كتاب عربي 21

"نبع السلام" والثلاثية الجديدة

إسماعيل ياشا
1300x600
1300x600

بدأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ينفذ وعوده بشأن سحب قوات بلاده من سوريا، بعد أن عبر عنها خلال حملاته الانتخابية عام 2016؛ لأنه يرى، باختصار شديد، أن بلاده ليست "شرطي العالم"، وأن دول المنطقة يجب أن تحل مشاكلها، دون تدخل الولايات المتحدة. وهذه الرؤية، بغض النظر عن صدق صاحبها ومدى إمكانية تطبيقها حاليا، هي ما تدافع عنه تركيا منذ سنين لحل مشاكل المنطقة.

عملية نبع السلام التي أطلقها الجيش التركي بالتنسيق والتعاون مع الجيش الوطني السوري، لتطهير مناطق شرق الفرات بشمال سوريا من عناصر وحدات حماية الشعب الكردي، قلبت التوازنات في ظل انسحاب القوات الأمريكية من المنطقة. ومن المؤكد أن الزلزال الذي أحدثته العملية ستؤدي إلى هزات ارتدادية، وأن التدخل العسكري التركي الأخير مجرد بداية وسيكون هناك ما بعده.

العملية فتحت أمام تركيا مساحة واسعة للتحرك وتعزيز دورها في المنطقة، كإحدى القوتين المرشحتين لملء الفراغ الذي سيخلفه الانسحاب الأمريكي، كما أبدلت ثلاثيةَ آستانا، وهي تركيا وروسيا وإيران، بثلاثية جديدة تتألف من تركيا وروسيا والولايات المتحدة. ولعل هذا التهميش هو ما دفع إيران إلى الانزعاج من عملية نبع السلام ورفضها.

 

العملية فتحت أمام تركيا مساحة واسعة للتحرك وتعزيز دورها في المنطقة، كإحدى القوتين المرشحتين لملء الفراغ الذي سيخلفه الانسحاب الأمريكي

تركيا توصلت خلال أقل من أسبوع إلى اتفاقين تاريخيين، أحدهما مع الولايات المتحدة والآخر مع روسيا. وجاء الأول بعد مباحثات طويلة استمرت لمدة حوالي خمس ساعات؛ مع الوفد الأمريكي برئاسة نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس عقدت في العاصمة التركية أنقرة، والثاني أسفرت عنه المباحثات التي أجراها الوفد التركي برئاسة رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان مع الجانب الروسي في سوتشي؛ لمدة حوالي ست ساعات. وحصلت أنقرة على كافة مطالبها تقريبا من خلال هاذين الاتفاقين، ويعود الفضل في ذلك إلى الجهود العسكرية والدبلوماسية التي بذلتها تركيا بكل حزم، دون أن ترضخ للضغوطات والتهديدات.

وحدات حماية الشعب الكردي التابعة لمنظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية، ستنسحب في شرق الفرات وغربه إلى ما بعد 30 كيلومترا من الحدود التركية، ما يعني نهاية حلم إقامة دولة في شمال سوريا تمتد من الحدود العراقية حتى البحر الأبيض المتوسط. وكانت المليشيات الكردية تسعى إلى ضمان بقائها في تلك المنطقة بعد الاتفاق الأمريكي التركي، من خلال الارتماء إلى أحضان النظام السوري الذي تدعمه روسيا، إلا أن الاتفاق الروسي التركي الذي تم إبرامه الثلاثاء في سوتشي قلب السحر على الساحر، وقضى على ذاك الحلم.

الاتفاق التركي الروسي سيخرج وحدات حماية الشعب الكردي من شمال سوريا، بما فيه عين العرب ومنبج وتل رفعت، ويؤدي إلى تثبيت التواجد العسكري التركي في مناطق عمليات درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام كأمر واقع. وكانت تركيا تهدف إلى إقامة المنطقة الآمنة في مساحة أوسع، بدءا من الحدود العراقية إلى نهر الفرات، إلا أن ما حصلت عليه حتى الآن قد يعتبر أفضل ما يمكن في الظروف الراهنة، وكما يقال: "ما لا يدرك كله لا يترك جله".


كانت تركيا تهدف إلى إقامة المنطقة الآمنة في مساحة أوسع، بدءا من الحدود العراقية إلى نهر الفرات، إلا أن ما حصلت عليه حتى الآن قد يعتبر أفضل ما يمكن في الظروف الراهنة

الثلاثية الجديدة لم تهمش الدور الإيراني فحسب، بل وأبعدت أيضا الدول الأوروبية عن المعادلة. ورفضت كل من الولايات المتحدة وروسيا المقترح الذي تقدمت به خمس دول أوروبية لإدانة عملية نبع السلام في مجلس الأمن الدولي، الأمر الذي جعل ثلاثة من القادة الأوروبيين (الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون)، مضطرين لطرق باب أردوغان وطلب لقائه في لندن لمناقشة التطورات. كما أن هناك جهودا أوروبية تقودها ألمانيا للتدخل في شمال سوريا عبر بوابة الأمم المتحدة، إلا أن الاتفاقين اللذين أبرمتهما تركيا مع الولايات المتحدة وروسيا لا يتركان أي فجوة يمكن أن تتسلل الدول الأوروبية من خلالها إلى المنطقة دون موافقة أنقرة.

الأنظمة العربية التي تعادي تركيا بسبب موقفها المشرف من الربيع العربي، أمامها خياران: الأول، التراجع عن الخطأ وترميم العلاقات مع أنقرة. وأما الثاني، فالتقارب مع إسرائيل وروسيا وحتى إيران. وتشير المؤشرات إلى أن الخيار الأول مستبعد في الوقت الراهن، وأن تلك الأنظمة بدأت تقدم خطوات نحو الخيار الثاني. ومن المتوقع أن يؤدي ذلك إلى اتساع الشرخ بين الأنظمة العربية المعادية لتركيا والشعوب العربية التي تفضل التحالف مع أنقرة على التحالف مع تل أبيب وموسكو وطهران.

التعليقات (1)
لا داعي للإغراق في التفاؤل
الأربعاء، 23-10-2019 02:13 م
الاتفاق ألتركي الأمريكي كان جيداً على وجه الإجمال لولا المسعورين في الولايات المتحدة الداعين إلى مواصلة الوجود العسكري الأمركي. ومع جودة الاتفاق إلا أنه لم يتم تنفيذه بالكامل إذ لم ينسحب جميع المقاتلين الأكراد لأنه لم يكن هناك من يحصيهم أولاً، ثم إنه لم يتم تدمير تحصيناتهم ومواقعهم العسكرية حسب نص الاتفاق. أما الاتفاق التركي-الروسي فإن الفائر الأكبر منه هو بوتين ثم نظام الأسد! فتركيا لن يكون لها وجود في تلك المناطق المشمولة بالاتفاق مع روسيا سوى دوريات مشتركة مع الروس تسير بعمق 10 كيلومترات فقط وليس 32 كيلومتراً كما في حالة اتفاقها /ع أمريكا ولن يكون لتركيا أي قواعد أو نقاط ارتكاز أخرى. كما أن النظام السوري سيدخل إلى هذه المناطق وسيحفظ للأكرد قدراً من الوجود الفعال لا لشيء إلا لمناكفة تركيا التي لن تجد سوى اتفاق أطنة لتستند إليه في أي رد قد تراه ضرورياً في المستقبل. هل أنا ألوم أردوغان؟ كلا ثم كلا، فالرجل حاول السير إلى أقصى نقطة يستطيع الوصول إليها في حدود قوة وإمكانات تركيا لأنه في النهاية لا قِبَل له ولتركيا بالأعداء المجتمعين حتى وإن اتخذ بعضهم شكل التحالف الظاهري في إطار حلف الناتو مثل الولايات المتحدة ودول أوروبا المعادية لكل ما هو تركي ومسلم. ولكن مع ذلك علينا ألا نفرط في التفاؤل وأن تبقى تركيا حذرة إلى أبعد حدود الحذر.