قضايا وآراء

من يمسح دموع محمد يا سيسي؟

محمد فهيم
1300x600
1300x600
بينما أجلس وسط أقران أبيه، جرى نحوي تاركا حذاءه يتساقط من قدميه، الواحدة تلو الأخرى. ساد المكان حالة من الصمت بعد ضجيج، وبدأ الجميع في متابعة محمد، الذي كاد ينزلق في بقعة مياة سقطت من فم أخته الصغيرة أسماء، عندما طلبت الماء من مريم، التي تكبرهما، إلا أن شقيقتهم الأكبر حنان أمسكت بيد أخيها في اللحظة الأخيرة قبل السقوط، ولكن الكبرى زهرة عنفته قائلة: "انتبه فأنت من تبقى لدينا من صنف الرجال في هذا البيت".

الكل يتابعون محمدا، ومحمد لا يتابع إلا وجهي ولا ينظر لسواي، أنا صديق أبيه الذي يحب. أغمض عينيه لبرهة وعاد يفتحهما بصعوبة بينما الدموع تجري فوق خديه الصغيرين كالنهر الجاري، فكما تتلاحق أمواجه نحو القنطرة وبين فتحات السدود لتروي البهائم والطيور وتحيي الزرع، تهاوت دموع محمد نحو الأرض تبللها وتطبطب عليها، وتروي قلبها الذي يتألم لغياب صاحبها عنها.

قمت بسرعة تتخطفني نظرات الحاضرين الذين يملؤون حجرة الضيوف في بيت صديقي فريد، الذي طالما شهد كل ركن فيها أحلامنا لأنفسنا وسجل عنا أحلامنا لأبنائنا، وشاركنا أحلامنا لمصر وفلسطين، وعاش معنا نقاشنا وجدالنا الذي كان يقطعه محمد بدخوله علينا.

تحيّر الجميع بين متابعة محمد ودموعه ونحيبه المتصاعد، ومتابعة انتفاضتي ودموعي وصوتي المخنوق بين حنجرتي وقصبتي الهوائية، وبين لهفة أخواته البنات على صغيرهم المقهور.

وفي اللحظة الأخيرة تعلقت أنامله الصغيرة بأطراف أصابعي، كم هي باردة أصابتني برعدة شديدة رغم حر آب/ أغسطس. تلقفته من بين ضلعيه الضعيفين وضممته بشدة نحو قلبي، فتعلق برقبتي وبدأت حالة الذعر تنحسر عن أطرافه حتى طال عناقنا، بينما هو يبكي بصوت مستجير وأنا أبكي بصوت العاجز، فبكى الحاضرون.

خلعته من بين أضلعي بعدما شعرت بدفء عاد إلى قلبه ويديه، وأوقفته أمامي لأمسح دموعه بكفي الذي انساب، حتى احتضنت رأسه كلتا يدي، وقلت له: "لا تبكي يا محمد ولا تحزن، فأنت رجل هذا البيت الآن بعد اعتقال أبيك وأخيك معاذ".

لم تشف كلماتي قلب محمد، ولم تهدّئ من روعه، ولم يرد عليها إلا بالدموع التي توالت مصحوبة بصدمة ارتسمت علاماتها على وجهه الذي زاد شحوبا، وتساءل في صمت: "كيف هذا وأنا في الثامنة من عمري؟".

قرأت في عيني الصغير اللتين راحتا في عالم آخر؛ أنه يقول لي: يا عماه إنه أبي مريض الكلى والسكر، كيف لا أحزن وقد رأيتهم يضربونه ضربا مبرحا ويسبونه بأمه وأبيه، وهو من عاش عمره حرا أبيا لا يقبل الضيم، ولا ينزل على رأي الفسدة ولا يهاب الظالمين؟

يا عماه: كيف لا أحزن ولا أدري من يرعاه ومن يرعانا؟ من يطعمه ويداويه ومن يطعمنا ويداوينا ويكسونا؟ من أين نجلب المال كي تعيش وتتعلم أربع بنات، وأم لم يغب يوما عنها زوجها؟

يا عماه: لا أدرى ماذا جنى أبي؟ لو تعرف جوابا أجبني، ولو تعرف من لديه الجواب دلني عليه!

وجه محمد الغاضب ودموعه التي عادت تنهمر كأشد ما تنهمر السماء؛ يقولان لي: يا عماه إنه معاذ، أخي الأكبر وصديقي الأفضل الذي طالما حلمت أن أكون مثله، فيفرح قلب أبي وأمي بي كما فرحا به، وأدخل كلية الهندسة مثله، أو أتفوق عليه وأصبح طبيبا أداوي آلام أبي وأمي وكل أحبابي.

يا عماه: لا أدري ماذا جنى معاذ، حتى يضيع مستقبله بعد أن يُضرب ويُعذب ويُهان ويُوضع في سيارة الترحيلات أمام عيني وعين أخواتي كعتاة المجرمين؟ لو تعرف جوابا أجبني ولو تعرف من لديه الجواب دلني عليه!

لقد اعتقلت قوات أمن الانقلاب في مصر، التاجر ورجل الأعمال والصحفي السابق فريد سراج، مع ابنه معاذ، الطالب بكلية الهندسة الفرقة الثانية، من منزلهما فجر أحد أيام آب/ أغسطس الماضي، بعد اقتحام البيت وتحطيم كل محتوياته.
التعليقات (0)