قضايا وآراء

مقالة في الانتقال السياسي والاقتصادي في تونس

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600

بتأكيده أولويات حكومته الاقتصادية والاجتماعية، يُظهر رئيس الحكومة التونسية المكلف إلياس الفخفاخ وعيا حادا بالتأثيرات الكارثية، التي تسببت بها الصراعات الهووية والاصطفافات الإيديولوجية المهيمنة على مسار الانتقال الديمقراطي في تونس منذ الثورة. 

 

استحقاقات الثورة


وبصرف النظر عن الأسباب التي انحرفت بالتنافس السياسي من مداراته الاقتصادية والاجتماعية إلى المدار الهووي المكرّس لسلطة المنظومة القديمة ومنطقها وخياراتها ورساميلها البشرية والرمزية، فإن نتائج الانتخابات ـ وما انبنت عليه الحملات الانتخابية من برامج "إصلاحية"ـ قد أكدت رغبة أغلب التونسيين في تشكيل حكومة تقطع مع الفساد بمختلف أشكاله السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

رغم أن "محاربة الفساد" هي الصياغة الأكثر تكثيفا لاستحقاقات الثورة التونسية، فإنها لا تحمل المعنى ذاته داخل الأطراف المحسوبة على الثورة، بل إنها ـ من شدة هلاميتها وزئبقيتها ـ قد صارت عبارة مرسلة يستعملها حتى من قامت عليهم الثورة، خاصة عند شيطنتهم لحركة "النهضة" وتحميلها مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في "تونسهم" التي أضاعها "الخوانجية". 

 

بحكم فقدان السيد الفخفاخ للشرعية الانتخابية فإنه قد أكد أنه يستمد شرعيته من شرعية رئيس الجمهورية


ولسنا معنيين في هذا المقام ببيان تهافت هذه الخطابات التجمعية الجديدة التي مازالت أسيرة المحبسين، محبس العقلية الاستئصالية ومحبس إنكار الثورة باعتبارها حدثا تأسيسيا، بل نحن معنيون أساسا بتأكيد حقيقة مركزية، مدارها أن فشل مفاوضات الحكومة الأولى بين الأطراف المحسوبة على الثورة (برئاسة السيد الحبيب الجملي) كان التعبيرة القصوى عن فشل الانتقال الديمقراطي في مستواه السياسي. 

حكومة الرئيس

 

بصرف النظر عن اتهاماتها المتبادلة، فإنّ عجز الأحزاب المحسوبة على الثورة عن إيجاد قاعدة للحكم المشترك، قد أكّد أن "الكلمة السواء" بينها مازلت حلما بعيد المنال، كما أظهر ذلك العجز مدى اختلاف تلك الأطراف في تحديد معنى "الفساد" وتعييناته الواقعية، خاصة فيما يتعلق بالشركاء الاجتماعيين أو العلاقات الخارجية، أو حتى فيما يتعلق بالخيارات الوطنية الكبرى التي يعكسها عادة تعبير"النمط المجتمعي التونسي". 

ولا شك عندنا في أن المأزق الذي بلغته المفاوضات ودفعت في اتجاه"حكومة الرئيس" لا يعبّر فقط عن خلافات جزئية بقدر تعبيره عن تناقضات إيديولوجية عميقة، قد يكون من المبالغة ردها إلى الثنائية اللامتكافئة (عائلية ديمقراطية/إسلاميين)، وإن كنا نُرجح أنها مرتبطة بها في مستوى البنية العميقة للوعي السياسي.

لن نجانب الصواب إذا ما نظرنا إلى فشل التكليف الأول برئاسة الحكومة باعتباره جزءا من المحصول الباهت للانتقال الديمقراطي في المستوى السياسي. فرغم أن النسبة العظمى من التونسيين قد أرادوا للانتخابات التشريعية والرئاسية أن تكون لحظة تأسيس لعقد سياسي جديد، فإن الوقائع قد كسرت أفق انتظارهم ووضعتهم أمام انسداد سياسي حاد. وهو انسداد يبدو أن تكليف السيد إلياس الفخفاخ بتشكيل الحكومة سيزيد في تعميقه. 

فبحكم فقدان السيد الفخفاخ للشرعية الانتخابية، فإنه قد أكد أنه يستمد شرعيته من شرعية رئيس الجمهورية، ثم بنى على ذلك خريطة المفاوضات لتشكيل الحكومة. وكان المعيار الذي اعتمده السيد الفخفاخ هو تشريك القوى الداعمة لرئيس الجمهورية في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، ولذلك أقصى حزب قلب تونس (حزب نبيل القروي الذي نافس السيد قيس سعيد في الدور الثاني من الرئاسيات)، وأقصى الحزب الدستوري الحر المعروف بعدائه للرئيس ولكل مخرجات الثورة التونسية.

 

بوادر انسداد سياسي

رغم أن إقصاء الحزب الدستوري الحر محل إجماع داخل الأطراف المعنية بتشكيل الحكومة، فإن إقصاء حزب قلب تونس لم يكن محل ترحيب من حركة النهضة، التي اشترطت تشريكه في المفاوضات لضمان حزام سياسي واسع للحكومة (حسب تأويل الحركة لخطاب التكليف الرئاسي ذاته). ونحن غير معنيين بخلفيات هذا الموقف النهضوي ولا بمدى صوابية موقف رئيس الحكومة المكلف، ولكننا نجد أنفسنا أمام تأويلين متناقضين لخطاب التكليف، بل نجد أنفسنا أمام إرادتين سياسيتين متنابذتين، تعيدان الاصطفافات القديمة مع بعض التعديلات الجزئية: النهضة في مواجهة حركة الشعب وحزب التيار الديمقراطي، لكن مع إدخال رئيس الجمهورية لاعبا رئيسيا في هذه المعادلة السلطوية الهشة. 

 

المأزق الذي بلغته المفاوضات ودفعت في اتجاه"حكومة الرئيس" لا يعبّر فقط عن خلافات جزئية بقدر تعبيره عن تناقضات إيديولوجية عميقة


وسواء أكان اشتراط "النهضة" لدخول قلب تونس في الحكومة ناتجا عن خيارها الاستراتجي بالتطبيع مع ورثة المنظومة القديمة، أم كان نابعا من مخاوفها من هذا التحالف بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية والقوى الحزبية المساندة لهما، فإننا في حضرة انسداد سياسي قد يكون المخرج الأوحد منه هو الذهاب لانتخابات تشريعية مبكرة.

عندما تحدث رئيس الحكومة المكلف إلياس الفخفاخ عن أولوية "الانتقال الاقتصادي" وعن ضرورة الابتعاد عن الصراعات السياسوية ومنطق المحاصصة الحزبية، فإنه قد دشن خطابا يبدو أنه غير مطابق لسياقه. فالانتقال الاقتصادي يشترط نجاح الانتقال السياسي، وهو أمر معدوم سواء في  مستوى العدالة الانتقالية، أو في مستوى إرسال المحكمة الدستورية، أو في مستوى تجاوز الانقسامات السياسية القائمة على  مفردات التنافي والصراعات "الوجودية". 

ولعل المأزق الذي يجد فيه السيد الفخفاخ نفسه هو أكبر دليل على أن فشل الانتقال الديمقراطي في المستوى السياسي، سيظل أكبر عائق أمام أي انتقال اقتصادي ناجح، أي أمام أي مشروع حقيقي للإصلاح ومقاومة الفساد. وسواء أشارك حزب قلب تونس في الحكومة القادمة أم لم يشارك، وسواء أذهب الناخبون لانتخابات تشريعية مبكرة أم لم يذهبوا، من المؤكد أنّ المشهد السياسي التونسي سيعيد إنتاج أزماته وحلوله المؤقته، ومن المؤكد أيضا أن الخروج من هذا المأزق البنيوي يتطلب مشروعا مواطنيا سياديا، مازال مفتقدا ـإلى حد اللحظةـ لشروطه الفكرية والموضوعية.

التعليقات (0)