسب، ولكن الهدف هو التشكيك في كل تاريخنا، فينتهى بنا الأمر لنسف مفهوم الانتماء، فيتفتت ما بقي من انتمائنا وفخرنا ونركع في محفل الطغاة.

وأعود لأمر التخوين، وأخص حديثي هنا بعملية تخوين ثورة 1952، فكان حرصي على عدم المشاركة في هذا الجدال من باب ترتيب الأولويات، ولم أخرج عن صمتي لللحديث في ما يخص حقبة الخمسينيات والستينيات إلا مرات معدودة للتعقيب على بعض الأحداث، ولكني لم اُسهب في الرد والجدال على كثير مما قيل عن تلك الفترة والأحداث والأشخاص الذين عاصروها، إلا أن هناك من الادعاءات ما وصل لحد غير معقول، ادعاءات لا تستند لأي منطق.

وقبل الخوض في ذلك الحديث، يجب التأكيد على أن معارضة أي نظام هو حق مكفول للجميع، ولا يحق لأي نظام حجب ذلك الحق مهما كانت الأسباب. ولقد تجاوز النظام الحاكم في مصر في الستينيات كثيرا، ومحاسبته محاسبه عادلة واجبة وسيتولاها التاريخ، إلا أن التاريخ لا يُكتب وفقا للهوى السياسي، ولكنه يكتب بسرد الوقائع وربط الأحداث ربطا منطقي منزها عن الأغراض، وكذلك لا يكتب التاريخ بالكم، فمجموعة مقالات ومجموعة مذكرات موتورة المعلومات مهما كثرت لا تكتب التاريخ.

ومن ناحية أخرى، فإن محاولة محاسبة ثورة منتصف القرن العشرين (1952) بمقياس القرن الحادي والعشرين ليست منطقية، وكذلك محاولات اعتبار أن كل ما كان منذ 1952 إلى اليوم مرحلة واحدة؛ هو خلط متعمد يسهل الهدف لمحو إيجابيات تلك المرحلة، بربطها بجريمة كامب ديفيد وفساد منظومة مبارك وانقلاب 2013 ومذبحة رابعة وما تلاها، حتى أن منهم من ادعى أن 1952 مؤامرة من الغرب للتخلص من الملاك الطاهر "الملك فاروق".

ولقد أخطأ الكثيرون من أنصار ثورة 25 يناير 2011 بتنصلهم وتسفيههم لكل ما تم من 1952 وحتى 2011، وإنكار أن هناك إنجازات حقيقية، وكان الخطأ الأكبر هو اعتبار البعض أن انقلاب 2013 هو امتداد لـ1952، وقد سَهل ذلك الخطأ على انقلاب 2013 أن يدعي أنه امتداد لثورة 1952، وأن يدعي كذلك أنه امتداد لثورة 2011، وهما منه براء. وكان ذلك الادعاء هو الطريق لتوسيع قاعدة الانقلاب بين البسطاء من المصريين والعرب، وهو خطأ ما زال العديد لم يدركه فقد عُميت أبصارهم.

قد نستمر في هذا الجدل إلى الأبد، ولكن علينا أن نتعلم من التاريخ، وأن نستفيد من تجارب الشعوب، ولنرى مثلا أردوغان يقدر دور أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة، رغم أن الجميع يعلم حجم الخلاف الأيديولوجي بل والعداوة الفكرية بينهما.

ولا يشغلني هنا الدفاع عن عبد الناصر في شخصه فهو ملك التاريخ وبين يدى الله، بقدر حرصي على إيضاح أمر جوهري وهو الفارق بين الثورة ونظام الحكم والوطنية، لأن الثورة بطبيعتها ليست عمليه تغير ديمقراطي، فليس من المنطق أن تقوم ثورة لتغير واقعا ثم تدار بشكل ديمقراطي مبني على ذلك الواقع المنشود تغييره. والدليل العملي على ذلك هو عدم نجاح ثورة 2011 ومن قبلها ثورة عرابي وثورة 1919 لأنها لم تستبدل قواعد اللعبة، بل استسلمت للعب على أساس تلك القواعد الباليه وبقانونها المضاد لفكرة وفطرة الثورة.

وقد هاجم بعض ممن ينتمون لثورة 2011 خطوات الثورة في 1952، منكرين أيديولوجية ومنهاج الثورة بينما هم ينتمون لها ويعانون من عدم اتباعها.

ولذلك، كان من المنطقي ألا تدار مصر بعد 52 بذات النظام القائم قبلها، وليس المقصود هنا انتهاكات حقوق الإنسان لأنها تجاوزات غير مقبولة بل ومدانة، وإن كان حدوثها واردا مع الثورات، إلا أنها لم تكن من ابتكار نظام 52، بل كانت امتدادا لتاريخ طويل من الانتهاكات عاشته مصر تحت حكم البوليس السياسي وقرون عديدة من قبله.

وبلا شك، فإن حركة الضباط الأحرار عندما تكونت لم تكن تدرك طريقها ولا مستقبلها، ولا جدال في أن 23 يوليو 1952 هي انقلاب عسكري على نظام حكم فاسد، ولم تعتبر ثورة إلا حين اتخذت مسار تغيير نظام الحكم وتغيير قواعد اللعبة، وتخبطت الحركة حتى نضجت، مما أعطى فرصة لبعض ممن يدعون كتابة التاريخ وصناعة الوعي للادعاء بأن تنظيم الضباط الأحرار هو صناعة المخابرات الغربية، ولو صدقت نواياهم لفسروا لنا معارك 1956 على ضوء ذلك الاكتشاف العبقري! ولماذا خسرت بريطانيا الحرب وأفلت إمبراطورتيها؟ أكل ذلك لإيهام العرب بزعامة عبد الناصر ووطنيته؟!

والانقلابات لا تتساوى، فهناك انقلاب حميد مقبول وآخر خبيث مرفوض، والفارق يكمن في الانتماء والهدف، فالانقلاب الحميد يحافظ على الحقوق الأساسية للوطن ولا يفرط فيها، ويدرك معنى التنمية ولا يبدد الثروات. وأول مثال على ذلك تمسك ثورة 52 بمصرية تيران وصنافير، ولنراجع في ذلك مضابط الأمم المتحدة وما أودعته مصر لدى الأمم المتحدة عام 1954 من وثائق تثبت ملكيتهما والتمسك بهما والحفاظ عليهما وعلى ما حولهما كمياه إقليمية. وهذا لا علاقة له بهدى عبد الناصر التي اخترعت أوراقا لا يعلم أحد عنها شيئا؛ ادعت اختفاءها منذ 1970 وحتى 2014، فهدى عبد الناصر كما غيرها أصبحوا خداما في بلاط المؤامرة التي يمثلها السيسي.

ولعل محترفي تزييف التاريخ يجيبون على تساؤلات ليعود المنطق للحوار، فلماذا كانت فكرة الدوائر الثلاث سبيلا لبناء أمن قومي يرتكز على علاقات مصيرية تربط التحرر الأفريقي بحركة عدم الانحياز؟ ولماذا تحوّل الانتماء العربي من نظرة عرقية تعتمد على التاريخ واللغة إلى نظرة مصالح مستقبلية مشتركة؟ ولماذا كان الحفاظ على باب المندب بعيدا عن أيدي إسرائيل وحلفائها؟ ولماذا يسلم لهم الآن على طبق من فضة؟

وكذلك نرى الانقلاب الحميد يقف مع التَغيير في المنطقة، فهو يضع صوب عينيه إرادة الشعوب والأمن القومي لأمته، وإلا فلماذا كان الوقوف بجانب ثورة الجزائر في الخمسينيات؟ ولماذا كان الوقوف ضد الاقتتال الأهلي، وإيقاف التدخل الأمريكي في لبنان عام 1957 ولم تكن قد مضت عدة أشهر على انتهاء حرب 56؟ ولماذا انهار لبنان في السبعينيات؟ ولماذا كان تأسيس حركة فتح كأول حركة فلسطينية 1960؟ ولماذا تفتت المقاومة الفلسطينية في السبعينيات واقتتلت في الثمانينيات؟ وكيف كان الوقوف ضد محاولة العراق ضم الكويت في عام 1961 دون طلقة رصاص واحدة؟ ولماذا كان غزو الكويت وسقوط بغداد بعد ذلك؟ ولماذا كان الوقوف بجانب كل حركات التحرر من اليمن إلى جنوب أفريقيا؟ ولماذا مُنعت إسرائيل من وضع قدم في أفريقيا حتى كانت كامب ديفيد؟

ولا يمكن أن نتساءل عن التاريخ دون ذكر المقاطعة العربية لكل من يتعامل مع الكيان المحتل، ولماذا كانت في أقوى حالتها حتى جاءت كامب ديفيد؛ التي تضمنت إلغاء المقاطعة والتشجيع على التجارة مع الكيان؟ ولماذا اشترطت إلغاء قرار الأمم المتحدة باعتبار الصهيونية حركة عنصرية؟ وكلنا يعلم أن نظام كامب ديفيد كان العامل الأول لفتح أفريقيا أمام إسرائيل، ولماذا لم ترتق علاقة اليونان بإسرائيل لمستوى السفارات إلا في 1991؟

ولماذا كانت جامعة الأزهر تُصدّر علماء للدين والدنيا، وخرج منها أطباء ومهندسون ومدرسون وعلماء مسلمون لبناء ترابط حقيقي مع القارة الأفريقية والمنطقة العربية، ومصر في قلبهما؟ ولماذا ارتبطت مصر بإثيوبيا ارتباطا بني على فرعي الكنيسة الأرثوذكسية في مصر وإثيوبيا التي لم تتعامل مع إسرائيل حتى الثمانينيات من القرن الماضي؟! وهل كان الارتباط بالأزهر والكنيسة لاستغلال الدين لتثبيت قواعد الحكم، أم لتحقيق الأمن القومي في الداخل والخارج؟ أليس هذا هو القرن الأفريقي في باب المندب ما بين اليمن والصومال وإثيوبيا؟ وأليست إثيوبيا هي أغنى منابع النيل؟

ولماذا صدر قرار جمهوري سنة 1960 بإغلاق المحافل البهائية؟ ولماذا حُلت المحافل الماسونية وأُغلقت أندية الروتاري والليونز عام 1964؟ ولماذا كانت عملية إعطاب الحفار الإسرائيلي على شواطئ أفريقيا؟ ولماذا وقف آل سعود مع الإخوان ضد عبد الناصر؟ ولماذا وقفت ذات الأسرة ضد الإخوان في 2012؟ ومن الذي شجع إسرائيل على البدء في حرب 1967؟ ولماذا توقفت تدريبات الأسطول السادس في البحر الأبيض يوم موت عبد الناصر؟

أسئلة كثيرة متعددة الجوانب وإجاباتها واضحة لو خلصت النية، ولكن البعض لم يدرك ولن يدرك مغزى هذه الأمور، وكذلك لم يدرك ذلك البعض مغزى مشاركة نتنياهو في احتفالات السفارة المصرية في تل أبيب بما يسمى يوم مصر الوطني (ثورة 52 سابقا)، وصَوره هذا البعض على أنه دليل على تبعية ثورة 52 للإمبريالية ولإسرائيل. وبدلا من أن يراجعوا التاريخ، بدأوا يستمعون لتفاهات عبد الحكيم وهدى عبد الناصر وخرافات عمرو موسى الذي سوق نفسه على أنه "ناصري"، مثل كثيرين ممن يحملون اللقب الذي منحوه لأنفسهم، لقبا لا يمنح عبر اختبار قدرات، مثلهم مثل كل الأيديولوجيات، إسلامية كانت أو ليبرالية!

الإجابة لدي أنه ليس بالضرورة أن يكون الدكتاتور غير وطني؛ لأن الديمقراطية والوطنية ليستا مترادفتين، ولكن اجتماعهما يحقق الكثير، وهذا أمر محكوم بالزمان والمكان، ولذا كان من أهم مطالب الشعب في 2011 هو الديمقراطية لأن النظم الشمولية وأشباه الديمقراطية لم تعد تصلح للقرن الحادي والعشريين، لذا أصبحت الديمقراطية من أهم عوامل النهوض والتقدم.
التعليقات (0)