كتاب عربي 21

مواسم الهروب من الأوطان

محمد هنيد
1300x600
1300x600

لم يكن ليخطر ببال الروائي السوداني الطيب صالح وهو يكتب روايته الأشهر "موسم الهجرة إلى الشمال"، أن البلاد العربية بثرواتها ومناخها وطاقتها ستتحوّل في يوم ما إلى مصدر أساسي للهجرة والهروب نحو الشمال. لا يقتصر الأمر على زوارق الموت التي تخرج كل يوم من الضفة الجنوبية للمتوسط وهي تنشد شواطئ أوروبا فهذا أصغر جزء في جبل الجليد. بل الكارثة الأمر والجريمة الأخطر هي أن جحافل الهاربين صارت مكونة من خيرة الشباب المتعلم من الإطارات والمهندسين والأطباء والخبراء من كل المجالات. كيف تحولت أرض العرب بكل خيراتها إلى أوطان طاردة لخيرة أبنائها؟ ولماذا تصمت الحكومة العربية عن هذا النزيف الخطير؟ وما هي تداعيات هذه الجريمة في حق الأمة على مستقبل الأوطان ومستقبل أجيال بكاملها؟

الهروب في السلم والحرب

لا تقتصر الهجرة على الهاربين من جحيم المعارك الدائرة في بؤر الصراع الكثيرة على امتداد مساحة الأقطار العربية في سوريا وليبيا واليمن والعراق وغيرها بل تتجاوزها إلى البلدان التي تعرف استقرارا سياسيا نسبيا. هذه الخاصية الهامة تجعل من الهجرة ظاهرة تتجاوز حالة السلم والحرب بالمفهوم المسلح للنزاعات الدائرة وهي الخاصية التي توحد بين الأقطار العربية وتدفع إلى ضرورة تجديد مفهوم الحرب والسلم. 


قد تُفهم أمواج الهاربين من جحيم الحروب في سوريا واليمن وليبيا الذين يصنفون في الجانب الأكبر منهم ضمن خانة اللاجئين وتشملهم القوانين والاتفاقيات الدولية. لكن تبقى هاته الموجات رغم أهميتها مرتبطة بطبيعة الصراعات والحروب في المنطقة وقد تسمح نهاية الحروب بعودة قسم من اللاجئين متى سنحت الظروف لهم بذلك. 

أما القسم الأخطر فهو الهجرة الطوعية التي تدفع بآلاف الشباب إلى مغادرة الأوطان بعد أن عجزوا عن الحصول على حد أدنى من شروط العيش الكريم وهو الطابع الذي يغلب على أنساق الهجرة الصادرة من المنطقة العربية وخاصة من منطقة المغرب الكبير.

 

لم يكن ليخطر ببال الروائي السوداني الطيب صالح وهو يكتب روايته الأشهر "موسم الهجرة إلى الشمال"، أن البلاد العربية بثرواتها ومناخها وطاقتها ستتحوّل في يوم ما إلى مصدر أساسي للهجرة والهروب نحو الشمال.

 
بناء على ما تقدم لا يقتصر مفهوم الأمن الاجتماعي أو السلم الأهلي أو الاستقرار المدني على غياب كل شكل من أشكال النزاع المسلح أو شبه المسلح بل إنه يشمل كل المجتمعات التي لا توفر الحد الأدنى من شرط الأمن الأهلي الذي يمثل الحق في العمل وفي التعبير أحد أبسط مقوماته. لا يهاجر الإنسان من وطنه ويترك أهله وأرضه ولا يركب البحر إلا إذا صار الوطن مستحيلا وانعدمت معه كل فرص الحياة وهو حال الغالبية العظمى من الشباب العربي في أوطان استشرى فيها الفساد ونهبت الثورة. 

إن مقارنة بسيطة بين موجات الهجرة في القرن الماضي وبين واقعها اليوم يؤكد أن الظاهرة صارت أشبه بنزيف قوي يحرم الأوطان من أهم فواعل نهضتها لأن خسارة الإنسان لا تعوض كما تعوض الثروة والموارد الطبيعية. 
 
الصمت الرسمي المتواطئ 

باستثناء بعض التصريحات المحتشمة هنا أو هناك فإن النظام الرسمي العربي لا يبدو معيرا لهذه الكارثة الوطنية أدنى اهتمام وهي التي ترتقي إلى مرتبة جريمة وطنية عظمى. بل إن كثيرين يرون في الدولة شريكا في الجرم لأنها من جهة أولى تتخلص من أعباء العاطلين عن العمل ومن مسؤولية توفير مواطن شغل خاصة لفئة خريجي الجامعات منهم وهي تتحصل من جهة أخرى على مصدر هام للعملة الصعبة دون عناء يُذكر.
 
تمثل البطالة في صفوف الشباب المتعلم بشكل خاص أهم الأسباب التي تدفع إلى الهجرة بل إن انعدام مواطن الشغل بعد التخرّج قد دفع بالكثيرين إلى مغادرة مقاعد الدراسة باكرا من أجل الالتحاق بأمواج المهاجرين ربحا للوقت وتوفيرا للجهد. وهي الظاهرة التي تفسر العزوف المتنامي عن الدراسة التي صارت في بعض الدول تساوي هدر العمر في تكوين لا يحجز لصاحبه مكانا مستحقا في سوق العمل.

أين الخلل إذن في دول تسبح فوق الثروات سواء في الخليج أو في مصر أو في بلدان المغرب العربي؟ قد لا يختلف عاقلان في أن السلطة السياسية القائمة على الفساد والمؤسسة على إهدار الثروات هي المسئول الأول عن أمواج الهجرة التي تعصف بالنسيج المجتمعي للبلدان العربية. كما أن انعدام الخطط التنموية الفعالة التي تستهدف استيعاب العدد الأكبر من الطاقات الشابة تكاد تكون منعدمة في دول هي الأغنى عربيا. فكيف يمكن تفسير أمواج الهجرة المنطلقة من بلد غني كالجزائر مثلا؟ وكيف يمكن تفسير حالات ألاف الإطارات والجامعيين والمعطلين الذين يغادرون بلدا صغيرا مثل تونس كل سنة؟
 
لا يمكن بأي حال قياس حجم الخسائر المترتبة عن هذه الظاهرة والمرتبطة رأسا بفساد الفاعل السياسي الذي راكم عقودا من إهدار المال العام وتفويت فرص التنمية وتعطيل كل مسارات التحديث والتصنيع واستيعاب الطاقات الشابة. إذ لا تقتصر هذه الخسائر على قدرة الدولة بقطاعاتها المختلفة على توفير اليد العاملة النشطة وتجديد سوق الشغل بل إنها تنسحب رأسا على بنية المجتمع والأسرة وعلى طبيعة السوق الاستهلاكية والانتاجية على حد سواء.

 

القسم الأخطر فهو الهجرة الطوعية التي تدفع بآلاف الشباب إلى مغادرة الأوطان بعد أن عجزوا عن الحصول على حد أدنى من شروط العيش الكريم

 
إن ارتفاع نسبة العنوسة ومعدلات العزوف عن الزواج وانتشار الجريمة ومظاهر الانحراف وكذا فقدان الإطارات الطبية والعلمية والهندسية والإطارات الجامعية في دول عربية كثيرة هي نتائج طبيعية لانفجار معدلات الهجرة. وهو الأمر الذي يدق ناقوس الخطر من أجل إيقاف النزيف الذي تستفيد منه دول أوروبية كثيرة نجحت في تجديد قواها العاملة دون تكلفة تُذكر.
 
الإنسان هو قيمة القيم وهو رأس الثروة الوطنية الذي لا يقدر بثمن وهو كذلك عنوان تقدم الأمم والشعوب. بناء عليه فإن تخلف الدولة العربية ليس إلا نتيجة حتمية ومحصلة طبيعية لانهيار قيمة الإنسان فيها. فعندما يستعيد المواطن العربي قيمته كفرد له حقوق وواجبات تضمن له العيش الكريم وعندما يكون الإنسان في قلب المشروعات التنموية وعلى رأس رهانات السياسات الوطنية فعندها وعندها فقط تستعيد الدولة سيادتها ويتحقق للإنسان مفهوم المواطنة ويتأسس له شرط الكرامة.

التعليقات (1)
أمة الإسلام
الخميس، 02-01-2020 03:39 م
“رب ضارة نافعة” هؤلاء الشباب في المهجر عليهم إنشاء جمعيات و منظمات حقوقية، إقتصادية ،سياسية ،ثقافية... حتى يكون لهم وزن و إحترام مثل المجتمعات الأخرى ،العمل الصالح لا ينتهي لا من الداخل أو الخارج إن العمل عبادة و هو واجب إن أردنا حرية شعوبنا.