كتاب عربي 21

بندول الثورة والدولة

جمال الجمل
1300x600
1300x600
(1)
لا أظنها صدفة أن يتأرجح بندول الساعة في اتجاهين متضادين، بالرغم من استخدامه كإشارة على تقدم الزمن إلى الأمام في اتجاه واحد!

لكن هل اتجاه الزمن فعلا واحد؟ وهل لدينا تأكيد نهائي قاطع بأن هذا الاتجاه الواحد للزمن نحو الأمام وفقط؟

قد يكون البندول على حق في حركته، وفي دلالة هذه الحركة إلى تأرجح الزمن نفسه في اتجاهات متعاكسة!

تتصدر أخبار المال والبورصات وإعلانات السلع الغالية وأخبار الرفاهية، بينما يتراجع المستوى المعيشي للناس ويتوحش تنين الفقر.

يكثر الحديث عن التقدم بينما يعاني الناس أكثر، ويمرضون أسوأ، ويتألمون أشد.

يزداد عد سكان العالم، لكن الفرد يشعر بالوحدة أكثر وبالعزلة أكثر وأكثر.

يبالغ الإعلام التبشيري المعاصر في الحديث عن القرية الكونية وحريات التنقل والسفر، بينما تتعنت الدول (حتى التي ترعى وتشجع هذه الأحاديث) في منع وفرز من يدخل إليها، وبعضها يقيم الأسوار على الحدود ليعيد للأذهان صورة المدن القديمة في العصور الوسطي، وفي معظم الدول ترتفع جدران العزل المعنوي والمادي للفصل بين الناس في متاريس الشوارع وفي تجمعات الإسكان الحديثة (الكومباوندرز) على السواء.

(2)
هل أزمة نقص الحرية وزيادة السجون وانتهاك القانون، إشارات إلى فشل الدولة القمعية، أم إشارات إلى نجاحها في تحقيق ما تريد وتتعمد فعله بوعي؟

هل زيادة نسب الفقر والديون دليل فشل للنموذج الرأسمالي المهيمن على العالم، أم أنه دليل قوة وسيطرة ونجاح؟

هل ازدواجية المعايير الدولية، ومطاطية الضمير الكوني، وتهميش المنظمات الأممية، خطيئة أم خطة؟

وباقتراب أكثر من المسألة المصرية والعربية عموما: هل الحديث عن إنقاذ الدولة يستهدف محوها وتأسيس نموذج مغاير للحكم؟ أم يستهدف الاستيلاء على الحكم، لوقف ممارسات الظلم والإفقار والقمع من جانب سلطة قديمة، وإسناد نفس الممارسات لسلطة مغايرة؟

(3)
الأسئلة كلها تتأرجح مثل بندول الساعة، لكن السؤال الأخير في الفقرة السابقة يشبه الوقت أكثر مما يشبه البندول؛ لأنه ينصرف عن مراقبة تناقض الحركة ويركز أكثر على قراءة الزمن، ويدعونا للبحث عن القيم والممارسات التي يكشف عنها تاريخ الفئات الجديدة الساعية للحكم، بمعنى ضرورة التعرف على طريقة الإدارة الداخلية لأحزاب المعارضة: هل هي ديمقراطية فعلاً؟ وهل العلاقات بين أعضاء هذه الأحزاب أنفسهم تقوم على احترامهم واحترام اللوائح والقوانين المتفق عليها؟ وهل هناك درجة من العدالة والاتزان في التعبير عن قضايا الوفاق وقضايا الخلاف؟ وهل يمتد هذا الاتزان الموضوعي إلى الخطاب السياسي والإعلامي من غير تلوث بديماجوجية اللغة الكيدية ضد المنافسين ومجانية الوعود الانتخابية للمخدوعين؟

كذلك بالنسبة للأفراد الذين يتصدون للعمل العام: هل يتمتعون بالنزاهة الأخلاقية والعلمية؟ هل تتماشي سلوكياتهم مع الشعارات التي يروجون بها لأنفسهم؟ هل تاريخهم الشخصي والعام في العمل والعلاقات يصلح كبذرة للمستقبل الذي يبيعونه لزبائن، أم أنهم بذور حنضل تقدم نفسها باعتبارها قمحا وزهورا؟

(4)
لا أرغب في نقد المعارضة الآن، فمن القسوة توجيه النقد للمرضى والسجناء والعاجزين وأصحاب الاحتياجات الخاصة، لكن يؤلمني تقديم العاجز لنفسه باعتباره بطلاً، أو تقديم الفاسد لنفسه باعتباره مصلحا، أو تقديم الجاهل لنفسه باعتبارها عارفا يمشي بين الناس لتوزيع الحكمة وحلول المشكلات. وهذا النوع صار يتجاسر ويتكاثر في المجال العام لدرجة تستدعي وصف "الرويبضة" عن ذلك التافه؛ الذي يرى في نفسه "طبيب الفلاسفة" إن حكم، و"مرشد الثورة" إن عارض.

هذا التجاسر المستند على الجهل يذكرني بمقولة إميل سيوران الموجعة: "الوعي منفى والجهل وطن". وإذا كان سيوران ملعونا وتهكميا، يمكن استبدال مقولته بمقولة دارون عن "جسارة الجهلاء" الذين يحتقرون العلم، ويستندون إلى حل المشكلات بالدعاية الغوغائية واستمالة الجموع، واللعب مع الدولة بنفس أساليبها الفاسدة والمسمومة.

(5)
لن أركز في نقد المعارضة (كما وعدت)، سأعود إلى محاولة تفكيك حالة الدولة باعتبارها "الفيروس" الذي يسيطر على جسد المجتمع ويوهمه أنه العلاج، فالدولة هي منتج الفقر، وليس لديها مستهلك إلا رعاياها.. وهي مصنع الخوف، والمسؤولة عن توزيعه وتوصيله للمنازل والمكاتب والمقاهي. وحسب مثال بندول الساعة، فإن الدولة تتحرك يمينا فتتحدث عن الإنجازات والمشاريع، ثم ترتد في الاتجاه المعاكس لتكرس الاحتكار والإفقار. وهكذا تمضي في حركتها البندولية.. كلام عن الحريات وسياسات قمع وسجون، وشعارات عن الكرامة والعزة وممارسات للامتهان والإذلال، وفخر بتحقيق الأمن والأمان ودعوات لفرض الفوبيا على الجميع.

وأعتقد أن "فائض الخوف" الذي أنجزته دولة السيسي هو الإنجاز الأكبر، والحجر المفتاح في قلعة النظام الحاكم.

فالخوف هو العنصر الفيصل في بقاء السيسي أو عزله، لذلك قدم دولته صراحة وبلا مواربة كـ"جمهورية فوبيا"، فأسقط علنا مهمة "التحرر من الخوف" باعتبارها مهمة جوهرية للدولة تجاه رعاياها حسب وعد قديم لفرانكلين روزفلت. وأصدر الجنرال القامع حكمه "الأولمبي" باعتبار الخوف مثل صخرة سيزيف: عقاب من الدولة يحمله كل فرد على كاهله، كما حمل أقباط مصر صليبهم في رقبتهم في عصور التمميز. وقد ساعده على ذلك أن حكام العالم لم يحرصوا يوما على الوفاء بالعهود التي خدعوا بها الناخبين والثائرين، بل ابتكروا الحيل والأساليب لعقاب رعاياهم بأنصبة متزايدة من الفقروالخوف والعزلة والإقصاء، بل وغرس الذل والمهانة في نفوس الأفراد؛ لأن كرامة الأفراد أكبر خطر يهدد حكامهم. ولهذا سعت الدولة كما كشف ماكس فيبر إلى إضفاء المشروعية على احتكارها للقمع ولممارسة القوة والعنف، وتسمية ذلك "سياسة" و"إنجازات"، رغم أن هذه الممارسات نفسها محظورة على الأفراد، وكذلك على مؤسسات أخرى داخل الدولة ذاتها، ويتم تصنيفها كجرائم.

وهذا يعني أن الدولة تحتكر لنفسها حقوق القتل والمصادرة ومخالفة القوانين، وتبيع ذلك لرعاياها بوصفه بطولة وانتصار على أعداء الدولة. وكما نعرف من الأخبار والوقائع، لم يعد شرطا أن يكون عدو الدولة شريرا أو مخالفا للقوانين المعمول بها، أو متورطا في ارتكاب أي فعل مضاد للأخلاق الاجتماعية السارية، يكفي فقط أن تسمي الدولة أي شخص تراه باعتباره "عدوا لها"، حتى لو كان أحرص منها على الالتزام بالقوانين التي وضعتها بنفسها، وبالأخلاق التي كرستها تطورات المجتمع.

(6)
الأكثر استغلالا أن الدولة وأعوانها يتاجرون في أمراض الأفراد المشار إليها سلفا (الفقر، الخوف، العزلة، الإذلال...) فيبيعون لهم أدوية وهمية يزعمون أنها علاج لهذه الأمراض، بل يبيعون لهم الأفكار التي تسعى الدولة لترويجها باعتبارها هي العلم والنفع والنصائح المنجية، ويجبرونهم على الانصياع والالتزام بالكلام الرسمي كـ"روشتة" وقاية وسلام من الأذى.

وبتعبير سيمون دي بوفوار عن "الدولة السوق"، يمكننا أن نفهم تطور فكرة البيع والاتجار والاستغلال من مجال الاقتصاد، فقط على مجال السياسة والحكم، بل وإلى تدخل الجيوش للهيمنة على الأسواق واحتكارها، سواء بغرض التأمين والحماية أو بغرض المساهمة الفعالة لتجنب الأزمات!

(7)
السيسي مستمر، ودولته ستبقى طويلاً، إذا استمر صليب الخوف معلقا في الرقاب، وإذا استمر "الرويبضة" يتصدر الحديث عن الثورة ويتدخل في ترتيب الحياة العامة.

[email protected]
التعليقات (0)