مقالات مختارة

كيف ردت تونس على الرسالة الإسرائيلية من البحرين؟

نزار بولحية
1300x600
1300x600

الإسرائيليون متوارون وهم إلى الآن يبدون قدرا محسوبا من الترقب والتحفظ، وربما التوهم في أن ما سمعوه كان مجرد انحراف لغوي، أو شكلا من الشعبوية القديمة، أو حتى نزوة فردية لن يطول الزمن حتى تختفي تماما وتزول.

 

فعدا بعض التعليقات المنسوبة لعدد محدود من الصحافيين، أو المحللين السياسيين على بعض المحطات الصهيونية، فإنه لا وجود تقريبا لأي رد أو موقف إسرائيلي، ولو شبه رسمي من التطورات الأخيرة في تونس، خصوصا ما يتعلق بصعود رئيس جديد قال عنه الفلسطينيون في مواقع التواصل الاجتماعي ومنذ فوزه في الدور الأول للانتخابات، إنه سيكون مرشحهم للرئاسة التونسية، وتضاعف إعجابهم به في ما بعد، حين أكد بشكل قاطع وربما صادم أيضا، على أنه لا وجود لشيء يسمى التطبيع مع إسرائيل، وأن كل من يطبع مع كيان شرّد شعبا بأكمله ونكّل به هو خائن يجب أن يحاكم.

المؤكد أن ذلك ليس مطمئنا أو مريحا لهم، حتى إن لم تكن تونس دولة قريبة منهم جغرافيا، وبقي تأثيرها على الساحة العربية ضعيفا ومحدودا. لكن ما لا يقدرون على البوح به، لاعتبارات تكتيكية ولا يقولونه في العلن، قد يصرح به أو يلمح له غيرهم في الكواليس، أو حتى أمام الصحافيين، وإن بشكل موارب وخفي. فالعالم العربي صار في هذا العصر سوقا مفتوحة تعج بالإسرائيليين، وأنتج عربا يتطوعون دوما للدفاع عن الكيان والنطق باسمه، والتعبير عنه، وحتى تسريب رسائله ودعواته إلى عرب آخرين، لتحذيرهم من أقوال أو أفعال تصدر عنهم، وكأن هؤلاء صاروا وكلاء رسميين له، واستلموا منه صكا فعليا بذلك.

فحالما تنزعج إسرائيل من موقف فإنها باتت تجد غير بعيد عنها من يهب لإشعار الطرف المعني بقلقها مما صدر عنه. وقد يحصل ذلك عن طريق الضغط المباشر أو غير المباشر وأحيانا بطرق غريبة لا تخطر على بال.

 

ولعل المثل الأخير هو ما قامت به البحرين مع تونس. فلئن صار عاديا أن يهاجم وزير الخارجية البحريني جارته قطر، ويتهمها في تصريحات نشرتها الجمعة الماضي صحيفة "الشرق الأوسط" بأنها "تلعب دورا تخريبيا في اليمن"، ولم يعد الأمر يثير استغراب أحد بعد سيل الافتراءات والادعاءات الذي طال القطريين، منذ أن قرر جيرانهم محاصرتهم في شهر رمضان، فإن تخطي الهمز واللمز كل الحدود، ووصوله في خضم تلك الاتهامات والهجومات إلى دول أخرى من بينها تونس بالذات، قد يكون قصة أخرى بعيدة كل البعد عن الخلافات الخليجية التقليدية. وما يزيد الموضوع التباسا، أن معظم التونسيين يكادون لا يسمعون عن البحرين سوى النزر اليسير من الأخبار، مما كانت تناقلته وسائل الإعلام العالمية قبل أعوام، أي مع انطلاق ما عرف بموجة الربيع العربي الأولى، من أنباء عن حصول مظاهرات وصدامات عنيفة بين الأغلبية الشيعية من سكانها وقوات الشرطة، أو ما باتت تنقله تلك الوسائل نفسها منذ مدة قريبة من مبادرات تطبيعية صار البحرانيون يتفننون في عرضها بين الحين والآخر على الكيان الإسرائيلي على طبق، وبالمجان وبشكل دعائي مستهجن ومستفز. فليست العلاقة بين تونس والبحرين مثلا في حجم أو في أهمية علاقاتها بالسعودية والإمارات على برودها وفتورها الواضحين، ولا هي أيضا في حجم وأهمية علاقتها بقطر على ما تعرفه الآن من حيوية ونشاط ملحوظين. ولكن المملكة تنضوي مع ذلك ضمن ما يطلق عليه الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي محور الشر العربي، رغم أن قدراتها تبدو ضعيفة ومحدودة مقارنة بغيرها من أعضاء ذلك الحلف.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما الذي جعلها تبادر الآن وبشكل غير مسبوق إلى الزج باسم تونس في هجوماتها التقليدية على جارتها الخليجية؟ وما الذي دفع وزير خارجيتها تحديدا، لأن يتهجم بشكل ضمني على التجربة الانتخابية الأخيرة، التي أشاد بها القاصي والداني، ويقول في تلك التصريحات إن "قطر تلعب دورا في عرقلة أمور كثيرة ليس فقط في اليمن، بل في كل من ليبيا وتونس والبلدان الخليجية وفي العراق، والكل يعرف ماذا نقصد"؟

العالم العربي صار سوقا مفتوحة تعج بالإسرائيليين، وأنتج عربا يتطوعون دوما للدفاع عن الكيان والنطق باسمه والتعبير عنه.


فهل أقحمت تونس هنا بشكل عابر وغير مقصود، وفي سياق تصفية حسابات بحرينية وخليجية مع الدوحة؟ أم أن الأمر كان على العكس يتجاوز مجرد الاستشهاد الخاطئ أو غير المناسب؟ سيكون من المستبعد جدا أن يكون المسؤول البحريني الذي لا تكن بلاده ودا للربيع العربي، ولا يبدو أنها قابلت بارتياح نتائج الانتخابات الأخيرة، قد وضع اسم تونس في معرض هجومه على قطر من باب السهو أو المصادفة الصرفة.

 

فالرجل كان واعيا جدا بما كان يخرج من فمه، وهو كان في أتم مداركه، حين أقحم التونسيين في صراعاته مع جارته الخليجية. لكن من كان يقصد الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة بكلامه إذن؟ لقد قال في تصريحه إن "الجميع يعرف ماذا نقصد" ويبدو أن الشيخ راشد الغنوشي كان واحدا من أولئك الذين فهموا وأدركوا على الفور قصد الوزير البحريني، أو الرسالة الإسرائيلية التي سربها في حديثه، ولأجل ذلك لم يفوت الفرصة للرد عليه السبت الماضي حين قال لإذاعة "شمس" المحلية، إن "الانتخابات في تونس ليست ألعوبة بيد أي أحد، ونتائجها لم تكن متوقعة أو معروفة "(كما هو الحال في أغلب الدول العربية) ووجه اتهاما واضحا لآل خليفة بالمس بالديمقراطية التونسية وبشرف تونس قائلا على هؤلاء المسؤولين، أي الوزير البحريني وغيره أن " يهتموا بشؤونهم الخاصة".

وما كان لافتا هو أن رد الشيخ الغنوشي كان استثنائيا بكل المقاييس، فلم يسبق لحركة النهضة على مدى السنوات الأخيرة أن ردت أو أخذت مواقف من الهجومات التي قامت بها دول خليجية، كالسعودية أو الإمارات مثلا عليها، أو على تونس، بمثل قوة التصريح الأخير لرئيسها. في ما لم يصدر بالمقابل أي موقف أو رد رسمي على تلك التصريحات.

 

وهذا ما قد يكون مؤشرا على بداية تحول ملحوظ في موازين القوى الداخلية، وقد يكون دليلا أيضا على وجود تقارب وانسجام بين الرئيس الجديد وأكبر الكتل البرلمانية، أي حركة النهضة. فالتونسيون يعلمون جديدا أن دوافع المسؤول البحريني من وراء تصريحاته لم تنبع فقط من عدائه لتجربة الإسلاميين في الحكم، بل من رفضه للمسار بأكمله، واعتراض المحور الذي ينتمي له على إرادة الناخبين الذين اختاروا رئيسا معاديا لتطبيع باتت المنامة الآن رأس حربته في المنطقة. ولأجل ذلك فإن رد الشيخ الغنوشي جاء ليؤكد وبشكل قاطع على رفض أي تدخل خارجي في شؤون تونس، وليعبر في الوقت نفسه عن أن الشعب التونسي الذي اختار رئيسه بحرية لن يقبل بأي تطبيع مع المحتل قد تروج له البحرين أو غير البحرين، وان موقفه من ذلك لن يكون مثلما يتخيل الإسرائيليون شعبوية عابرة سرعان ما ينتهي مفعولها ويزول.

 

(القدس العربي)

0
التعليقات (0)