كتاب عربي 21

تونس "الصغيرة" في عين عاصفة "صفقة ترامب"

طارق الكحلاوي
1300x600
1300x600
ليست تونس، اقتصاديا وماديا وبشريا، الطرف العربي الأضخم، ولم تكن تصنع القرارات العربية، وأحيانا كانت تراقب من بعيد. وقبل (وحتى بعد) الثورة كانت تتابع بتأن وحذر مشوب بالريبة مما يحدث عربيا، خاصة في مستوى القضية الأكبر.

لم تمول تونس أطرافا فلسطينية ولم تتورط في الصراع الفلسطيني- الفلسطيني، حتى إن مالت بهذا الشكل أو ذاك لبعض الأطراف الفلسطينية. كان النبض الشعبي دائما هو السائد، نبض يخفق بحب فلسطين بلا حسابات أو تعقيدات..

استقبلت الفلسطينيين بعد اجتياح بيروت، واستشهد فيها قياديوها التاريخيون من أبي اياد إلى أبي جهاد، وكانت احد استتباعات هذه العلاقة الوجدانية الحضور اللافت للمقاتلين التونسيين في المقاومة الفلسطينية منذ إرهاصات حرب 1948، إلى السبعينيات والثمانينيات في فصائل المقاومة الفلسطينية خاصة ذات الميول اليسارية، ثم في التسعينيات في القيادة العامة، أيضا حماس. واستشهد في الأثناء عدد منهم، مثل عمران المقدمي ورياض بن جماعة ورياض البدري، وآخرهم الشهيد محمد الزواري.

بهذا المعنى كان حضور "تونس الصغيرة" في فلسطين رمزيا كبيرا وثقيلا، وسيبقى. وبهذا المعنى فقط يجب أن نفهم مواقف الرئيس قيس سعيد، بما هي تعبير عفوي عن مواقف مبدئية تعبر عن الوجدان التونسي، وهي التعبير الديمقراطي عن شعب تونس، وهو الحد الادنى، مثلما كان استقبال الرئيس السابق المنصف المرزوقي لقيادات فصائل المقاومة إثر العدوان صيف 2014 تعبيرا عن الحد الأدنى. فتونس بما هي الديمقراطية الجدية الوحيدة، لا يمكن أن يعبر رئيسها المنتخب ديمقراطيا إلا على نبض التونسيين، وليس له الحق في الخطأ أو المناورة أو التكتيك هنا. ومن الواضح أن ذلك أقلق وسيقلق عددا من الأطراف الدولية، "الراعية للتجربة الديمقراطية" وأولها واشنطن.

موقف تونس الرسمي، كما عبر عنه الرئيس قيس سعيد، كان أيضا مدعما بموقف مشترك مع الرئيس الجزائري، وفيه رفض واضح لا لبس فيه للصفقة، بثقل رئيسين منتخبين بشكل مباشر.

والمسألة ليست فقط تصريحات، فتونس الآن، وهي عضو حاليا في مجلس الأمن الدولي، بصدد لعب دور رئيسي في كواليس الأمم المتحدة مع ممثلي دول عربية وإسلامية أخرى بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية لصياغة مشروع قرار عن الجمعية العامة للتصدي أمميا للمشروع التصفوي الأمريكي. طبعا الموقف التونسي لا يندرج ضمن العنتريات، إذ هو يتطابق مع الموقف الأوروبي المعقول الذي يعتبر المشروع الأمريكي معارضا لقرارات الشرعية الدولية.

من المعلوم أن الاستراتيجية الامريكية المرافقة لـ"صفقة ترامب"، التي كرست تطابقا تاما مع المصالح الإسرائيلية، ولم تترك مجالا حتى لمحمود عباس لأن يبتلعها، تتضمن محاصرة عربية للفلسطينيين للضغط عليهم. وهكذا تم تشكيل قطيع الدعم من المحور الأقرب لإسرائيل في المنطقة: الحزام الإماراتي- السعودي- المصري (بملحقاته البحرينية، العُمانية.. إلخ). وليس من باب المصادفة أن أحد محاور الانقسام بين قيادات سياسية لم تخترها شعوبها، وقيادات سياسية اختارتها شعوبها. وأحد محركات المسافة من تل أبيب هو الرافعة الديمقراطية، وليس أن المسائل أكثر تعقيدا.

تعيش تونس مثلا على هامش الصفقة؛ نقاشا داخليا حول التطبيع، خاصة حول تورط جامعة التنس المحلية في مقابلات مع إسرائيليين في تونس وخارجها. وكان النقاش يتضمن إشكالات تقنية حول استقلالية جامعة التنس والتزاماتها الدولية، ومجال تدخل السلطات الرسمية التونسية في ذلك. وقد أصدرت وزارة الخارجية التونسية موقفا رسميا يستنكر المشاركة في هذه المقابلات، في مبادرة لافتة توضح الهامش في المناورة أو عدم قدرة السلطة في إطار ديمقراطي في فرض مواقفها. في كل الحالات كان سيكون الأمر أوضح لو مر مشروع واضح قانوني يجرم التطبيع ويحدد المسؤوليات بشكل تفصيلي بعيدا عن الذرائع التقنية والمطبات القانونية.

ليس الوضع ورديا، لكن في تونس الصغيرة توجد أسس وشروط التعبير الواضح والأداء الرسمي في الحد الأدنى المعاضد للحق الفلسطيني. الديمقراطية لم تجعل تونس ولن تجعلها تقود محور المقاومة، ويجب أن لا تكون هناك أوهام حول ذلك، لكي تعطي النبض الشعبي المؤيد لفلسطين سياجا رسميا وإسنادا سياسيا غير مسبوق، وتضع المطبعين في الزاوية.

لن تكون واشنطن بشكل خاص مرتاحة لما يحصل، فطريقة تفكير ترامب تعتمد على "إنني أمنحك الدعم المادي والعسكري" لتبقى منضبطا في الصفوف ولا تثير المشاكل. وقيس سعيد بصدد إثارة المشاكل في الصف، فما هي خيارات ترامب؟ وأي أفق للضغط لديه؟ وهل سيجعل هذا مبررا لقطع المساعدات والدعم؟ أم أن أجهزة الدولة العميقة من وزارة دفاع وخارجية ستتصدى بطريقتها لذلك؟.. أرجح الوضع الأخير.

وهذا وحده يستحق التنويه ويسمح بالتفاؤل والغبطة، فتونس كبيرة بسبب موقفها، وهذا أفضل إسناد لفلسطين.
التعليقات (0)