سياسة عربية

فيلم غرف سوداء.. الديكودراما تفضح غياب الاستقصاء الصحفي

ناقد سينمائي: الفيلم الوثائقي "غرف سوداء" فيلم وثائقي مشوّه لم يلتزم الحياد  (العربية)
ناقد سينمائي: الفيلم الوثائقي "غرف سوداء" فيلم وثائقي مشوّه لم يلتزم الحياد (العربية)

أثار عرض فيلم "غرف سوداء" على قناة "العربية" السعوديّة، وقبلها على قناة "تونسنا" التونسية، والذي حاول التقصّي في شبهة وجود تنظيم أمني سرّي يتبع حزب حركة "النهضة" ومدى تورّط هذا الجهاز المزعوم في عمليات الاغتيال السياسية التي استهدفت معارضين سياسيين سنة 2013، الكثير من الجدل السياسي والإعلامي، سيّما وأنّ جزءا مهمّا من المبحث الفيلمي المعروض لا يزال على طاولة باحث البداية بالمحكمة الابتدائية بتونس.

بعيدا عن مجريات البحث القضائي ومآلاته، ودفعا بالسينما الوثائقيّة إلى مربّع الاستقصاء، الوتد المتين لخيمة الإعلام الرّقابي الدّاعم للديمقراطية الناشئة والحامي لمؤسساتها الوليدة من كلّ زيغ عن مبحث العدالة، وقناعة راسخة بأنّ التحقيق الصحفي الاستقصائي يبقى القراءة الأكثر هدوءا للملفات الأكثر حساسية، يحاول هذا التقرير تقييم متانة الفرضية المطروحة التي انبنت عليها المادّة الفيلمية المعروضة.

ولأن منهجية البحث الاستقصائي تبقى راحلة الباحث المتقصي إذا ما رام ورود الحقيقة الصحفية الكاملة دون تطفيف أو مغالاة، فإنّ التقرير يستعرض تقييم ثلّة من المختصّات في الصحافة الاستقصائية، اللواتي يمثلن العناوين البارزة لصحافة العمق في تونس، لمدى تسلّح معدّي المادّة الفيلمية بأدوات التحقيق الصحفي، كما يستأنس التقرير برأي المخرج والسيناريست الأردني أسامة عكنان لتقييم مدى وجاهة اختيار الديكودراما لهذا الفيلم التحقيقي.

الديكودراما.. اختيار غير موفق


يصنّف الدكتور أسامة عكنان، السيناريست والمخرج السينمائي الأردني، فيلم "غرف سوداء"، المعروض على ثلاثة أجزاء على قناة "تونسنا" التونسيّة والمعروض مختصرا في حلقة واحدة بخمسين دقيقة على قناة "العربية" السعوديّة، على أنه فيلم ديكودراما (توثيق + تمثيل مشاهد دراميّة)، فهو وثائقي مشوّه باعتباره لم يلتزم برصده للواقع أو بتقديم مادّة فيلميّة علميّة أو تاريخيّة بصورة حياديّة دون إبداء آراء فيها.

 


يؤكّد عكنان في حديث خاص لـ "عربي21"، على أنّ وجه الزلل الكبير الذي وقع فيه الفيلم هو الجنوح نحو الديكودراما، ذلك أنّه "من المعروف مهنيا، لدى المحترفين والمختصين في إعداد الأفلام التسجيلية والوثائقية، أنه لا يتم اللجوء إلى تمثيل المشهد الديكودرامي عن واقعة ما، إلا في حال عدم وجود مادة مسجلة مصورة فعلية عن محتوى المشهد الديكودرامي، وبعد ثبوت صحة أو أرجحية هذا المحتوى ليكون تمثيله ديكودراميا له قيمة تسجيلية توثيقية، وليس مجرد عمل درامي تخيلي فقط، كما هو الحال في الأفلام التي تتحدث عن حوادث الطيران اعتمادا على ما في الصندوقين الأسودين، وكما هو الحال في الأفلام التسجيلية التاريخية مثلا". 

تتفق بهيجة بالمبروك، صحفيّة استقصائيّة بوكالة تونس إفريقيا للأنباء ومدرّبة معتمدة من قبل شبكة أريج (إعلاميون من أجل صحافة استقصائيّة عربيّة)، مع ما ذهب إليه عكنان، إذ اعتبرت استعمال مشاهد إعادة التمثيل في القصة المحورية التي تخصّ قضية "مصطفى خضر" غير صائب بالمرّة، مضيفة أنه كان يفترض تقديم طلب إجراء حوار معه أو مع محاميه بما أنه قد تم الفصل في قضيته في مختلف درجات التقاضي.

 



ويضيف عكنان بالقول، إنّ مصطفى خضر، الشخصيّة المحوريّة في الفيلم، مسجون ومحكوم، وهو "ما يعني أن المعلومات التي تم بثها عبر هذا المشهد الديكودرامي، هي معلومات يفترض أنه اعترف وأدلى بها ومن ثم فإن الشخص الآخر هو أيضا معترف عنه، وهو ما يلغي أي حاجة إلى مشهد ديكودرامي، إما بأن يتم نقل اعترافات مصطفى خضر أو الرجل الآخر بشكل صريح وعلني كما هي في المحاضر خلفية لصورتيهما، أو لأي شيء يعبر عنهما، إذا رفضنا إجراء لقاءات معهما، أو على الأقل تتم الإشارة إلى أن أيا منهما اعترف بما يلي، ويتم ذكر تلك التفاصيل". 

كما استغرب عكنان اللجوء إلى تمثيل مشاهد ديكودرامية أربع مرات، ثلاث منها في الجزء الثاني والرابع في الجزء الثالث والأخير، والتي كانت كلّها تدور حول الجزء من القضية الأكثر يقينا ووضوحا وخروجا عن السرية، وهو "قضية مصطفى خضر" المحكوم والمسجون لسبب جنائي واضح تماما، أي في القضية الوحيدة التي لا تحتاج أصلا إلى مشاهد ديكودرامية لتجسيدها ولعرض المعلومات المرتبطة بها.
 
وبالتالي فإن جماع قول السيناريست عكنان هو أن عدم الالتزام بالمعايير المهنيّة للديكودراما في فيلم "غرف سوداء" "قد يولّد انطباعا لدى المشاهد بعدم دقّة بعض المعلومات الواردة في الفيلم أو أنها مجرد تخيلات ومحض تأليف، وهو ما يمس من حيادية وشفافية العمل التسجيلي وكان على المخرج الانتباه لذلك".

المنحى الاستقصائي للفيلم

يطرح الفيلم قضيّة مهمّة تمسّ الشأن العام في تونس وتتمثّل في شبهة حيازة حركة "النهضة" التونسيّة، أهم الأضلاع الحاكمة في تونس ما بعد انتخابات تشرين أول (أكتوبر) 2011، على تنظيم سرّي وهو ما يمثّل، في صورة إثباته، خرقا للحياة الديمقراطية ونكوصا عن مبدأ علنية النشاط الحزبي الذي بموجبه تمّ الترخيص لحركة "النهضة" بالعمل منذ آذار (مارس) 2011، وقد مثلت هذه القضيّة قطب رحى النقاش السياسي الدّائر لأشهر عديدة.

وكان واضحا منذ البداية أنّ الفيلم يصبّ في تحديد المسؤوليّات عن أكبر جرائم سياسيّة مسّت المرحلة الانتقاليّة، والمتعلقة باغتيال رمزين معارضين هما الزعيمان شكري بلعيد ومحمود البراهمي سنة 2013، رغم حكم القضاء وبتّه في أدوات الجريمة وشخوصها الجنائية المباشرة منذ مدّة.

لم يبطئ واضع سيناريو الفيلم في إبانة صحافة التحرّي التي عملت على تحديد المسؤوليات عن الجرائم السياسيّة المرتكبة، وبالتالي لم يحتج المشاهد لكثير معرفة كي يفهم أن الفيلم بصدد الإجابة عن أسئلة ثلاث على الأقل، من المسؤول؟ من المستفيد؟ ومن المتضرر؟

التركيز على شخصيّة مصطفى خضر والتحقيق في إمكانيّة ضلوعه في جريمة الاغتيالات السياسيّة، حشر الفيلم في "الجبّة" أو الكساء الاستقصائي، حتى وإن لم يقع التصريح بذلك وبغض النظّر عن مدى توفق المنهجيّة التحقيقية المتبعة في الالتزام بمنهجية البحث الاستقصائي للإجابة عن الفرضيّة الاستقصائية الموضوعة من عدمها. وممّا يدعّم هذا التصنيف هو عمل الفيلم على فضح قصّة مخفيّة وهو ما يدمجه في خانة السينما الاستقصائيّة بشكل عام.

وبالتالي يكون الفيلم أقرب ما يكون لفيلم وثائقي استقصائي من حيث الشكل وكما أريد له أن يكون، ويبقى الحكم له أو عليه من خلال إخضاعه للضوابط الاستقصائية المهنيّة المتعارف عليها.

تهافت الفرضيّة الاستقصائيّة

اعتبرت حنان زبيس، صحفية ومدرّبة استقصائية حاصلة على جائزة سمير قصير لحرّية الصحافة لسنة 2013، أنّ "غرف سوداء" طرح فرضية ولكنه لم يجب عن كل الاسئلة، ويمكن أن تكون الإجابة في الأجزاء القادمة بما أنّ منتجي العمل قد وعدوا بأجزاء لاحقة، مضيفة أنّ "الجانب الاستقصائي متوفّر إلى حدّ ما ولكن لا يمكن اعتبار كامل الفيلم فيلما استقصائيا".

 



في المقابل، ترى بهيجة بالمبروك، صحفيّة استقصائيّة بوكالة تونس إفريقيا للأنباء ومدرّبة معتمدة من قبل شبكة أريج (إعلاميون من أجل صحافة استقصائيّة عربيّة)، أنّ العمل الصحفي بني على فرضية مفادها "إعادة تأسيس تنظيم سرّي من قبل حركة "النهضة"، وضلوع هذا التنظيم في عمليات الاغتيال السياسي وفي التخابر"، إلاّ أنّ هذا العمل الذي لم يكن البتة استقصائيا وإنما قد يسجل في خانة الفيلم الوثائقي، مضيفة بالقول أنّ "معدّي الفيلم تعسّفوا على بعض الحقائق والتسجيلات لتطويعها في خدمة تلك الفرضية، وكان من المفترض أن يقدم التحقيق إجابات على تساؤلات يطرحها المحقق في بداية الفيلم، لا أن يتركها معلّقة ومفتوحة".

في ذات السّياق، اعتبرت بالمبروك أن التحقيق قدم شهادات كانت متحيزة لفرضية البداية، خدمة لها دون تقديم حقائق موثقة، و"انبنت بعض المعلومات على مجرد تخمينات وحكم على النوايا دون مدعمات وثائقية وهو ما يمس من مصداقية العمل وحياديّة معدّيه".

من جهتها، اعتبرت مبروكة خذير، صحافية ومنتجة استقصائية وحائزة على جائزة الملتقى الدولي الأوّل لأفلام مكافحة الفساد لسنة 2018 الذي تنظّمه الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد، أن جزءا مِن الحقيقة تم إثباته وهو علاقة أنصار الشريعة بالاغتيالات، فيما لم يتم إثبات الجزء المتبقي والمتمثل في الجهاز السري لحركة "النهضة" ومسؤوليته المفترضة في الاغتيالات السياسية.

حيل إخراجيّة

اعتبر الدكتور أسامة عكنان أن لجوء الفيلم إلى بعض التكتيكات الإخراجية غير الموفقة أوقعه في اللامهنية، من ذلك "ذكر بعض الأسماء كاملة وبمنتهى الوضوح في المشاهد الديكودرامية، فيما تم إخفاء بعض الأسماء بمؤثر صوتي؟" مضيفا بالقول أنّ هذا الأسلوب "قد يخلق الإيحاءات بوجود أمور خطيرة وسرية، وهو تكتيك أريد به تعويض رتابة تمثيل مشهد لشخصين معتقلين ومسجونين ومحكومين اعترفا بكل هذه الحقائق". 

وأشار عكنان في ذات السياق إلى أنّ توثيق وتسجيل الاعترافات من خلال مشاهد ديكودرامية، يكون عادة إما عبر تمويه كافة الأسماء لأسباب أمنية مع اعتبارها حقيقية، وإما عبر ذكرها جميعها عندما تأذن الأجهزة الأمنية والقضائية بذلك، ولكن "لجوء منتج الفيلم إلى هذه الثنائية المربكة التي لا معنى لها من الناحية المهنية، قد يكون هدفها تخفيف حدة التلفيق التي بدت واضحة في الفيلم، إذ لا معنى لللجوء للديكودرامية في الوقت الذي يمكن الاستغناء عنها". كما أن استخدام تقنية التخفي بالمؤثر الصوتي وراء بعض الأسماء، كان هدفها إيحائي بحت وهو ما قد يولّد إنطباعا بعدم مهنيّة منفّذي الفيلم، يضيف عكنان. 

الفيلم لم يمنح حق الرد للمتّهمين

من العناصر المهمّة في التحقيقات الصحفية الاستقصائيّة، منح حق الرّد كاملا غير منقوص للأطراف المشمولة بالاتهام، وذلك قبل نشر أو عرض التحقيقات. وتمثل مساحة حق الرد ليس واجبا مهنيا وأخلاقيا فحسب، بل هي مرحلة مهمّة تسهم في إضاءة جوانب مهمّة من التحقيق. وقد أجمع المستجوبون خلال هذا التقرير على تغييب شبه كامل لمرحلة المكافحة مع المشمولين بالاتهام بحسب كل الجزئيات التي تمّ اتهامهم بها.

 



حيث اعتبرت مبروكة خذير، في تصريحها لـ "عربي21"، أنه رغم المجهود البحثي المعمق فإنّه كان يفترض في معدّي الفيلم تنويعا أكثر في المصادر والنبش فيها والاستفادة من مرحلة المواجهة لو تمّت بالصورة المطلوبة، مضيفة أنّ التعويل على هيئة الدفاع مصدرا وحيدا للمعلومة حصر المجال في التوثيق الذي غلب على جانب التقصي الصحفي المطلوب في الأعمال الاستقصائيّة. وعلى هذا الأساس يحتاج العمل الفيلمي المقدّم مزيدا من البحث والتقصي والعمل على الاقتراب أكثر من الحقيقة من خلال إيلاء مرحلة المواجهة، التي تكاد تكون مفقودة، المكانة المستحقّة من أجل كشف خفايا اخرى من الملف المتشعّب، تضيف خذير.

بدورها، عابت حنان زبيس في حديث خاص لـ "عربي21"، على العمل الفيلمي "غياب التوازن والمتمثل في عدم منح حق الرد لقيادات "النهضة" المشمولة بالاتهام، كما أنه لم يقع الحديث مع مصادر من الداخلية أو من القضاء أو حتى من لجان حماية الثورة لتعطي روايتها للأحداث". وتمنت زبيس تدارك الأمر وتلافي هذا النقص في قادم الأجزاء الموعود بها من الفيلم التوثيقي.

كما أشار أسامة عكنان إلى إقصاء الفيلم لحق رد متهمين أساسيين: الداخلية وكذلك عناصر من حركة "النهضة"، كان يمكن أن يتم الالتقاء بها لتوضيح المسألة أكثر ومواجهتها بالأدلة والحجج التي تم الحصول عليها أثناء فترة البحث. وهو نفس النقد الموجّه من قبل بهيجة بالمبروك التي رأت أنه كان من المهنيّة مكافحة الغنوشي والعريّض بما توصّل إليه فريق البحث من معطيات أو حقائق، كما كان يفترض منح الناطق الرسمي لحركة "النهضة" المستجوب في الفيلم الوقت الكافي للرد على مختلف الاتهامات الموجّهة لحركته.

لئن أثنت كلّ من حنان زبيس ومبروكة خذير على جانب مهم من العمل الفيلمي، حيث اعتبرتا أن فيلم "غرف سوداء"، ورغم النقائص التي أتيا عليها أعلاه، فقد عرض مجموعة من الحقائق بالإعتماد على وثائق مهمة وسرية تم الحصول عليها من "لجنة الدفاع عن الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي"، مثمّنتين كذلك المحاولة الجيدة لإعادة بناء الأحداث وربطها ببعضها البعض مما يسهل على المشاهد فهم عمق القضية المطروحة وخطورتها، فإنّ الدكتور أسامة عكنان، السيناريست والمخرج السينمائي، رأى أنّه عكس ما يوحيه عنوان الفيلم "غرف سوداء"، فإن الفريق الصحفي "لم يبحث في مناطق العتمة بل اكتفى في أغلب الأوقات بإعادة تصوير مشهدي لوقائع كانت كشفتها ما بات يسمى إعلاميا "لجنة الدفاع عن الشهيدين" مع التفنن في إجراء إسقاطات متعسّفة لمحاولة ربط وجود الجهاز السرّي بملف الاغتيالات،  وهو ما يخرج الفيلم وبعرف المقاييس الأكاديمية من ملّة التحقيق الاستقصائي ويمسّ من مصداقيّة الفريق الصحفي رغم ما بذلوه من جهد تجميعي وابتداع فنّي في الفيلم".

رغم الهنات الاستقصائية البارزة في فيلم "غرف سوداء"، يجدر تثمين الجهدين الصحفي والانتاجي المبذولين لمحاولة ملامسة الحقيقة الصحفية في ملف سياسي شائك لازال يثير الكثير من الغبار نظرا لاستتباعاته الأمنية والسياسية.

 

إقرأ أيضا: "النهضة" التونسية تقرر مقاضاة قناة العربية (شاهد)

التعليقات (0)