قضايا وآراء

عن الموقف الإيراني من تظاهرات العراق

ماجد عزام
1300x600
1300x600
كما في الحالة اللبنانية أو أي من الدول والعواصم العربية التي تحتلها إيران، لا يمكن مناقشة التظاهرات الأخيرة في العراق والموقف الإيراني منها؛ إلا ضمن محددات أو ثوابت منهجية تاريخية وسياسية، علماً أن الحالة العراقية تبدو أعقد (نسبياً) نظراً لوجود احتلالين وليس احتلالا واحدا، مثلما هو الحال في لبنان. كما أن بغداد هي عاصمة إمبراطورية الدم والوهم الفارسية حسب المعتدل علي يونسي، مستشار الرئيس حسن روحاني، المعتدل أيضاً حسب التوصيفات الخادعة.

وللمفارقة، فإن العاصمة الحقيقية للإمبراطورية الوهمية هي بيروت وضاحيتها الجنوبية، حيث الذراع الإقليمي المركزي للاحتلال الإيراني، وللمفارقة أيضاً أو التعقيد (ذهنية حياكة السجاد فى شكلها البشع والدموي)، فإن العمود الفقري هو في سوريا، حيث إيران شريكة صغيرة للاحتلال الروسي الذي استجدته أيضاً في 2015، بعد فشلها هي وأذرعها طوال أربع سنوات في هزيمة الثورة وحماية نظام الأسد أو منع سقوطه.

منذ 2003 يخضع العراق للاحتلالين الأمريكي والإيراني- الفارسي.. استجدت إيران عبر عملائها الاحتلالَ الأمريكي، بل شجعته مباشرة، كما قال تحقيق نيويورك في أيلول/ سبتمبر 2013 الشهير الرصين والموثق، الأمر الذى تؤكده الوقائع على الأرض، حتى بعد الانسحاب الأمريكي أو إعادة الانتشار بالأحرى، إلى جانب تواطؤ الاحتلالين وتلاعبهم بنتائج انتخابات 2009، وقد تم فرض الخاسر الطائفي البغيض نوري المالكي رئيس للوزراء كأداة للاحتلالين، ومن لحظتها باتت إيران شريكة صغيرة للاحتلال الأمريكي.

بتفصيل أكثر، دمرت أمريكا العراق، ونهبت ثرواته (كان الاستبداد البعثي قد أساء إستغلالها أصلاً) واستولت على النصيب الأكبر من الكعكة، استراتيجياً ونفطياً، تاركة الفتات لإيران التي باتت تتحكم بالمشهد اليومي، بتفاصيله وأزماته، لكن ضمن القواعد والمحددات الأمريكية التالية: "لا كسر لسايكس بيكو، لا قواعد إيرانية، كما لا تهديد علني لدول الجوار مع اعتبار حماية أمن إسرائيل ثابتا دائما من ثوابت السياسة الأمريكية طبعاً".

تستخدم إسرائيل عادة مصطلح الأمن الجاري أو التكتيكي اليومي مقابل الأمن الاستراتيجي الدائم طويل المدى. من هنا يمكن القول إن إيران باتت مكلفة بالاحتلال الجاري التكتيكي ، بينما تتحكم أو تدير أمريكا الاحتلال الاستراتيجي. 

طوال السنوات الماضية عمدت إيران الى التخريب في العراق عبر أدواتها وعلى كل المستويات، وتعمدت عدم نهوض البلد على كل المستويات؛ سياسياً واقتصادياً وإنشائياً وخدماتياً وأمنياً، في انتقام تاريخي (من هنا اعتبر يونسي بغداد وليس طهران عاصمة الأمبراطورية الوهمية)، كما للاستفادة من الفتات عبر إغراق البلد ببضائعها الرخيصة منخفضة الجودة وحتى ببيعه الكهرباء والمياه. وعندما اندلعت تظاهرات 2013، في محاكاة واضحة للربيع العربي، تم قمعها بعد شيطنتها واتهامها بالإرهاب. وقادت طهران عبر أدواتها (بضوء أخضر أو برتقالي أمريكي) تصفية سياسية ميدانية لكل القادة المعارضين من العرب السنة، ثم تم فضّ الاعتصامات بإجرام ودموية (تماماً مثلما حصل في رابعة والنهضة)، ثم جرى الهروب الجنوني إلى الأمام من إيران وعملائها وأدواتها، عبر تسليم مدينة الموصل جهاراً نهاراً لتنظيم داعش، بعدما أمر المالكي الجيش بالانسحاب مع ترك مستدوعات هائلة من السلاح الأمريكي غير المستخدم وملايين الدولارات في البنوك لعقاب المنتفضين الثائرين ضد المنظومة اللحدية الطائفية عبر تدمير مدينتهم، وتمكين داعش من إقامة دولته وخلط الأوراق، وتغيير شكل أو قناع الهيمنة عبر الحشد الشعبي الذى يمثل النسخة العراقية للحرس الثوري (حتى مع الاستغناء عن المالكي نفسه)، ثم فرض معادلة داعش أو الأسد في سوريا، وداعش أو المنظومة أو التركيبة اللحدية نفسها في العراق التي صنعتها أمريكا بعد الاحتلال ثم جيّرتها لإيران تحت سقفها ومحدداتها.

قصة داعش تمثل تعبيرا صارخا عن الاحتلالين الكبير والصغير، فقد كانت الطريق مفتوحة أمام التنظيم نحو بغداد لولا تدخل أمريكا وتشكيلها التحالف الدولي ضده، وقيادتها الجانب الأكبر من المواجهة مع اتباع النموذج الشيشاني الذي دمّر المدينة "الموصل" بمساعدة الحشد الشعبي. ولا شيء هنا يعبر عن العلاقة بين الاحتلالين أكثر من مقولة قاسم سليماني نفسه: "السماء لأمريكا والأرض لنا".

أمر مماثل شهدناه في قصة إعلان استقلال إقليم شمال العراق؛ الذي لم تتحمس له واشنطن، فغضت الطرف عن تحرك قاسم سليماني وحشده الطائفي، دون تغطية جوية، لكن مع أسلحة أمريكية استخدمها الحشد بشكل غير قانوني طبعاً. وأكثر من ذلك، فقد غض المبعوث الأمريكي بريت ماكغورك، ضمن شراكة الاحتلالين، الطرف عن سيطرة الحشد على دبابات أمريكية بحجة مواجهة داعش، مع ملاحظة أن أمريكا تعتبر معظم مكوناته إرهابية. كما تعتبر "بي كا كا" إرهابيا أيضاً، ورغم ذلك سلحته واستخدمته في الحرب ضد داعش في سوريا، لإبقاء سيف التقسيم مسلطاً فوق رقاب العراقيين السوريين وحتى تركيا نفسها.

 معطى مهم جداً نجده كذلك في كون العراق المفيد استراتيجياً ونفطياً مع أمريكا، وسوريا المفيدة معها أيضاً، مع ترك الفتات لشركاء وأدوات رخيصة غير مكلفة للاحتلال الأمريكي.

عراقياً، مع فشل السلطة اللحدية الخاضعة للاحتلالين في التنمية وتوفير حياة كريمة للناس، اندلعت التظاهرات الشعبية بعدما بلغ السيل الزبى، وطهران فهمت أنها ضدها وضد احتلالها الجاري وأدواتها في السلطة، وهيمنتها على الفتات اقتصادياً. من هنا جاء موقفها المخزي البشع من التظاهرات، واتهامها بأنها مؤامرة أمريكية إسرائيلية، كما جرى مع الثورة السورية أو التحولات في المنطقة، كما ضد الانتقادات لتدخل ذراعها الإقليمي المركزي في المنطقة العربية، بينما التهدئة هي القاعدة تجاه الاحتلال الإسرائيلي.

أما أسباب الموقف الإيراني فمتعددة، وتتمثل بالخشية من فقدان سيطرتها وسلطتها ومكانتها كشريك صغير للاحتلال الأمريكي، كما أن ثمة أسبابا فكرية تتعلق بصعوبة بل استحالة تأييد أي نظام استبدادي لتظاهرات مطالبة بالحرية الديمقراطية، كونهم فعلوا أمرا مماثلا تجاه التظاهرات في بلادهم بعد تزوير انتخابات 2009، كما بمواجهة الهبات الشعبية المتلاحقة.

هنا لا بد من تذكر واقعة لافتة جداً حصلت بعد الانتخابات الأخيرة في طهران (على علاتها)، حيث أصدر الحرس بياناً رسمياً يتهم فيه أهل المدينة بخذلانهم ، كما فعل أهالي الكوفة مع الحسين بن علي رضي الله عنهما. والاستخفاف باد هنا بالعملية الديمقراطية وحق الناس فى اختيار ممثليهم وحكامهم.

لذلك تدخلت إيران مباشرة لقمع التظاهرت العراقية، مثلما فعلت في سوريا، وأرسلت شبيحة مقنعين من حشدها الشعبي لتحطيم مكاتب القنوات الفضائية في بغداد، لمنع نقل الحقيقة، مع قتل مباشر لمئات المتظاهرين.

فى كل الأحوال، المارد العراقي خرج من القمقم، والوضع كارثي لا يطاق بسبب الطبقة السياسية المرتهنة والأكثر فساداً في العالم، والتي حولت البلد رغم ثوراته إلى مدين متسول، عاجز حتى عن تحسين البنى التحتية التي أعادها الاحتلالان عقودا للوراء.

ربما هدأت هذه الجولة، لكن الانفجار الواسع الكبير حتمي وستضطر إيران للخروج من العراق، غير أن كسرها تماماً يتم عبر دحرها من سوريا، هي تفهم (كما قال أحد قادتها ذات مرة) أن سقوط النظام في سوريا (والعراق بعد ذلك) سيؤدي مع الوقت إلى سقوط النظام الاستبدادي نفسه في طهران، والذي يحكمه متطرفون قال هاشمي رافسنجاني إنهم لا يقلون خطراً عن التكفيريين، لذلك تم قتله بدم بارد، وهو رجل ثمانيني.. متطرفون مأزومون يائسون يهددون على الملأ بفعل ذلك، ومع كل من لا يرضخ لأمرهم، بما فيهم الرئيس روحاني نفسه حسب اللافتة التي رفعت جهاراً نهاراً في قم.
التعليقات (0)