مقالات مختارة

لعنة الذكرى

مأمون فندي
1300x600
1300x600

هل من فائدة في استمرار إقامة طقوس التذكر الوطنية خصوصا في حالات الانكسار والهزائم، أم إن نسيان أحداث ذهبت بخيرها وشرها فيه نجاة للأمم من أعباء ماض لا تطيق حمله، أو ليست لديها القدرة أو الرغبة في حمله؟ والتساؤل هنا عن الأمم وذاكرتها الوطنية، إذ لا ينطبق حديثي عن النسيان على الأفراد ولا أتمنى أن يؤخذ في هذا المنحى إلا لماما.


أطرح هذا السؤال بمناسبة ذكرى يوم الخامس من يونيو (حزيران)، يوم هزيمة 1967؛ هزيمة ثلاثة جيوش عربية أمام الجيش الإسرائيلي، فهل التذكر والذكرى أمران مفيدان في الأحداث الوطنية الأليمة، أم إن النسيان هو الحل؟ بداية، لا يستطيع أحد الادعاء بأنه وجد حلا لسؤال: أيهما أفضل للبشرية، استمرار إقامة طقوس التذكر الوطنية، أم نسيان أحداث ذهبت بما لها وعليها؟ الذاكرة هنا هي مصدر خوف أحيانا ومصنع لهزات نفسية عميقة، تجعل الأمم في حالة أقرب إلى البارانويا والتلفت حولها في كل لحظة، حتى عندما لا يكون للالتفاف ضرورة، ولكن الذاكرة المفتوحة على التأمل وزوايا النظر المختلفة، ربما يكون لها فائدة في بناء الأوطان، خصوصا في عصور ما بعد التدوين. ومع ذلك، يصبح ضروريا أن نمحص التاريخ من الأرشيف ومن التراث الشفهي ومن زوايا مختلفة بما فيه نظرة المهمشين إلى هذا التاريخ.


النسيان وليس التذكر مثلا، هو الذي جعل من الأمريكيين أمة اليوم. فلو تذكروا باستمرار ما جرى في الحرب الأهلية بين الفيدراليين في الجنوب والاتحاديين في الشمال، لما قامت للأمة الأمريكية قائمة، ولما تسيدت أمريكا العالم لقرن من الزمان. إذا، أليس من الأفضل ألا نتذكر هزيمة 1967 وننسى كل محاولات الفهم والدروس المستفادة؟ إذ لا دروس استفدنا منها حتى اليوم، فجوهر ما جرى كان نتيجة مجتمع تسلطي وطريقة اتخاذ القرار فيه، ومجتمع غير جاد في قراءة ما حدث بشكل أقرب إلى الموضوعية، من خلال فتح الأرشيف والسماع لشهادات كل من شارك في الحرب، الجنود قبل الضباط، وبعد أكثر من نصف قرن لم نعرف ماذا جرى؟ أظن الإجابة واضحة لكل من عاش بين ظهرانينا، ولكنني لست بصدد هذا هنا، ولا أريد أن أتذكر، فالذكرى لعنة ونقمة، وقلما تكون نعمة في الأوطان المغلقة أو في الرؤوس المغلقة.


يوما ما كنت ضمن الفريق الذي يدعو إلى التذكر والتفكر في لحظات الانكسار الوطنية، وكنت أظن أن قراءة التاريخ تجنبنا تكراره حسب الكليشيهات التي كانت متداولة في صباي، لكنني اليوم غير متأكد. فمثل غيري دخلت بوابة المجتمع حين الصغر والآن أقترب من الخروج من البوابة الأخرى شيخا، ولم أعرف عن مجتمعات مغلقة إلا النزر اليسير. عرفت بلدانا أخرى كثيرة وعرفت تاريخها من خلال الأرشيف الوطني والقراءات النقدية في الوثائقيات والمتاحف المرتبة من أكثر من منظور، لكنني لم أعرف ماذا جرى في وطن أنتمي إليه. فإذا كان الأمر كذلك، فلماذا الإصرار على طقوس تضر ولا تنفع؟ لست من المغرمين بالذكريات المركبة تركيبا والمشوهة، التي تخدع ذاكرة الفرد وذاكرة الوطن، فالمشاركة في طقوس التكاذب أمر لا يليق بمن هم في أعمارنا.


كنت في السادسة من العمر عندما اندلعت الحرب، ومعرفتي بما جرى حينها لا تختلف عن معرفتي بها اليوم، وذلك لأن الحرب جرت بعيدا، وأخفى القوم عنا ما جرى ويخفونه الآن، فلماذا نحاول أن نتذكر ما كان مغشوشا وما زال؟ إن التذكر في حالتنا لن يفيد كثيرا، إلا إذا اقتربنا من الصدق في حقيقة ما جرى، فغير ذلك يسهم في تشويه ذاكرة الأشخاص والأوطان معا.

 

(الشرق الأوسط)

 
0
التعليقات (0)