كتاب عربي 21

رسائل عاقلة إلى الرئيس ـ 1

جمال الجمل
1300x600
1300x600

(1) 

في الواقع الرديء لابد لصاحب الرأي النزيه أن يكون ضحية، لابد للعارف أن يشقى، ولابد للإنسان الجيد عموما أن يكون تعيساً وخاسرا.. هذه قاعدة يا فخامة الرئيس، إذ كيف يهنأ إنسان صالح، وجل من حوله أشقياء فقراء معذبون؟ كيف نعده ناجحاً أو ناجياً، وهو في دولة فاشلة ومجتمع متحلل منهزم وسفينة تغرق؟

من هذه القاعدة "المجتمعية" أبدأ بكل الود والعقل والحوار المحترم الجولة الثالثة من رسائل "المواطن الفرد المستقل الأعزل" إلى رأس الحكم المسيطر على مصائر البلاد والأفراد، لعل الله ينفع بها الناس ويرفع عنهم الحبس والويل والالتباس.

(2)

قد لا يعجبك المنبر الذي أبعث منه بالرسائل، لأنك تفضل المنابر التي ترعاها بشروط تحدد سلفا الكلام الذي يقال والكلام الذي لا يقال، ومن المؤلم يا سيادة الرئيس أنني واحد من الملعونين المطرودين من منابر البلاد لعدم تقيدهم بتلك الشروط، وبرغم حرصي على الكتابة من داخل بلدي، إلا أنني حريص أكثر على الحرية والكرامة والاستقلال (وهي كما يعلم الجميع قيم صعبة في أزمنة السقوط) وللأسف لم تتيسر لي داخل البلد الحبيب الذي تحكمه سيادتك.

 

أمانة حكم الدول تقتضي أن تكون "مصر كلها فريال"، وأن يحظى كل فقير وكل محتاج وكل مريض بنفس الرعاية التي يمكنك توفيرها لمواطن واحد، بـ"تعويذة التوجيهات" و"نعمة الحظ الرئاسي"، وهذا مبدأ في كل دساتير العالم


وبكل اعتدال وموضوعية وشفافية أعترف أنها لم تتيسر لي أيضا خارجه، إلا في حدود وفترات قليلة، بحيث لم يتبق لي إلا هذه النافذة الحرة التي تحملتني وتحملت شروطي الصعبة، وللعلم فإنها فعلت ذلك انطلاقا من عقد مهني وقواعد عمل محترمة ومن غير أي معرفة شخصية أو تحالفات أيديولوجية أو إملاءات صريحة أو مبطنة، والحمد لله والشكر لهم على ذلك.

لذلك يا فخامة الرئيس أتعشم أن تتقبل قراءة الرسائل بصرف النظر عن هوية المنابر، ولنعتبر ذلك ضمن مقتضيات "الضرورة" التي بررت بها اضطرارك لخلع بدلتك العسكرية العزيزة عليك والتطوع لمعركة الحكم، على غير رغبة منك (كما قلت).

(3)

أعرف أنك لا تحب التعبيرات الأدبية اللاذعة، أو رائحة التهكم، وبرغم أن أسلوبي في الكتابة لا يخلو من هذا إلا أنني سألتزم في رسائلي بما يساعدها على التفاعل مع العقل أكثر من مشاغبتها للنفس وللغرائز الفردية، فأنا لا أقصد إطلاقا التهجم على ذاتك أو ذات أي إنسان، كما لا أقصد من هذه الرسائل أي تحريض جماهيري أو إثارة زوابع في قصرك، فقط أقصد الحوار القويم والتنبيه الحميم والتلقي السليم لهذه الرسائل، ليس باعتبارها رأي فردي لكاتبها، لكنها عينة من الآراء التي نتحدث بها كمواطنين، بينما تتحدث السلطة داخل القصر بلغة أخرى لا نفهمها ولا نتعامل بها في حياتنا، لأن التاريخ أثبت أن لغة الدواوين وتصريحات المسؤولين لم تنفع الناس طوال تاريخهم، فقد ظلت لغة تبرير للجباية والسلب والحرب والفقر والمصادرات والقمع والتعذيب في الحقول والسجون، فنحن شعب مثقل بذاكرة من الهوان والألم والخداع يا سيادة الرئيس، لذلك وبكل ببساطة فإنني في هذه الرسائل أكرر المحاولة لوضع لغة الناس في قلب القصر، لاعتمادها كلغة رسمية يجب أن يتعلمها ويتعامل بها الحاكم وكل مسؤول، وهذا ما أكدته لك شخصيا من قبل، مشددا على أن قضايا الحاكم وقضايا الدولة مقدرة ومفهومة لكنها لا يجب أن تصرف الحاكم عن قضايا ومشاغل ومتطلبات ولغة الناس. وأنا مجرد متحدث بصوت الناس، لا أدعي حكمة ولا أتفاخر بمعرفة، ولا أتورط في هجاء انتخابي، ولا أتطاول بغرض نفعي يهدف لإسقاط حاكم يتوعدني بالجحيم لصالح حاكم يعدني بالنعيم

(4)

قد تسأل ويسأل آخرون: لماذا أخاطبك؟، وما هو الهدف؟، خاصة وأن تاريخنا الطويل ليس في صالح المثقف الذي يوجه خطابه إلى الحكام، لأنه خطاب من الأسفل إلى الأعلى.. خطاب من لا يملك إلى من يملك ويتحكم ويقرر.. خطاب مناشدة وتوسل وأحيانا تسول إلى من يرضى فيمنح أو يرفض فيعاقب ويمنع، وكنت قد التزمت منذ بدايات عملي العام بالاستقلال التام عن كل أنواع السلطات، والحفاظ على مسافة محسوبة مع الحكام والرؤساء والمديرين والمالكين والمهيمنين، ووجدت حكمتي مصاغة بعد ذلك على لسان الإمام الشافعي في لعنة العلماء الذين يقفون بأبواب السلاطين وتحية السلاطين الذين يسعون إلى العلماء.

 

المخطيء سيء حتى يعود إلى الصواب، والصائب ليس مقدسا لأنه مخطيء محتمل دائما


والأمر عندي يا سيادة الرئيس تجاوز ثنائية "فوق وتحت" و"من يستدعي من؟" إلى قيمة تشاركية لا يأنف فيها أي طرف من ممارسة القول والفعل مادام ذلك في صالح الناس، لهذا لا أيأس من مخاطبة أحد، ولا أتخذ مشاعر أو مواقف كراهية نهائية من أشخاص، المخطيء سيء حتى يعود إلى الصواب، والصائب ليس مقدسا لأنه مخطيء محتمل دائما، وأرجو أن أكون قد أوضحت هذه النقطة في النظر للمواقف وللناس، لأنها نقطة العدل والتعامل بالدساتير والقوانين التي تقوم عليها الدول، لهذا جعلوا الصورة الرمزية للقضاء عمياء يا سيادة الرئيس، حتى لا يكون "الحكم على الهوية"، وهو العيب الكبير الذي يشين حكمك يا فخامة الرئيس ولابد من التفكير في تصحيحه، إذا كنت لا ترغب عامدا في الشين.

(5)

لدي أمور أخرى تحرضني صراحتي على إعلانها ضمن دوافع هذه الرسائل العلنية، مثلا أنني لم أتسرع في كتابتها، وكنت أفكر من عامين في تقديمها عبر برنامج تليفزيوني بعنوان "رسائل"، لمخاطبتك ومخاطبة أهل الحكم، لتحقيق حالة من الاتزان الإعلامي الذي يركز على مخاطبة الناس بالتحريض أو التضليل أو الإلهاء، في الوقت الذي يقع فيه خطاب الإعلام تجاه السلطة في ثنائية المدح والهجاء، لكن شيئا في نفسي عطل الفكرة لعدم توفر شروط الاستجابة السليمة للحوار العاقل، ربما بسبب النظرة المختلة لهوية وسائل الإعلام ومحتواها وأماكن بثها وخلفيات تمويلها، إضافة على أحادية الحساب على المواقف الوطنية التي تنتهجها السلطة في عهدك، وكذلك بزوع مقولة "النصيحة على الملأ فضيحة" وهو ما ينبغي التخلص منه في أي حوار نزيه يستهدف النصح المخلص وصلاح حياة الناس وامن الوطن، لكن ما باليد حيلة، لأن كل الطرق "الآمنة" إلى القصر مسدودة، ولا يوجد إلا طريق واحد لابد لمن يسلكه أن ينحني ويقبل بالخنوع، وهو ما أوضحت أنه يتعارض مع مبادئي العتيقة.

تتبقى نقطة شخصية أحب أو اوضحها لك ولأخوتي وأبنائي من الناس الطيبين الذين يهمهم هذا الكلام، وهي أنني إنسان عاطفي حالم، وربما تصل بي عاطفتي وأحلامي إلى درجة المرض ونقطة الضعف وعدم الواقعية، نعم يا سيادة الرئيس أنا مواطن غير واقعي، بمعنى أنني لا أنتمي إلى واقع رديء أرفضه بوعي وفهم وتعمد، بل أنتمي إلى حلم، إلى أمل، إلى وطن أنشده في خيالي وفي كتاباتي وفي تطلعات الناس من حولي (حتى وإن لم يتمكنوا من التعبير الصحيح عن هذه التطلعات المستحقة) وكذلك في ثوراتهم التي تنقلب إلى لعنات وعقوبات يدفعون ثمنها غاليا على مدى الزمان، وسوف اشرح هذه النقطة اكثر في الفقرة التالية، فما أريد أن أقوله لن ينتهي في رسالة واحدة، ولا في رسائل قليلة، لذلك لا عيب في ان أستفيض إذا استلزم الشرح وكانت هناك فائدة من التوضيح، ومن التكرار إن تطلب الزحام الذي نعيش فيه تكرار الطلبات المهمة والمعاني المرجوة للتأكيد عليها والسعي من أجل تحقيق ما يجب أن يتحقق. 

(6)

تابعت بالأمس أخبار عطفك على السيدة "فريال" بائعة وسط البلد المريضة، وتأملت صور البائعة الفقيرة وهي محاطة بالأطباء وتركب "تروللي" لامع في مستشفى نظيف، مع وعود بخروجها على بيت مؤثث ينتشلها من معاناة هي كل حياتها.

تأثرت فعلا، فأنا عاطفي كما أوضحت، لكنني اعرف تجار مخدرات وفاسدين كثيرين يفعلون مثل هذا لأفراد في عصابتهم، أو من جيرانهم، سواء كرعاية مقابل الخدمة، أو زكاة تخفف عذاب الضمير، أو وجاهة بين الناس، ومع ذلك لم أتبلد يوما وأرفض مثل هذه التصرفات الفردية، بصرف النظر عن منطلقاتها وأهدافها وأغراض من يقوم بها، يكفي أنها لمسة حانية في حياة انسان متعب، لكن هذا (في تقديري وفي التوصيف الوظيفي) ليس من عمل الرئيس، فمن واجبات الرئيس ان يفعل ذلك للعموم وليس لافراد يسعدهم الحظ، أشكرك كعبد الفتاح الإنسان على هذا التصرف، وعلى ما فعلته من قبل مع منى "سيدة التروسيكل"، ومع عشرات ومئات ربما تساعدهم سراً، كما يفعل الآلاف من أهلنا الموسرين الطيبين، لكن أمانة حكم الدول تقتضي أن تكون "مصر كلها فريال"، وأن يحظى كل فقير وكل محتاج وكل مريض بنفس الرعاية التي يمكنك توفيرها لمواطن واحد، بـ"تعويذة التوجيهات" و"نعمة الحظ الرئاسي"، وهذا مبدأ في كل دساتير العالم، أما كيف يمكن أن يحدث ذلك؟

فهذا ما تطمح إليه رسائل الحالم للحاكم.

وفي الرسالة المقبلة نكمل بالود الصادق والعزم العاقل ونية الصلاح، آملا أن يفتح الله القلوب ويزيل الغمة عن قلب الأمة.

[email protected]

التعليقات (1)
الصدى
الخميس، 28-11-2019 08:03 م
شكرا، أعتبر كلامكم جهاد في سبيل الحق لكن من يسمعك سيدي؟ هل للطغاة قلب؟؟قول الرحمان الرحيم "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ" هكذا هم الطغاة، الفرق بينكم و بين قائد الانقلاب هو أنكم تحبون البلاد و تحترمون الشعب أما سفيه مصر يحب نفسه ويقهر شعبه لكن الى حين فقط.

خبر عاجل