مقالات مختارة

المهرج: الفن والسرديات المغايرة والصراع الطبقي

يحيى مصطفى كامل
1300x600
1300x600

«ليس الفن مرآة نحملها أمام الواقع، وإنما مطرقة نعيد تشكيله بها» برتولت بريخت. الواقع إن أحدا لا يكترث بنا بكلمات مشابهة، أو تحمل هذا المعنى واجهت العاملة الاجتماعية السوداء في فيلم «المهرج»، ذاك الشاب المضطرب الذي لا يكاد يستقر على مقعده، يضحك باكيا أو يبكي ضاحكا، يصعب أن تعرف، ولعله أول من يدرك ذلك، فعبثية الحياة حوله، في تلك المدينة القذرة التي تمزقها أخاديد التفاوتات الطبقية، عبثية الوجود التي تفعم كيانه في ذلك التيه إذ يعترف بأن كل ما لديه أفكارٌ سلبية، ويتساءل ما إذا كانت المشكلة فيه؟ أم أن العالم يزداد جنونا؟ ثم عبّر عن ما يعتمل بداخله بكلماتٍ بليغةٍ بقدر ما هي مفزعةٌ ومؤلمة، إذ تمنى أن يكون موته مربحا أكثر من حياته.
في مشهدٍ سابقٍ تعاملت معه العاملة الاجتماعية نفسها، بدرجةٍ أعلى بكثير من التجرد، ما قد نصفها بالحيادية، وردت على طلبه بزيادة العقاقير المهدئة، وتلك التي يعالج بها أمراضه النفسية، بأنه يتناول سبعةً مختلفةً منها بالفعل، ومن ثم فلم يتبق الكثير ليضاف، ثم إذ أُوقفت تلك الخدمة للجمهور التي تقدمها، لم تجد بدّا من التخلص من قناع المهنية والحيادية، لتخبره بكلماتٍ بذيئة بأن «أحدا لا يهتم بهم» وليس يغيب ما يمثلانه، هي السوداء وهو الأبيض الفقير المريض نفسيا، في تلك الغابة المسماة مدينة؛ كانت تنبئه وكأنها تبصق في وجهه مرارتها وغضبها، ولعل إيقاف الخدمة ذكّرها بموقعها الحقيقي في السلم الاجتماعي، الذي ربما تكون قد نسيته، أن رأس المال لن يتريث قبل التخلص منها ضغطا للنفقات.
آرثر فليك، هذا اسم الشاب الذي يُعرف لاحقا بـJoker أو المهرج في مجلات الوطواط، التي تصدر عن دي سي كوميكس منذ عام 1939.
ثمة مثلٌ مصري شهير «يعمل من الفسيخ شربات» والفسيخ لمن لا يعرفه سمكٌ يُحفظ وفق طريقةٍ مصريةٍ قديمةٍ، متوارثة عبر آلاف السنين عن طريق تمليحه وكبسه في براميل، والنتيجة أن رائحةً بشعة (ونتنة للصراحة) تصدر عنه، بينما الشربات شرابٌ من الورد بديع الرائحة حلو المذاق، والمثل يقصد أن هناك من في مقدرته أن يخلق حذِقا شيئا رائعا زاهيا من العطن والقبح، ولا أرى مؤلف ذاك الفيلم إلا مثالا على ذلك. لم أكن يوما من عشاق أفلام الوطواط أو سوبرمان، رأيتها صغيرا، إلا أن اهتماماتي في الأدب والفكر والسياسة والسينما، تباعدت عن ذلك النوع من الحكايا وأفلام الإثارة، وإن كنت قد مررت بمرحلة شغفٍ بمجلداتها في سني الصغيرة المبكرة، إلا أن مؤلف هذا الفيلم ومخرجه في آنٍ معا، تود فيليبس، أقدم على عملٍ جريءٍ وبديع، إذ تناول قصة الإثارة تلك، وأكسبها أبعادا اجتماعية ونفسية وطبقية غاية في العمق والإبداع. الأهم من ذلك والأكثر إمتاعا وإثارة للدهشة، هو الأسلوب الذي اتبعه، إذ إنه استخدم الأحداث والوقائع الشهيرة المألوفة، لأي شخصٍ شاهد أيّا من أفلام الوطواط، أو قرأ أيّا من مجلداته، كحادث مقتل أبيه أمامه ليحور مضمونها ومغزاها. لقد خلق المؤلف سردية معاكسة تماما، مستغلا الأحداث المألوفة نفسها، بعد أن شحنها مضمونا نفسيا وبعدا طبقيا، فنرى أبا «بروس وين» أو الوطواط ليس ضحية عملية سطو واغتيالٍ فحسب، وإنما قبل ذلك، هو رأسمالي متسلط لا يأبه للفقراء ولا لتدني مستوى الخدمات والمرافق في المدينة، ما يؤدي إلى معاناة الفقراء، والأكثر عوزا من سكانها، ولم يفت بعض المعلقين أن يلفت النظر إلى أوجه الشبه التي لا تخطئها عين بين المدينة في الفيلم، جوثام، ونيويورك السبعينيات.
الصراع الطبقي والنضال الاجتماعي لا يخاضان فقط في المصانع والميادين، وإنما في مجال الأفكار والكتب والمسرح والسينما.
أما المهرج، الشرير الأشهر ربما في حكايا الوطواط، فنتبين أن أمره أعقد من مجرد شرير مجرم، فهو ضحيةٌ بامتياز قبل أن يمد أصبعا على أحد، ضحية الإهمال والفقر والأمراض النفسية، يكابد ويعاني مصارعا قسوة الحياة في هذه المدينة المتوحشة، حيث لا مكان ولا بقاء للضعفاء. نراه في بداية الفيلم يتعرض للضرب من صبية عابثين، حين يحاول القيام بعمله، حيث يتركونه متألما في عرض الطريق، كتلة من الألم والإهانة؛ نراه في الأزقة المظلمة وسط القمامة يركلها منفثا عن غضبه المتراكم؛ يكتشف لاحقا أنه أوذي قبل أن يدرك أنه لقيط، أو أن المرأة التي تبنته والتي يحسبها أما، مارست ضده برفقة صاحبها اعتداءات بدنية ونفسية ممنهجة في أثناء صغره، كما نتبين بعد حين أنه بخياله المريض اختلق علاقة حبّ مع جارته، كأنه بدوره يصطنع حيزا وسردية خاصة، تصبح مهربا له من قسوة الحياة ووحدتها، ومساحة يدفئها قدرٌ من الود والاهتمام والحب، ثم إذ يضع أحدهم في يده مسدسا لحماية نفسه، فإنه ما يلبث أن يستخدمه للدفاع عن نفسه، مطلقا النار على ثلاثة رجالٍ تعدوا عليه بالضرب في المترو، ومن ثم يتبين أنهم مصرفيون أثرياء في وول ستريت. لم يكتشف أمره حينها، لكن نوعية القتلى وموقعهم الطبقي يجلبان التعاطف للفاعل، نظرا للغضب المتراكم ضد الأثرياء لاستغلالهم، بل إن نوعا من التماهي مع المهرج يبعث حركة متعاطفة ترتدي أقنعة المهرج، يتوه ويذوب هاربا وسطها حين تستدعي الحاجة. الملاحظ أنه يقتل فقط أولئك الذين آذوه، وآخرهم تلميحا هي عاملةٌ اجتماعية، سوداء أيضا، تجلس قبالته في مصحة الأمراض العقلية التي يودعها بعد القبض عليه، وقد بدا عليها نعيمٌ، بما يدل على كيف تستقطب المؤسسة والنظام نماذج وآحادا من الطبقات المستغلة، ليكونوا واجهتها أمام من كانوا منهم.
هذا الفيلم لا يقدم فقط سردية مغايرة ومعاكسة تماما، بل هو صرخة احتجاج بديعة ومتقنة ضد المؤسسة Anti Establishment ، ضد التجريف والتوحش الذي تؤدي إليهما الرأسمالية وأنماط سلوك المجتمع الاستهلاكي، وليس أدل على ذلك من الإعلانات التي تظهر خلف المهرج، إذ يرقص فوق سيارة في أحد مشاهد الفيلم الأخيرة، وسط الجمهور الصاخب الغاضب وأحد هذه الإعلانات عن الأفلام الإباحية.
ليس الفن ميدانا للخطابة أو منشورا سياسيا، وإذ تبنت بعض المدارس ذلك المنحى الدعائي السافر، في حقب تحت تأثير التوجيهات السياسية، فإن أغلب ما أنتجته (إن لم يكن كله) اتسم بالرداءة. بيد أن الفن في المقابل يستطيع التعبير عن الواقع وآلامه ومظالمه؛ يستطيع أن يكون بحق صوت المظلومين والمسلوبين والمقهورين. هي معادلةٌ صعبة ودقيقة، أن ننتج فناً ممتعا، لكنه ملتزم وفقا لانحيازات الفنان ورؤيته للعالم، وهو التزامٌ لا دعائي ولا يفرضه عليه سوى ضميره. لقد نجح الفنانون في هذا العمل البديع من تمرير بطارية من المفاهيم الناقدة بعنف لسطوة رأس المال، وتأثيرها المدمر والمشوه للبشر، في إطار قالب فني وأداء مبهرين مدهشين وأين؟ في قلب الرأسمالية، الولايات المتحدة. لقد خلق المؤلف المخرج من الفسيخ شربات، وعلى ضوء ما أنجز نستطيع أن نستنتج أن الصراع الطبقي والنضال الاجتماعي لا يخاضان فقط في المصانع والميادين، وإنما في مجال الأفكار والكتب والمسرح والسينما، حيث يتم خلق وترويج مفاهيمنا وأفكارنا وتمزيق سرديات الاستبداد الظالمة البائدة والمزيفة واستبدالها بسرديات الظلم والتمرد، بحكايانا نحن.

 

 

( القدس العربي)
0
التعليقات (0)