مقالات مختارة

سخريةٌ كالبكاء… تأملاتٌ عن يومٍ من المطر

يحيى مصطفى كامل
1300x600
1300x600

تعرضت محافظاتٌ عديدة في مصر وفي مقدمتها القاهرة والجيزة، المحافظتان المركزيتان الأكبر والأهم ليومٍ من الأمطار وُصفت بالغزيرة، فغرقت الشوارع والأنفاق وشُل المرور وتعطل الناس في الشوارع (بمن فيهم الأطفال العائدون من مدارسهم) طيلة ساعاتٍ ناهزت الخمس أو الست ساعات. مات أطفالٌ صعقا واصطدمت شاحناتٌ وسياراتٌ، ولم يبخل الناس من إغراق وسائل التواصل الاجتماعي بصور توثق الشوارع والأنفاق الغارقة، والسيارات التي غمرها الماء، ومطار القاهرة الذي ما فتئوا يذلوننا به، والارتباك والفوضى يضربان مدنا لا تعرف سوى الفوضى.


يومٌ من المطر

 
مجرد يومٍ من المطر، شل بلدا بأكمله وأوقع ضحايا؛ لسنا هنا بصدد إعصارٍ أو زلزالٍ أو كارثةٍ طبيعية، وإنما مجرد زخاتٍ من المطر لم تطل. لكن ما أثار اهتمامي وتركيزي في حقيقة الأمر، هو تعليقات الناس الساخرة والمريرة على ذلك الكم من التردي والفشل، ما دفع صحفا (تلك التي لم تعد تتجرأ على المعارضة أو الانتقاد من دون توجيهٍ من جهاتٍ عليا لتصفية الحسابات) إلى نقل ما يردده الناس في الشوارع من أن البلد غرق في شبرٍ من الماء. أحيانا، يكون من الأسهل إطلاق الأحكام المُدينة والعامة على جمهورٍ أو شعبٍ أو بلد، كنعته بالجبن أو الخنوع أو الاستكانة دون الشعوب الأخرى، أو الحكم القاطع بأن الثورة باتت مستحيلة، أو أن شعبا ما بطبيعته وتكوينه غير مؤهلٍ أو مستعدٍ للثورة، وهو في الحقيقة مزلقٌ جد خطر ومضر، قد يجر كوارث وراءه، ثم يأتي حدثٌ ربما يبدو عارضا، أو قليل الشأن كالمطر ذاك ليوقظ من ما زال ينشد التغيير الحقيقي، ويلفت انتباهه إلى كون الواقع مختلفا، أكثر تعقيدا مما يبدو، والأهم من ذلك أن نهره جارٍ، وأن التغيير ممكن، وربما حتمي بمعنى ما، فالقول الفصل والنهائي لم يصدر بعد.
دولة السيسي تمثالٌ من الرمال بناه حمقى على شاطئ بحرٍ في فترةٍ الجزر، فلا التمثال صلد ولا الجزر يدوم.
سمتان أساسيتان استوقفتاني، الأولى تتعلق بالناس الذين ربما قسونا عليهم، ولم نفهم موقفهم من الثورة وحكم السيسي. لقد تحمس خلقٌ كثر للثورة في مصر، تعشموا فيها خيرا، وانتظروا من ورائها انفراجا فانضووا تحت رايتها؛ لكنهم فوجئوا من الناحية الفعلية بانفلاتٍ أمني وتردٍ ملموسٍ وفارقٍ ومؤلمٍ في أوضاعهم المعيشية، فترسخ لدى كثيرٍ منهم أن الثورة لم تجلب إلا الخراب، فمنهم من شعر بالندم، وكثيرون شعروا باحتقارٍ للذات، وتمكن منهم شعورٌ بالفشل المزمن والدونية، خاصةً في ضوء ما اكتشفوه من فسادٍ وسرقاتٍ وتجرؤٍ للإرهابيين على الجيش في سيناء. إن كثيرا من المصريين على استعدادٍ لتحمل الشقاء، لكنه يشعر بالوجع إذا أهينت كرامته القومية، فهو قد يقبل ببطش السلطة ووطئها له بأقدامٍ ثقيلة، لكنه لا يستطيع التخلي عن فكرة أن مصر بلدٌ كبيرٌ ومهم، ذو سيادةٍ وكرامة، وقد اهتزت تلك القناعة في فوضى ما بعد الثورة، وما تكشف من تردٍ عسكري وفراغٍ سياسي يصل حد العجز، الذي عبر عن نفسه في خيارٍ بين الإسلام السياسي، أو ممثلٍ للنظام القديم، كاد أن ينجح في الانتخابات (وهناك من يزعم أنه نجح بالفعل)، ثم ظهر على المشهد السيسي الذي لعب على كل هذه الأوتار فداعب الكرامة الوطنية، وأيقظ أحلام يناير وصوّر نفسه الحل والمخلّص (بأل التعريف) الذي سيفي بكل الاستحقاقات، سياسية واجتماعية واقتصادية، وسيثأر للكرامة الوطنية والعسكرية الجريحة. لست هنا بصدد تفسير كيف انعرجت بنا الطرق حتى وصلنا إلى ذلك المصير البائس، ولا تبرير قناعتي بالدور الرئيسي الذي أداه النظام في التربص بالثورة وإفشالها، لكن هذا ما حدث.
باستثناء السيطرة الأمنية التي يملك السيسي أدواتها، فإن شيئا من تلك الوعود لم يتحقق، ويتكشف يوما بعد آخر أن «المنجزات» التي جرّ الناس وراءها كتفريعة قناة السويس الجديدة ليست ذات جدوى، سراب، وليست بحاجةٍ إلى كارثةٍ أو حربٍ لتفضح ذلك، وإنما لما هو أبسط من ذلك بكثير ومتخطٍ للمؤامرات: المطر.
إن تعليقات الناس الساخرة الطافحة بالمرارة، تكشف لنا كم من الممكن أن نكون أخطأنا في فهم الناس؛ إنهم يرون، يراقبون ويفهمون، تغلي صدورهم بالغيظ والمرارة ويكويهم غلاء المعيشة. لا شك في أن شعبية السيسي تتراجع، لكن الناس باتوا يخشون التغيير، لأنهم مازالوا لم يتخلصون من القناعة بأن الثورة لم تأت بمكاسب، والأهم أنهم لا يرون أمامهم بدائل مقنعة، إذ خلا الإخوان المسلمين، ذلك الفصيل الوحيد على الأرض الذي كان من الممكن أن يشكل بديلا، الذي كفر به الناس، فإنهم لا يرون قوى سياسية أخرى على الأرض قادرة على تشكيل ثقل سياسي يصلح للقيادة. من ناحيةٍ أخرى وعلى صعيد النظام، فإن التطور والحادث تلو الآخر يثبت لنا هشاشة وضعه وترهله وفساده. لم يمض وقتٌ بعيد على فيديوهات محمد علي، وقد رأينا كم هزّ النظام، وكم كان رد السيسي هزيلا وسخيفا وفاضحا، كما أن إلقاءه باللائمة على الشعب في كل مشكلة لن يخدمه. إن دولة السيسي تمثالٌ من الرمال بناه حمقى على شاطئ بحرٍ في فترةٍ الجزر، فلا التمثال صلد ولا الجزر يدوم.
يتجنب السيسي أي صراعٍ أو صدامٍ قد يحرجه، ويبين هشاشة وضعه، ولعله يتعين علينا أن نذكر أن 67 فضحت دولة عبد الناصر التي بدت منيعة، وهي على كل الأحوال كانت أعفى وأقوى وأكثر حيويةٍ وتماسكا من دولة السيسي. لكن يبدو أن الأمر لا يحتاج إلى نزاعٍ مسلح: تكفي بضعة فيديوهات وزخاتٌ من المطر، وما عنف السيسي إلا انعكاسٌ لذلك الشعور بالضعف والخوف. منزلقٌ خطيرٌ للغاية أن ترى في الواقع ما تريد كأن ترى بوادر ثورة أو نفسا نضاليا حيث لا يوجد، ومن ناحيةٍ أخرى أن تهمل ما يطرحه عليك ويضعه أمام عينيك، لأنك فقدت الأمل وكفرت بالناس أو غضبت عليهم.
لا بد أن نذكر دائما أن الناس في سعيهم وشقائهم اليومي، في حسابٍ مستمرٍ للتوازنات على مستوى شخصي، ولن يثوروا ما لم يروا بادرة تقنع بأن النجاح ممكن.
كما ينبغي أن نتذكر أن كل شيءٍ في حالة سيولة، وأن ما يبدو ثابتا لن يلبث أن ينخره السوس ويغمره المد، ولذا فإن أكبر خطأ بل خطيئة، هي أن تتسرب تلك القناعة بديمومة الوضع واستحالة التغيير واليأس من الناس إلى مثقفين يزعمون الإلمام بالتاريخ ودروسه، وتشربهم بالمنطق الجدلي، تلك الخطيئة التي أوصلتنا إلى حيث قامت ثورة فلم تجد سوى فصائل قليلة مستعدة للتصدي لقيادتها وانتزاعها من براثن العسكر.
لنذكر دائما أن هذا النظام المستقوي بأدوات البطش هشٌ وضعيف، وهو يعرف ذلك ولم يزل يستشعر ذل وإهانة صفعة يناير حين «ركب الشعب»، لنذكر أن التغيير ممكن متى اقترن الظرف المواتي بتوفر الإرادة الواعية التي تفهم معنى صيرورة التاريخ ومهام اللحظة.

 

(القدس العربي)

0
التعليقات (0)