كتاب عربي 21

"لا تنافق" عالم السلطان.. أحداث كاشفة (47)

سيف الدين عبد الفتاح
1300x600
1300x600
من المؤسف حقا أن ترى هؤلاء يلبسون لباس التوبة أو المراجعة ليتحدثوا عن آراء جديدة؛ وهي أمور مع ذلك تقع في مساحات الاختيار طالما أنها وجدت منطقا أو سياقا ربما يسوغ ذلك، أما أن يتخذ ذلك طريقا لإدانة حق والسير في طريق باطل، فإن ذلك يعبر في حقيقة الأمر عن مسيرة علماء السلطان الذين يسلكون كل مسالك يطرحها عليهم الشيطان.

وارتباط العالم بالأمة ليس ارتباطا مجانيا أو من طرف واحد يفرض العالم فيه رؤيته بصرف النظر عن محتواها أو مقصدها، فإن هذه العلاقة إنما تظل علاقة تعاقدية تعتبره الأمة ما اعتبر هو الأمة ووضعها نصب عينيه قبلة وبوصلة، أما أن تنحرف البوصلة فتتجه إلى السلطة وممالأتها ونفاق شخوصها، فإن ذلك يعد فسخا من العالم لهذا الميثاق الملزم؛ بحق الأمة على العالم وحق العالم على الأمة.

وفي هذا المقام نتذكر هذا الأمر الذي طالما اهتممنا به بالتفرقة بين سلطان العلماء وعلماء السلطان، إذ أن سلطان العلماء يُستمد من الأمة، أما علماء السلطان فيستمدون سندهم من السلطة، وهو مصطلح يطلق على مجموعة أشخاص لديهم قدر من العلم الشرعي ولكنهم يستعملونه ويوظفونه تسييسا بشكل أو بآخر، لخدمة مصالح أمير أو قائد أو زعيم أو سلطان بعينه، حتى وإن كان هذا لا يتماشى مع أخلاقيات العلم أو مع نصوصه المرجعية الملزمة، وغالبا ما يقومون بأدوار مختلفة معظمها تتعلق بلي أعناق نصوص لتناسب مصالح حكامهم ومسارات طغيانهم وطرائق فرعونيتهم. وكل هؤلاء يعدون من جملة علماء السوء الذين يصورون أنفسهم جلساء على أبواب الجنة، كما يقول العلامة ابن القيم: ".. يدعون الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم (فوجب التحذير منهم) أن لا تسمعوا (أو تستمعوا) منهم. فلو كان ما دعوا إليه كانوا أول المستجيبين له أدلّاء، وفي الحقيقة والجوهر قطاع طرق".. إنها المشكلة الأبدية التي تتعلق بالعلاقة بين العالم والسلطان.

ومن هؤلاء من حصّل علما نافعا ودعا الناس إليه وصبر على الأذى فيه في أول سيرته ومسيرته؛، ولكنه خالط الأمراء من أصحاب الجور والظلم والطغيان، فصار من علماء السوء الفجرة لعدم صبره على مغريات السلطان، وسار في طريق التزلف له ونافقه على حساب العلم والشرع معا؛ فشراه السلطان الطاغية وقبل أن يبيع نفسه للحاكم بثمن بخس. وقال الإمام ابن الجوزي في كتابه "تلبيس إبليس": "ومن تلبيس إبليس على الفقهاء مخالطتهم للأمراء والسلاطين ومداهنتهم، وترك الإنكار عليهم مع القدرة على ذلك، وربما رخّصوا لهم في ما لا رخصة لهم فيه لينالوا من دنياهم عرضا، فيقع في ذلك الفساد لثلاثة أوجه، الأول الأمير يقول لولا أني على صواب لأنكر عليّ الفقيه، وكيف لا أكون مصيبا وهو يأكل من مالي، أما الثاني فإن العامة تقول لا بأس بهذا الأمير ولا بماله ولا بأفعاله، فإن فلان الفقيه لا يبرح عنده، أما الثالث (والأخطر فيتعلق) بالفقيه ذاته فإنه يفسد دينه بذلك. وفي جملة الدخول على السلاطين خطر عظيم ولكنه قد يتحول إلى مداهنة وترك إنكار.. ولعله يفتن فيفعل في العلماء الربانين الناصحين فيصفهم بالخوارج لينفر الناس عنهم وتخلو له الساحة، فيفتي على حسب هواه وهوى سلطانه". يشكل هذا أخطر أثر لعلماء السلاطين وعلماء السوء، فيكتمون حقا ويمنعون بيانا فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة بسعيهم في غش الخلق وإفساد دينهم وتدينهم.

وقد أحسن الكواكبي بوصف هؤلاء في كتابه طبائع الاستبداد: "لا يخاف الحاكم المستبد من العلوم المختصة في ما بين الإنسان وربه، كعذاب القبر والإيمان بالملائكة والحشر والميعاد، باعتقاده بأنه لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة؛ ولم يعدم المستبد وسيلة في استخدام هؤلاء العلماء في تمكين أمره مقابل أن يضحك عليهم بشيء من التعظيم وسد أفواههم بلقيمات من فتات موائده". ولعمري فإنها فتنة علماء السوء في هذا الزمان حينما يستعين بهم الحكام الطغاة بهؤلاء العلماء البغاة على الأمة، ويضفون الشرعية على ظلمهم وتزيين أفعالهم والدفاع عنهم أمام شعوبهم، وتخديرهم بنصوص تدعو إلى الاستسلام والرضوخ لأمر الواقع باعتباره قدرا مقدورا وجبرا محتوما وعقوبة من الله لا يجوز السعي إلى رفعها؛ فعاش هؤلاء في كنف السلطان مقربين ومن الظلمة منتفعين بأعطياتهم مبررين لعظيم جرائمهم وامتداحهم للطغاة والمستبدين دون حياء من الله أو أوامر الدين؛ مستخفين بالخلق أجمعين.. ذلك الدور النفاقي الذي هو في حقيقة الأمر يمثل هؤلاء كقطاع طريق على جوهر الدين".

ومن المؤسف حقا أن علماء السوء هؤلاء من علماء السلطان، وقد وجدوا مخرجا حينما يُرمون بذلك الوصف أو ينبهُون بوقوعهم في فعل هؤلاء؛ إلا أن يقولوا إن مصطلح علماء السلطان ما هو إلا وصف اخترعه المتطرفون والتكفيريون. وهذا من الأمور الخطيرة التي يحاولون فيها التملص من حالهم ووصفهم كأئمة سلطان أو علماء استبداد. إذ يلبسون بإباحة ظلم الظالمين وفساد الفاسدين ويخلعون على الحاكم رغم جوره وطغيانه؛ من أوصاف القداسة وتشبيههم بالرسل من دون حياء أو وجل. فلماذا سقط هؤلاء من ذروة الإجلال والتقدير والسمو الاحترام إلى أسفل نقطة وسقطة بالامتهان والمهانة والإهانة والمتاجرة بالدين؟ ما بال هؤلاء يسهمون بتوطيد أركان الظالمين ويحولون طغاة السلاطين إلى أنصاف آلهة أو مرتبة نبي مرسل؟!

وهنا نتذكر الشيخ عائض القرني، صاحب كتاب "لا تحزن. فقد أدلى بدلوه في وصف "ابن سلمان" بما لا يستحق. أليس جديرا به وهو يمثل الأمة أن يتساءل عن "دم خاشقجي" وجثته، وأن يسأل عن أصدقائه من علماء الدين الذين صاروا معتقلين ووضُعوا تحت المحاكمة باتهامات ملفقة لا تمت بحال إلى أدنى درجات من يقين! ما باله يصمت عن كل حق يعلمه ويمدح بكل باطل تفوح منه عفن الإعانة على ظلم وتحريض على فساد؟ ما باله يتحدث عن حكمته وهو من الطغاة العتاة يفعل ما يريد؛ ويسمي ذلك طريقة "إسلام ابن سلمان"، فيدعي أنه على الطريق والطريقة على ذات هذه الطبعة من الدين، وما هو إلا دين سلطان يتحرك صوبه دائما عالم السلطان؟ وما باله يضع ابن سلمان في مواجهة أردوغان فيمدح الأول بأنه زعيم الأمة ويذم الثاني بأنه عدو للأمة؟ من الذي أعطاه أن يقدم تلك الأوصاف إلا أن يكون ذلك نفاقا من عالم سلطان؟!
التعليقات (0)

خبر عاجل