قضايا وآراء

الصراعات الهوياتية في تونس: من الأيديولوجي إلى الطائفي

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
في تونس، لم تكن "الطائفية" قبل الثورة مرتبطة بالمعنى المعروف للكلمة، وذلك لأن الطائفية كانت تُختزل أساسا في جملة من السلوكيات أو الخيارات الدينية التي وسمتها الآلة الدعائية للنظام بـ"الطائفية". فـ"اللباس الطائفي" كان يعني الحجاب بكل بساطة، وكانت طائفيته متأتية من أنه يعبّر عن منظومة فكرية تتناقض (حسب حرّاس النظام) مع "النمط المجتمعي التونسي"، أي مع مجمل خياراته القيمية والتشريعية الكبرى منذ تشكيل ما سُمّي بالدولة الوطنية أو الدولة- الأمة. ولكنّ الطائفية اتخذت في المدة الأخيرة معنى أرجعها إلى دلالاتها الأصلية، فقد كثر الحديث منذ وصول السيد قيس سعيّد إلى سدة الرئاسة عن تأثيرات إيرانية شيعية، بل عن تدخل إيراني مفترض في الحملة الانتخابية للرئيس التونسي.

وليس يعنينا في هذا المقال تتبع العلاقة بين نظام المخلوع وبعض نخبه المؤدلجة؛ وبين الإسلام السياسي الشيعي في إطار الصراع المفتوح الذي خاضه النظام ضد الإسلام السياسي السني، كما لا يعنينا أن ننحاز إلى أطروحة من الأطروحتين المتصارعتين حول "عقيدة" رئيس الجمهورية وبعض المحسوبين عليه (فالانحياز هو ترجيح بلا مرجح في أسوأ حالاته، وهو (في أفضل أحواله) مجرد تخمين مبني على قرائن لا تبلغ حد اليقين أبدا)، بل يعنينا أن نتدبر ما يطرحه هذا الموضوع في مستوى الفقه الدستوري من جهة أولى، وفي مستوى التعبير عن استمرارية الصراعات الهوياتية وتأثيراتها الكارثية على بناء المشترك المواطني من جهة ثانية.

يضبط الدستور التونسي في الفصل 74 شروط الترشح لرئاسة الجمهورية، وهي أربعة شروط تتعلق بالجنسية والسن والتزكية والديانة. وباشتراطه أن يكون المرشح مسلم الديانة، تعرض الدستور التونسي إلى العديد من الانتقادات الحقوقية التي رأت في هذا الشرط انتهاكا لمبادئ حقوق الانسان والمساواة بين المواطنين. ولكنّ ما يعنينا هنا ليس تلك الانتقادات، بل ما يثيره هذا الشرط في مجتمعٍ ظل مخياله الديني (دون فلسفته السياسية وتشريعاته) مرتبطا بالفضاء السني عقيدةً وفقها. وفي غياب المحكمة الدستورية، فإن طرح قضية "إسلام الرئيس" ستتأثر بالسجالات السياسية والصراعات الأيديولوجية التي لا تنفصل هي الأخرى عن حرب المحاور الإقليمية.

رغم أن صاحب هذا المقال لا يزعم امتلاك ما يؤهله معرفيا للخوض في قضايا الفقه الدستوري، فإنه لا يرى مهربا من طرح بعض الإشكالات التي يثيرها اشتراط الإسلام في المترشح للرئاسة. فالمسألة تتعلق في رأينا بترسبات دينية وسياسية لا واعية؛ لم يفلت من قبضتها حتى أشد المناوئين للإسلام السياسي والرافضين للنظام الرئاسي. فمن الناحية السياسية، يعكس اشتراط الإسلام في رئيس الجمهورية (دون غيره من المناصب) تمثّلا رئاسيا لنظام الحكم، وهو تمثّل غير مطابق للنظام البرلماني المعّدل الذي ارتضاه التونسيون لحكمهم. أما من الناحية الدينية، فإن اشتراط إسلام الرئيس لا ينفصل في مستوى بنيته العميقة اللاواعية عن اشتراط إسلام "الخليفة" في كتب الأحكام السلطانية. ولفهم هذا الإشكال بصورة أعمق يكفي أن نطرح السؤال التالي: لماذا لم يشترط الدستور إسلام رئيس الحكومة وهو صاحب السلطة التنفيذية الأهم في البلاد؟ إن غياب هذا الشرط في ما يتعلق برئيس الحكومة لا يمكن أن يرتبط برغبة الفاعلين السياسيين في التخفف من هذا الشرط (فلا أحد منهم يمتلك الجرأة ليصدح بإلحاده أو باتباعه لديانة أخرى غير الإسلام)، بل هو مرتبط بارتهان أولئك الفاعلين لعقل سياسي تحكمه هرمية يكون على رأسها رئيس أو خليفة فلا فرق، اللهم إلا في نمط الشرعية.

في مستوى منطوقه، لا يطرح الدستور التونسي قضية طائفة الرئيس. فهو لا يقول صراحة (مثل الدستور الإيراني) بأن على رئيس الجمهورية أن يكون على مذهب معين، ولذلك فإن تأويل الدستور (في ظل غياب المحكمة الدستورية) سيزيد في حدة التجاذبات الأيديولوجية والانقسامات السياسية المفتوحة على منطق التنافي ومفردات الصراع الوجودي. ولتوضيح الإشكال، فإن علينا أن نطرح السؤال التالي: من هي الجهة المؤهلة للحكم بإسلام شخص أو عدم إسلامه؟ وإذا شئنا أن نتعمق أكثر فإن علينا طرح أسئلة أخرى تتعلق بمعنى الإسلام ذاته: هل سيكون مرجعنا هو المعنى التراثي للإسلام (وهو معنى طائفي منغلق يتأسس على مطلب الجماعة الإيمانية المتجانسة عقيدة وفقها ومشروعا سياسيا)؟ هل سيكون مرجعنا هو الفقه التجديدي كفقه محمد شحرور وغيره ممن يدخلون في الإسلام من أخرهم منه الفقه التراثي؟ هل سيكون مرجعنا هو "الفقه اليساري" الذي يتحدث عن إسلام حضاري لا علاقة له بالمعنى المتداول للإسلام عقيدةً وأصولا وتاريخا ومخيالا؟

بصرف النظر عن امتداداتها الإقليمية ورهاناتها السياسية، فإن المسألة الطائفية في تونس هي في جوهرها لحظة من لحظات الصراع الهوياتي المعبر عن عدم اكتمال شروط المواطنة فكريا وموضوعيا، كما أنها تعبر عن غياب أي مشروع وطني جامع تذوب فيه الاختلافات الدينية أو الطائفية أو الأيديولوجية. ولا شك في أن طرح "عقيدة" الرئيس وبعض أعضاء فريقه هو طرح يمتد بنسب إلى السياسة واستراتيجياتها أكثر مما يرتبط بالدين. وهو ما يعني ضرورة الحذر من الأطروحات "الإيمانية" التي تريد إظهار القضية وكأنها دفاع عن "الصراط المستقيم" وعن عقيدة "أهل السنة والجماعة"، وكذلك الحذر أيضا من الأطروحات المضادة التي تريد أن توهمنا بانعدام العلاقة بين الصراعات الإقليمية والسرديات الدينية المتصارعة على امتلاك الفضاء التونسي وتجييره لخدمة أهدافها إقليميا ودوليا.
التعليقات (0)