قضايا وآراء

عن اللهو في الإسلام

عبد الرحمن أبو ذكري
1300x600
1300x600
يَظُنُّ أكثر ذراري المسلمين أن "اللهو" شأن لا دخل للإسلام فيه، أو أن "المسلم" بوسعه أن يلهو كما يلهو الكافِر، ويظل مُسلماً كما كان، ما دام هذا اللهو لا شرب للخمر فيه ولا أكل للخنزير، وما دامت جهات الإفتاء الرسمية لم تُصدِرُ فتوى بحُرمة لون ما من ألوان اللهو "البريء"، الذي "يُروِّح" عن الخلق، أو بعبارة أدق: يُخدرهم ويطغى على عقولهم، لينشغلوا عن الواقع؛ فيتيسَّر لمن شاء التلاعُب بهم! وإذا كان استسهال السير في ركاب المجموع مرجعه تشوه الفطرة، واضطراب إدراك بني جلدتنا لنفوسهم ولما تعبَّدهم الله به؛ فثمَّة أسباب "موضوعيَّة" لهذا الهوس المرَضي بالانشغال عن الواقع ومكابداته، لعلَّ أهمها على الإطلاق هو محاولة التغلُّب على ألم العجز، مع تمكُّن الجهل وتغلغُله بدرجة تُحجَب معها المنافذ الربانية.

وقد صار باب اللهو -بعد إخفاق ما سُمي بـ"الربيع العربي"- أخطر صوارِف الطاقة، التي لجأ إليها أكثر الجيل؛ استسلاماً للواقع، وهروباً من التفكير في إشكالاته، وعجزاً عن مواجهة النفس والمجتمع؛ لمحاولة تقويم المسار. هذه الهشاشة النفسيَّة والاجتماعيَّة التي تترك في النفس شعوراً مُمضّاً بالعجز، مُضافاً إليها الجهل بالواقع (ودع عنك الجهل بالإسلام نفسه!)، حتى في أوساط "العارفين به" و"الخبراء في شؤونه"؛ تُلجئ قطعاناً من البشر للهرب إلى لهوٍ "مُحرَّم" تحت وطأة هذا الألم.

وإذا كان الألم النفسي والجماعي -الدافع إلى هذا الهروب والمحفز على هذا الخدر- أمرا لا يُمكن علاجه في مقال، وإنما تصلُح فحسب الإشارة إليه، وإلى مفاتيح علاجه؛ فإن الجهل الذي يجعل الجماهير الغفيرة تتوهَّم صلاحها وهي مصروفة عن تكليفها، أمر يمكن رفعه -نسبيّاً- بتقرير بعض القواعد الإسلاميَّة الأوليَّة في مسألة اللهو؛ ليُطبقها كل مؤمن على ما يلجأ إليه من وسائل لتزجية الفراغ، بافتراض أن المسلم الواعي يَفرَغ أصلاً!

وبدهي أن هذا المقال الموجَز ليس موجَّهاً للعوام والدهماء، أتباع كل ناعِق؛ الذين لا يَعرِفون نواقض الوضوء ومُبطلاته، وذلك بوصفهم وقوداً لـ"عبادة كرة القدم" وحطباً لها، إذ عادَت مرَّة أخرى إلى صدارة وسائل اللهو، حتى في أوساط "المثقَّفين" وأشباههم، وبعض أصحاب اللحى المُدلَّاة كشباك العنكبوت، ونفر من المتشرعين والمشتَغلين بعلوم الإسلام. وإنما هو موجَّهٌ -حصراً- لمن تحقَّق بالمحكمات التي لا يسع المسلم جهلها، وبالتالي يمكنه أن يرتقي درجة إضافيَّة بحيازة قدرٍ من الأدوات المنهجية، يُعينه على الحكم على ما استجدَّ من أدوات اللهو ووسائل العيش، التي استوردناها من الغرب، وعجز المتفيقهون عن الاجتهاد في شأنها!

وإذا كان المفتاح العام والأهم للتغلُّب على الألم النفسي -الدافع للخدر الجماعي- هو العودة إلى الله، وإقام الصلاة، والإكثار من الذكر والصلاة على حضرة سيدنا النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في باقة متكاملة لتزكية النفس وشغلها بما ينفع من البر (نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلَتك بالباطِل)؛ فإن البديل الأوحد لهذه الحال من المكابدة الإيمانية هو هذا الخدر الجماعي بلهو "مُحرَّم"، مثل المشاهدة الجماعيَّة للمباريات الرياضية؛ التي لا تختلف في جوهرها عن الطقوس الجماعية لتعاطي المخدرات أو المسكرات، التي تَشيع في بعض النِحَل الوثنية، واشتُهِرَت في أوساط الهيبيز الأمريكي إبَّان الستينيات، وانتقلت منه إلى ثقافات شتى، حتى سار المثل المصري العامي بأن "الكيف مناولة، مش مقاولة"، وتعني أنه مشاركة جماعيَّة وليس فعلاً فرديّاً أنانيّاً؛ فإن تغييب الوعي طقس جماعي ويحسُن به أن يكون كذلك؛ لأن الاجتماع عليه يُلهي عن تأزُّم النفس ويشغل عن حقيقة مُعاناتها.

وثمَّة نموذج ناضح كاشف عن هذه البيئة؛ يتجلى في رواية نجيب محفوظ العظيمة: "ثرثرة فوق النيل"، التي كُتِبَت قبل هزيمة عام 1967م، في استشراف بصير.

هذا المفتاح الرباني من المكابدة النافية للألم، ورغم سهولة وصفه وتعيينه ووصف مآلاته؛ فإن تطبيقه شاق للغاية، إذ هو جوهر التكليف الإنساني وحقيقته: مجاهدة النفس ومخالفة هواها. لهذا؛ فربما كان العلم ببعض القواعد الأوليَّة المفيدة في فهم الواقع، وتصنيف الأفعال الشائعة فيه، وغربلتها بمعيار الإسلام؛ طريقاً أوليّاً للانصراف عن هذه الأفعال تورُّعاً واستنقاذاً للنفس. فإذا عجزت عن المكابدة، والالتزام ببعض التزكية؛ فلا أقل من محاولة الإقلاع عن الصوارِف المؤذية إدراكاً لحُرمتها، ولو لم تَصدُر بذلك فتوى!

ولعلَّ أول هذه القواعِد وأشدها بداهة وعموماً؛ أنه لا حُجيَّة لفعل بشري (إلا صاحب الشرع صلى الله عليه وآله وسلم، ومن صحَّ له الأخذ عنه)، خصوصاً المحدَثين المهزومين، ودع عنك أن يكون البشري كافراً؛ فإن تقليدهم محرَّم بنصوص ثابتة، ومخالفتهم في كل شيء مأمور بها صراحة. والحُجيَّة التي تمتنِعُ على الأعيان، تمتد كذلك إلى الشعوب والجماعات والأمم؛ فلم يذكر القرآن الأغلبية أو الأكثرية إلا مقرونة بالسلب والذم. وقد كان نهي حضرة النبي عن أن يكون المسلم إمَّعة؛ توكيداً على المعاني القرآنية الثابِتة.

وعليه؛ فإن ما "يُسعِد" العامَّة، و"يُبهج" الدهماء، و"يُرضي" الشعب؛ لا قيمة له على الإطلاق -ولا أهميَّة ولا حُجيَّة- لا في ميزان الدنيا، ولا في ميزان اﻵخرة. إن "نفع الناس" المنصوص عليه في القرآن له قواعد تربطهم بتكليفهم، ولا علاقة لها بأهوائهم ولذائذهم. ومن ثم فلا قيمة مُطلقاً للانسياق وراء هذا اللغو، إلا الرغبة "الديمقراطية" في إشاعة الفواحش لإلهاء الخلق، والنيَّة المبيَّتة للتلاعُب بالجماهير وإساءة استغلالها، بعد تغييب وعيها ومخادعتها بمعسول الكلام، وأكثر الخلق عقله في أذنيه!

هذا الرباط الذي يوثق "نفع الناس" بالأمر الإلهي، ينقلنا إلى القاعدة الثانية وهي أخص، وإن تجلَّى لها شق عام. وهي أنه إن لم يكن من اللهو بُد؛ فيجب ألا يكون صارفاً عن الوظيفة الشرعيَّة: الوظيفة الأصلية والأساسية والحصريَّة التي خُلق الإنسان ليؤديها في هذا الكون (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)؛ إذ يتعيَّن أن يدور كون المؤمن كله حولها، ويتفرَّع عنها، ثم يصب فيها ثانية.

وسينقلنا هذا المسار، الملتزم بحدود التكليف، وبمعالم الوظيفة البشريَّة في الوجود؛ إلى القاعدة الثالثة والأخيرة: أن كل شيء في الإسلام غائي نافع؛ أي يجب أن يُبقيك في مدار الغاية الأولى والوحيدة من الخلق، ويُعزز وجودك فيها، وإلا صار صارفاً عنها؛ إذ لا يوجد وسط بين الإسلام والشرك، أو بين السعي لتلبية متطلبات التكليف الإلهي للإنسان والنكول عنها؛ فأنت إما ساعٍ أو ناكل، وإن هذه الغاية مسيرة لا نهاية لها، ودرب صاعد لا يتوقَّف إلا بالموت، بل ينتكس بالتواني والتثاقُل، لذا؛ يجب السعي فيه أبداً. ومعنى أن اللهو عندنا غائي؛ أن كل شيء في حياة المسلم يجب أن يُعزز دوره كمسلم، إذ لا يوجد انفصال بين اللذة والغاية في الإسلام، ولا بين الجمال والوظيفة، بل وما من فصلٍ بين أي شيء في الوجود وبين إيمانك؛ فإما أن يُعزِّز الفعل إيمانك أو يفصم عُراه. وكل توهُّم للانفصال أو التوازي، بين أفعالك وإيمانك؛ يؤدي لا محالة لفصم عُري الدين، شئت أم أبيت.

واللهو الغائي هذا معلَّقٌ بنيَّة الفاعِل كما أنه مُعلَّق بوجهة الفعل ومآله. بل لا نُغالي إن قررنا أن النيَّة التي ينعقِد عليها قلبك بنت وجهتك، كما أن وجهتك حصاد نيَّتك؛ فالعلاقة بينهما دائريَّة، وهما معاً سبب ونتيجة بالوقت نفسه. وأنت مثلاً حين تقرأ رواية لتتعرَّف إلى شعوب وأمم أخرى، أو لتُحسِّن لغتك، أو لتزيد عمق إدراكك للطبيعة البشرية؛ فهذا لهو غائي مطلوب ومرغوب، مُعبِّرٌ عن نيتك، وهي نيَّة مُرتبطة بالوجهة، وستحكم -آخر المطاف- طريقة اختيارك لما تقرأ. أما مُشاهدة الرياضة وألعابها؛ فهذه بلاهة لا قيمة لها ولا وزن، بل هي في حقيقتها صد عن سبيل الله بصرف العباد عن النافع من اللهو، وتضييع لأثمن النعم -الوقت- فيما لا يُفيد بحال، خصوصاً إذا كنت لم تمارس الرياضة من قبل أبداً، ولا اعتنيت بجسمك عناية مما يُوجبه عليك الشرع. فكأنك استبدَلت فرض ممارسة الرياضة بإثم لُبه تربُّح "رياضي" من وراء مشاهدتك إياه، وهو يتظاهر بـ"أداء" فرض عنايته بجسمه.. إن كان يؤديه فعلاً!!

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry

التعليقات (0)