قضايا وآراء

استمرار تراجع الاستثمار الأجنبي في مصر

أحمد ذكر الله
1300x600
1300x600
أعلنت بيانات البنك المركزي المصري تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 5.9 مليار دولار في العام المالي الماضي، في مقابل 7.8 مليار دولار للعام المالي السابق. وأرجع البنك المركزي هذا التراجع إلى ارتفاع الاستثمارات المتدفقة إلى الخارج بصورة أكبر من دخول المستثمرين الأجانب في مصر.

حدث هذا التراجع على الرغم من إعلان الحكومة المصرية على لسان وزيرة الاستثمار سحر نصر؛ أن تستهدف جلب 20 مليار دولار سنويا كاستثمارات أجنبية، وكان ذلك في أعقاب الترويج للإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة المصرية؛ لدعم مناخ الاستثمار المحلي والأجنبي، التي كان أبرزها إصدار قانون جديد للاستثمار، وإصدار قوانين الشركات وسوق المال والإفلاس، وأخيرا إصدار قانون التراخيص الذي اختصر فترة الانتظار للحصول على تراخيص صناعية، من أجل تأسيس منشآت جديدة، من 600 يوم إلى فترة تتراوح بين 7 إلى 30 يوما.

ولم يكن التراجع في جملة الاستثمار الأجنبي إلى مصر هو المشهد الوحيد، بل كان من اللافت كذلك أن الاستثمار في قطاع البترول استحوذ على 66.3 في المئة، بينما استحوذ قطاع الخدمات على نسبة 11.8 في المئة، ثم القطاع الصناعي بنسبة 10.2 في المئة، ثم قطاع الإنشاءات بنسبة 4.3 في المئة، ثم القطاع الزراعي بنسبة 0.1 في المئة، وهو ما يعني أن الاستثمارات غير البترولية تراجعت إلى نحو 3.2 مليار دولار العام قبل الماضي، مقابل نحو 3.9 مليار دولار في العام السابق عليه.

ومن المعلوم أن قطاع البترول لا ينتج فرص عمل بالنسبة نفسها مقارنة بقطاعات أخرى، كما أنه لا ينقل الخبرات إلى الشركات المحلية، علاوة على عدم القدرة علي نقل ونشر تكنولوجيا القطاع المستوردة طيلة العقود السابقة، وهو ما يفقد الاستثمار الأجنبي (على قلته) الموجه نحو هذا القطاع أهم مميزاته وفوائده التي يسعى المجتمع إلى كسبها والاستفادة منها.

يرجع الانخفاض في صافي الاستثمار الأجنبي المباشر بصورة مجملة إلى عدة أسباب، أبرزها استمرار أسعار الفائدة عند مستوى مرتفع، وتراجع حجم الطلب في السوق المصرية بعد إجراءات برنامج الإصلاح مع صندوق النقد الدولي، التي أثرت على القوة الشرائية للمواطنين، بالإضافة إلى التأثر بما يحدث من تطورات في الأسواق الناشئة، والازدياد المضطرد لأنشطة الجهات السيادية الاقتصادية، ويسبق كل ذلك التوترات السياسية الداخلية والانقسام المجتمعي الحاد، الذي دأبت السلطة على تغذيته، بالإضافة إلى تصدير صورة الدولة التي تواجه الإرهاب نيابة عن العالم، في كل خطابات الدولة محليا ودوليا.

وفي تقديري أن كل العوامل السابقة ستظل ذات تأثيرات سلبية على الاستثمار الأجنبي خلال الأعوام القادمة، ولكن تبقى ثلاثة عوامل رئيسية تشكل الوزن النسبي الأكبر في هذا التراجع، وهي تراجع النمو الاستهلاكي، ومزاحمة الجيش للقطاع الخاص في الأنشطة الاقتصادية، وأخيرا التوتر السياسي الداخلي.

ويتوقف نجاح الإجراءات الاقتصادية في استقطاب استثمارات أجنبية غير بترولية على قدرة الحكومة على استعادة النمو الاستهلاكي الذي لا يزال منخفضا. فلكي يتخذ المستثمر الأجنبي قرارا بالاستثمار المباشر في قطاع غير بترولي، لا بد أن يطمئن إلى أن هناك تعافيا في نمو الاستهلاك، يضمن تصريف جزء من منتجاته داخليا، وأن فرص النمو في الصناعة حقيقية، وليست مجرد وعود زائفة.

وفي هذا الإطار، يلزم التنويه إلى أن حجم السوق لا يقاس بعدد السكان، ولكن بمتوسط نصيب الفرد من الدخل القومي. وهنا نجد أن السوق المصرية ليست جاذبة للعديد من المستثمرين، خاصة بعد تطبيق الحكومة لبرنامج صندوق النقد الدولي، الذي أسهم مع تعويم الجنيه في إفقار المصريين وتآكل قدرتهم الشرائية، وذلك يدعو الدولة إلى إعادة النظر في البرامج الاقتصادية الموجهة للفقراء ومحدودي الدخل، ومحاولة دعم الطبقة المتوسطة من خلال برامج موجهة.

كما أن استمرار تغول الجيش على النشاط الاقتصادي ومزاحمته للقطاع الخاص، له الكثير من التأثير السلبي على الاستثمار المتدفق إلى مصر، فالرسالة التي استقبلها الجميع في الخارج والداخل، أنه لا عمل ولا أرباح إلا من خلال المؤسسة العسكرية وأذرعها الأمنية، وأن غضب تلك الأجهزة قد يأكل كل ما تحقق سابقا من أرباح، بل قد يقضي تماما على الشركاء، وأنه لا مجال لمقاضاة هؤلاء في ظل السيطرة التامة على السلطة القضائية، التي تعاني أساسا بطء الإجراءات.

تحتاج السلطة المصرية لعمل مركز وكثيف وموجه في الأساس للخارج لتغيير الصورة السابقة عن مناخ الأعمال في مصر، وأعتقد أنها يجب أن تبتعد عن الخطب الرنانة والشعارات الزائفة، وتتجه مباشرة إلى سياسات حقيقية لتحجيم تدخل الجيش في الشأن الاقتصادي، ودون ذلك لا شك في أن الاستثمار الأجنبي سيتجه نحو الأسوأ خلال الفترة المقبلة.

كل ما سبق، بالإضافة إلى المشاكل المزمنة التي تواجهها الاستثمارات في مصر، بما في ذلك البيروقراطية وبعض التعقيدات التشريعية، واستغراق وقت طويل للحصول على التراخيص اللازمة؛ تلك المعوقات ليست جديدة في المعادلة، بل تم بذل مجهود حيالها خلال الفترة الأخيرة، ولكنه ما يزال يحتاج إلى المزيد.

أخيرا، يعتبر الانقسام المجتمعي الداخلي الذي أنتجته السلطة الحالية؛ وضعا كارثيا على البيئة الاقتصادية، ليس فقط في مجال تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر، بل على مجمل الأوضاع المجتمعية، تضاف إلى ذلك تداعيات بدء ملء سد النهضة، التي في أفضل التقديرات ستنقص ربع حصة مصر من المياه لمدة خمس سنوات على الأقل وستؤدي إلى تبوير آلاف الأفدنة، وستجر البلاد إلى منعطف خطير؛ ربما لم تفطن السلطة الحالية إليه في ظل انشغالها بالأزمة الداخلية.

كل العوامل السابقة مرشحة للاستدامة خلال العام القادم، وذلك يعني أنه لا تحسن يذكر سيطرأ على أرقام الاستثمار الأجنبي الوارد إلى مصر، ورغم قناعتي الشخصية بدوره المحدود في النموذج التنموي الذي يجب أن تعتمد عليه البلاد، إلا أنه ما يزال أحد الأرقام الكاشفة عن خطأ الطريق، وفقدان البوصلة. والوقوع في فخ التعالي عن تناول الحقائق والتعاطي معها، سيدفع بالجميع نحو الهاوية.
التعليقات (0)