مقالات مختارة

عن أي دستور سوري يتحدثون؟

عبد الباسط سيدا
1300x600
1300x600

“الغموض الخلاّق” عبارة نسمعها كثيرا أثناء مناقشة الوثائق والبيانات الدولية الخاصة بالحلول المطروحة لمعاجلة المشكلات الإقليمية أو الوطنية، وحتى الدولية، المعقدة. فعادة ما تستخدم تعابير ملتبسة، يكون لها أكثر من تأويل أو تفسير، وذلك استنادا إلى موقع الطرف الذي يقوم بعملية التأويل ضمن معادلة المصالح والحسابات والقدرات.

فالطرف الضعيف عادة ما يتمسك بما يوحي به ظاهر النص، ليضفي عليه مسحة تفاؤلية، بهدف الوصول إلى تفسير ينسجم مع الرغبات والتطلعات؛ بينما يلجأ الطرف القوي منذ اللحظة الأولى إلى مصادرة كل الاحتمالات التي قد تخرج بالنص عن الإطار الذي تم التوافق عليه. وغالبا ما تكون التفصيلات والدلالات اللغوية، واختلافات الترجمة، من الأدوات التي تعتمد لتفنيد حجج أصحاب القرارات المغايرة، هؤلاء الذين يعتمدون في غالب الأحيان الأسس الأخلاقية والبدهيات التي تنص عليها اللوائح الأممية في ميادين الحقوق الإنسانية للأفراد والجماعات والشعوب؛ وهي أسس ومرجعيات تظل حبيسة النصوص، وأسيرة التمنيات التي لا تتحوّل، بكل أسف، إلى وقائع ملموسة في عالم المصالح الذي يشكل الأرضية التي تتحرك عليها السياسة عادة، خاصة في عالمنا الراهن، حيث فقدت الفلسفات الإنسانية والمبادئ القيمية ألقها ودورها التوجيهي المؤثر.

مناسبة هذا الحديث، الجدل الذي كان، وما زال، بشأن الإعلان عن تشكيل اللجنة الدستورية التي تسوق على أنها ستكون بوابة الخروج من المتاهة السورية، نحو حل ما زالت ملامحه العامة مبهمة، متداخلة، الأمر الذي لا يعطي انطباعا حافزا يمكن البناء عليه.

فبغض النظر عما قيل، ويقال، حول عملية الإخلال بترتيب أولويات خطة الحل المنتظر، وبصرف النظر عما نسمعه هنا وهناك حول خلفية أعضاء اللجنة ومؤهلاتهم، ودرجة تمثيلهم للمكونات المجتمعية والاتجاهات والقوى السياسية السورية؛ نرى أن الآليات التي ستعمل بموجبها هذه اللجنة، وذلك استنادا إلى ما تم الإفصاح عنه حتى الآن، لا تسمح على الصعيد الواقعي الفعلي باتخاذ أي قرار من شأنه دفع الأمور نحو الأمام باتجاه الحل. فنسبة الـ 75 في المئة المطلوبة لتمرير أي قرار في حال عدم الوصول إلى توافق، هي نسبة تعجيزية، لن يتم الوصول إليها إلا إذا تمكّن النظام من اختراق واستمالة أعضاء من المحسوبين على المعارضة والمجتمع المدني، وإضافتهم إلى الأعضاء التابعين له أصلا.

هذه النسبة تذكرنا بتلك القاعدة التي نصّ عليها بيان جنيف 1 بخصوص كيفية تشكيل هيئة الحكم الانتقالي. إذ كان المبدأ المفترض هو التوافق بين كل من النظام والمعارضة على أعضاء الهيئة المعنية. وهو الأمر الذي قلنا عنه في حينه بأنه لن يكون.

وما يستخلص من هذا هو أن القوى التي توافقت على بيان جنيف كانت تدرك سلفا بأن بيانهم هو مجرد رفع عتب، يوحي بوجود جهد دولي للوصول إلى حل ما، في حين أن الوقائع كانت تقول في ذلك الحين عكس ذلك.

وكلنا يتذكر التباين، بل التناقض بين التفسيرين الروسي والأمريكي حول موضوع مصير بشار الأسد في حال تشكيل هيئة الحكم الانتقالي. فبينما كان الأمريكان يرون أنه لا دور له، وسيكون خارج معادلة الحكم، كان الروس يؤكدون أن بيان جنيف لا ينص على ذلك.

وحينما تيقّن كوفي أنان من غياب المقدمات الضرورية للخروج من الحلقة المفرغة، وبعد أن تبيّن له استحالة تشكيل الهينة المعنية؛ ولكن الأهم من هذا وذاك، بعد أن تأكد تماما من أن الاستحالة المعنية كانت تعكس عدم وجود رغبة دولية للوصول إلى حل للموضوع السوري؛ وإنما كل ما كان هنالك تمثل في مجرد تحركات وبيانات وتصريحات، كانت توحي بوجود رغبة دولية في الوصول إلى حل، ولكنها لم تخرج في إطارها العام عن حدود دائرة إدارة الأزمة لا معالجتها… بعد أن تأكد أنان من كل ذلك، قدّم استقالته، وفي وقت قياسي  مقارنة بمن تسلموا الملف من بعده.

ونحن إذا أمعنا النظر في الظروف والشروط التي سبقت، ورافقت، فكرة اللجنة الدستورية التي اعتمدها دي ميستورا عنوانا لواحدة من سلاله الشهيرة، سنلاحظ أنها كانت أصلا بهدف الإيحاء بأنه قد حقق إنجازا ما. وسرعان ما تلقّف الروس الفكرة، ليتخذوها أداة من أجل تجاوز فكرة هيئة الحكم الانتقالي.

وكانت فعالية سوتشي، ومشاركة دي ميستورا فيها، مقابل الحصول على امتياز الإعلان عن تشكيل اللجنة الدستورية من قبل الأمم المتحدة، وبموافقة، بل بتدخل واضح حتى في أدق التفاصيل من جانب أطراف مسار أستانا، خاصة روسيا وتركيا.

أما الجانب الأمريكي، ورغم التطورات الأخيرة في شرقي الفرات، وإعلانه نية الانسحاب الكامل أو شبه الكامل من سوريا، فهو يراقب الأوضاع عن كثب بالتعاون مع حلفائه الأوروبيين، سيما بريطانيا.
فالولايات المتحدة الأمريكية متيقنة أن الكلمة النهائية في سوريا ستكون لها، وذلك بالتفاهم مع حليفتها الاستراتيجية إسرائيل. أما كل ما يسعى إليه الروس والإيرانيون والأتراك فهو لا يتجاوز حدود عملية جمع النقاط، لصرفها عند الجانب الأمريكي في إطار الصفقات المنتظرة حول جملة من القضايا الإقليمية والدولية التي قد تكون بين تلك الأطراف والولايات المتحدة.

ولكن هناك معطيات وتطورات دولية وإقليمية لافتة، لابد من أخذها بعين الاعتبار في أية مقاربة لمشروع حل ما في سوريا.

فالإدارة الأمريكية منصرفة اليوم إلى مشكلاتها الخاصة، واستعداداتها للانتخابات الرئاسية القادمة. كما أن الحرب التجارية الأمريكية-الصينية التي تكشف النقاب عن واقع وجود تنافس، بل صراع قوي مستمر حول امتلاك أحدث التكنولوجيا بين القوى الاقتصادية الأكبر في عالمنا المعاصر؛ هذه الحرب وتطوراتها تأخذ القسط الأكبر من الاهتمام الأمريكي الاستراتيجي، وستؤثر كثيرا في توجهات أمريكا وطبيعة تحالفاتها في الإقليم والعالم، وتساهم في تحديد طريقة مقاربتها لمختلف المشكلات.

وروسيا في المقابل، تعاني من مشكلات داخلية، ولكنها تسعى بشتى السبل من أجل ترسيخ العلاقة مع تركيا، والاستفادة من أهمية دورها الإقليمي، وقدرتها على إرباك خطط الناتو في المنطقة في حال حدوث طلاق نهائي بائن بينها وبين المعسكر الغربي.

وبموازاة ذلك، تعزز روسيا العلاقة مع الصين، وتتطلع نحو الوصول إلى مستوى من التكامل الاقتصادي والعسكري معها، مما سيحسن من شروط التفاوض مع الأمريكان. كما أنها تسعى في الوقت ذاته إلى بناء علاقة مصلحية مع السعودية، الحليفة التقليدية للولايات المتحدة، وذلك في أجواء هيمنة اضطراب الثقة بين واشنطن من جهة، وحلفائها التقليديين من جهة ثانية، في ظل إدارة ترامب.

أما تركيا، فهي الأخرى تعاني من مشكلاتها الداخلية على المستويين الاقتصادي والسياسي. كما تتحسب لمآلات الصراع الإقليمي والدولي، وانعكاسات ذلك على الواقع التركي الداخلي، والدور التركي المستقبلي في الإقليم. وقد جاء تدخلها الأخير في منطقة شرقي الفرات بضوء أخضر أمريكي، وموافقة روسية، ليجسد حساباتها الآنية والمستقبلية، وهي حسابات تأخذ أوضاعها الداخلية وتطلعاتها الإقليمية بعين الاعتبار.

هذا في حين أن إيران تعاني من جانبها من مشكلات داخلية وصراعات بين أجنحة الحكم. كما تشكو في الوقت ذاته من الضغوط الأمريكية الشديدة عليها في مختلف الميادين.

أما على المستوى العربي، فهناك تشتت وانقسام، وخلافات بينية عميقة بين مختلف الدول العربية. مصر مشغولة بأوضاعها الداخلية، والدول الخليجية منهمكة بالموضوع اليمني والمنافسات والخصومات البينية. هذا في حين أن الأوضاع في الجزائر ما زالت مفتوحة على مختلف الاحتمالات، بينما الحرب الداخلية تستنزف طاقات الليبيين. ورغم الإنجازات التي حققها السودان بعد التوافق الذي تم على الوثيقة الدستورية والمرحلة الانتقالية وتشكيل المجلسين السيادي والحكومي، فما زالت هناك قضايا كثيرة معقدة تحتاج إلى الحل.

وربما الأهم في اللوحة العربية، والأكثر تأثيرا في الوضع السوري، هو ما يجري في كل من العراق ولبنان. فالاحتجاجات الشعبية الأخيرة أكدت أن النفوذ الإيراني في البلدين لن يكون إلى الأبد رغم كل الاستثمار الذي كان. فالفساد الأسطوري الذي يثقل كاهل العراقيين واللبنانيين بكل انتماءاتهم، خاصة في المناطق الجنوبية من العراق هو فساد محمي إيرانيا عبر الميليشيات المرتبطة مباشرة بالحرس الثوري، وهو في لبنان فساد متوافق عليه بين مختلف أطراف النظام السياسي الخاضع لهيمنة حزب الله، الذي يعلن زعيمه باستمرار تبعيته لنظام ولي الفقيه الإيراني.

ويبدو أن حملات التجييش المذهبية، وشد العصب الطائفي التي اعتمدها النظام الإيراني وسيلة للتغلغل داخل المجتمع والدولة في كل من لبنان والعراق، لم تعد تخدع الناس الذين يطالبون بالماء النظيف للشرب، والكهرباء، ونظام رعاية صحية مقبول، وتعليم لائق، إلى ما هنالك من أبسط موجبات العيش الكريم.

وإذا أخذنا التداخل المجتمعي بين سوريا والعراق من ناحية وبين سوريا ولبنان من ناحية ثانية، إلى جانب التغلغل الإيراني القومي السياسي في قالب مذهبي في الدول الثلاث، ندرك أن الأوضاع في سوريا لم تحسم بعد لصالح النظام كما يروج الأخير وحلفاؤه. فالشعب السوري المطالب هو الآخر بعيش حر كريم في ظل نظام حكم وطني عادل، ينهي حقبة الفساد والاستبداد، لم يهزم بعد رغم كل المصائب والشدائد التي كانت. والنظام من جانبه لم ينتصر، وإنما كل ما هنالك هو أنه وافق على منح الآخرين فرصة تدمير سوريا مجتمعا وعمرانا مقابل البقاء.

إننا إذا وضعنا المؤشرات والقرائن هذه في حسابنا، إلى جانب التدخل التركي الأخير، والصفقة التي تمت بين قسد والنظام السوري بوساطة وإشراف روسيين، إلى جانب الصفقة التي عقدتها تركيا مع الولايات المتحدة من طرف وتلك التي عقدتها مع روسيا من طرف آخر، ندرك أن الموضوع السوري ما زال في مرحلة التسويف والإدارة، انتظارا لمجهول قابل لكل الاحتمالات.

بناء على ما تقدم، نرى أن اللجنة الدستورية رغم كل ما صاحبها، ويصاحبها، من صخب، وكل الاجتهادات التي كانت حولها سلبا أم إيجابا، هي الأخرى مجرد وسيلة من وسائل كسب الوقت، وإدارة اللعبة انتظارا لتوافقات لن تكون خاصة بسوريا وحدها، بل ربما تشمل الإقليم وما بعده. فما شهده إقليمنا، ويشهده، وتشهده مناطق أخرى عديدة من العالم، يتقاطع مع أجواء حرب كونية تختلف بمعاييرها ونتائجها مع تلك الحروب التي كانت، إنها حرب متعددة الجبهات والمستويات. وستؤدي إلى تغييرات كبرى في الجغرافيا والبنية المجتمعية والمواقف والتحالفات الدولية.

عن صحيفة القدس العربي اللندنية

0
التعليقات (0)