قضايا وآراء

"ميثاق التمويل العالمي الجديد" وتأثيراته المتوقعة على تونس

عادل بن عبد الله
تركز أوروبا على قضية وقف الهجرة عبر البحر- الأناضول
تركز أوروبا على قضية وقف الهجرة عبر البحر- الأناضول
انعقدت في باريس يومي 22 و23 من هذا الشهر "قمة باريس من أجل عقد مالي جديد" (ميثاق التمويل العالمي الجديد)، في ظل حضور نحو 300 شخصية من بينها رؤساء دول وحكومات ومنظمات دولية ومدنية وممثلون عن القطاع الخاص. وقد صرحت وزيرة الخارجية الفرنسية بأن القمة "ترمي إلى عقد مالي جديد مع الشمال والجنوب"، خاصةً وصول الدول الضعيفة إلى التمويل الذي تحتاج إليه لمعالجة الأزمات الحالية والمستقبلية.

وتتمثل أهداف القمة في مساعدة البلدان التي تواجه صعوبات مالية قصيرة الأجل (البلدان الأكثر مديونية والمهددة بالتخلف عن سداد ديونها)، وتعزيز تنمية القطاع الخاص في البلدان منخفضة الدخل، وتشجيع الاستثمار في البنية التحتية الخضراء للانتقال الطاقي في البلدان الناشئة والنامية، وتعبئة التمويل المبتكر لمواجهة التغيرات المناخية. وقد يكون من مخرجات القمة فرض ضريبة دولية على انبعاثات الكربون من صناعة الشحن المعفية حاليا من الضرائب، وكذلك إعادة تنظيم المؤسسات المهيمنة على النظام المالي العالمي (مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) منذ إعلان اتفاقية بريتون وودز في الولايات المتحدة (سنة 1944).

نلاحظ وجود الرئيسين التونسي والمصري، وغياب الجزائر والمغرب وليبيا عن هذه القمة. وبصرف النظر عن الأسباب الحقيقية لدعوة 15 رئيسا أفريقيا (مثل التمددين الصيني والروسي والنفوذ التركي المتصاعد في المنطقة)، وبصرف النظر عن الرسائل التي تبعث بها دعوة الصين إلى حضور مؤتمر سيناقش بناء نظام مالي عالمي جديد، لا شك عندنا في أن حضور مصر وتونس يرجع أساسا إلى سعي باريس وباقي دول الاتحاد الأوروبي إلى نجدة النظامين الحاكمَين فيهما قبل بلوغ مرحلة العجز عن سداد الديون وإعلان الإفلاس

وإذا ما نظرنا في قائمة الزعماء التي تتداولها وسائل الإعلام في شأن الزعماء الحاضرين من شمال أفريقيا بل من أفريقيا كلها، فإننا سنلاحظ وجود الرئيسين التونسي والمصري، وغياب الجزائر والمغرب وليبيا عن هذه القمة. وبصرف النظر عن الأسباب الحقيقية لدعوة 15 رئيسا أفريقيا (مثل التمددين الصيني والروسي والنفوذ التركي المتصاعد في المنطقة)، وبصرف النظر عن الرسائل التي تبعث بها دعوة الصين إلى حضور مؤتمر سيناقش بناء نظام مالي عالمي جديد، لا شك عندنا في أن حضور مصر وتونس يرجع أساسا إلى سعي باريس وباقي دول الاتحاد الأوروبي إلى نجدة النظامين الحاكمَين فيهما قبل بلوغ مرحلة العجز عن سداد الديون وإعلان الإفلاس، وهو خطر واقعي لا يطارد باقي دول الشمال الأفريقي كالجزائر وليبيا والمغرب، فضلا عن برود العلاقة بين باريس وبين هذه الدول لأسباب جيوسياسية مختلفة.

رغم أن الأهداف المعلنة للقمة (وهي أربعة أهداف) لا تذكر مسألة الهجرة غير الشرعية وما تسببه من مشاكل لدول أوروبا، خاصة منها تلك الواقعة على ضفاف المتوسط مثل فرنسا وإيطاليا، من المؤكد أن دعوة تونس مثلا لا يمكن أن تكون لمناقشة إصلاح النظام المالي العالمي أو المساهمة في تعبئة الموارد اللازمة لمقاومة التغيرات المناخية.. الخ. فتونس لا تحضر في القمة إلا باعتبارها -من منظور فرنسي- "ملفّا" من الملفات التي ينبغي التعاطي معها لضمان الاستقرار في جنوب المتوسط. ولمّا كنا نعلم أن "الاستقرار" من منظور الاستعمار الجديد (الاستعمار غير المباشر) مقدّم على "الديمقراطية" -بل متعارض معها أحيانا- فإننا نفهم لماذا تدعم فرنسا وكل دول الاتحاد الأوروبي الأنظمة "المستقرة" بصرف النظر عن واقع الديمقراطية أو "الحريات الكونية" فيها.

كما أن من مصلحة فرنسا -وكل دول المركزية الغربية المتعالية- أن يكون محاورها في الدول العربية محاورا "ضعيفا" وفاقدا للشرعية والمشروعية بصورة كبيرة. فهذا الواقع يجعل الصداقة والتعاون المشترك والاحترام المتبادل والسيادة الوطنية.. الخ مجرد مجازات ليس تحتها إلا الإملاءات والعلاقات اللا متكافئة التي تحمي مصالح الدول الغربية بعيدا عن المؤسسات الرقابية وبعيدا عن حرية الاحتجاج ضد خيارات السلطة.

من مصلحة فرنسا -وكل دول المركزية الغربية المتعالية- أن يكون محاورها في الدول العربية محاورا "ضعيفا" وفاقدا للشرعية والمشروعية بصورة كبيرة. فهذا الواقع يجعل الصداقة والتعاون المشترك والاحترام المتبادل والسيادة الوطنية.. الخ مجرد مجازات ليس تحتها إلا الإملاءات والعلاقات اللا متكافئة التي تحمي مصالح الدول الغربية بعيدا عن المؤسسات الرقابية وبعيدا عن حرية الاحتجاج ضد خيارات السلطة

في حوار تلفزي مثير للجدل، أكّد النائب الفرنسي وزعيم فرنسا الأبية جون لوك ميلونشون حقيقةً تسعى فرنسا وإعلام الموالاة في تونس إلى حجبها والدفع بها إلى دائرة المقموع والمسكوت عنه. فقد ذكر السيد ميلونشون (وهو يساري معروف بانحيازه للمهاجرين ورفضه للمنطق الاستعماري الجديد) جزءا من الأجندة الخفية لمؤتمر باريس فيما يخص تونس وبعض الدول الأفريقية، وهو جزء مرتبط بقضية الهجرة. فرغم إصرار الخطاب الرسمي التونسي على أن البلاد لن تكون حارسا لحدود غيرها ولن تتحول إلى مركز لتوطين الأفارقة المطرودين من أوروبا، فإن ميلونشون يرى في المؤتمر فرصة لفرض تلك الإملاءات على تونس، إذ يقول: "سننشئ معسكرات (للمطرودين من أوروبا) في البلدان الواقعة على الجانب الآخر من البحر الأبيض المتوسط، ويبدأ الأمر بمن لا يستطيعون قول "لا"، مثل تونس التي يُمسكها صندوق النقد الدولي من عنقها بسبب وضعها الاقتصادي".

وبصرف النظر عن مدى صدق ميلونشون في استشرافه لمخرجات قمة باريس المرتبطة بتونس، فإن ما ينبغي أن يثير التساؤل هو أسباب الدعم الكبير الذي تقدمه الحكومتان الفرنسية (وهي حكومة لائكية متطرفة ومعادية للإسلام السياسي وللاختلاف الثقافي وحقوق الأقلية المسلمة داخل فرنسا) والإيطالية (وهي حكومة فاشية جديدة لا تخفي زعيمتها انبهارها بموسيليني ولا آراءها القومية الشوفينية المتطرفة). كما أن ما ينبغي أن يشغل التونسي -بعيدا عن الدمغجة الإعلامية والتزييف الممنهج للوعي العام، وبعيدا كذلك عن مزايدات المعارضة- هو التساؤل عن الأوراق التي تملكها بلادنا للتفاوض في قمة باريس أو خارجها.

مهما كان موقفنا من النظام التونسي الحالي وشعارات السيادة والاستقلالية والوطنية، فإن هذا النظام لا يمثّل إلا حلقة في سلسلة سلطوية ذات جوهر واحد، أو لنقل إنه لحظة من لحظات الاشتغال الزائف للأساطير المؤسسة للدولة- الأمة. فماذا قدمت السلطات الحاكمة قبل 25 تموز/ يوليو لتحقيق شروط الاستقلالية والسيادة؟ وماذا فعلت تلك السلطات لبناء مشروع وطني جامع؟ وما هو البديل الذي تقدمه المعارضة الحالية في المستوى الاقتصادي (سواء في مستوى منوال التنمية الداخلي أو في مستوى العلاقة بالنظام المالي العالمي)، والذي يمكن أن يكون خارطة طريق لتحقيق شروط الاستقلالية والسيادة بعيدا عن السياسات/ الخيارات اللا وطنية الكبرى التي حكمت البلاد منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا؟

إن الاعتراف بمسؤولية الفاعلين الجماعيين قبل 25 تموز/ يوليو 2021 على جزء كبير من الوضع الحالي لا يعني التماهي مع سردية النظام. فالرئيس التونسي يتحمل هو أيضا مسؤولية الوضع الحالي منذ وصوله إلى قصر قرطاج سنة 2019، ويتحمل تلك المسؤولية بصورة أكبر منذ إعلان إجراءاته يوم 25 تموز/ يوليو 2021 وهيمنته المطلقة على السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، بل التأسيسية (إعلان دستور جديد). ولكنّ مسؤولية الرئيس التونسي لا تعني أن المعارضة غير مسؤولة عن الوضع الحالي. ونحن لا نقصد هنا مسؤولية المعارضة عما حصل قبل 25 تموز/ يوليو فقط، بل نقصد أيضا مسؤوليتها عما وقع بعده. فقوة النظام الحالي لا تأتي من شرعيته ولا مشروعيته بقدر ما تأتي من ضعف المعارضة وعجزها عن تقديم أي بديل ذي مقبولية/ مصداقية شعبية.

مسؤولية الرئيس التونسي لا تعني أن المعارضة غير مسؤولة عن الوضع الحالي. ونحن لا نقصد هنا مسؤولية المعارضة عما حصل قبل 25 تموز/ يوليو فقط، بل نقصد أيضا مسؤوليتها عما وقع بعده. فقوة النظام الحالي لا تأتي من شرعيته ولا مشروعيته بقدر ما تأتي من ضعف المعارضة وعجزها عن تقديم أي بديل ذي مقبولية/ مصداقية شعبية

ختاما، لو افترضنا جدلا -أو عبثا- عودة تونس إلى الديمقراطية التمثيلية، وافترضنا استعادة الأجسام الوسيطة والمؤسسات الدستورية وغير الدستورية لسلطاتها التقليدية، هل يعني ذلك أن المعارضة (أو الأجسام الوسيطة كلها) تمتلك مشروعا اقتصاديا للخروج من دائرة التداين المؤذنة بإفلاس الدولة؟ هل يعني ذلك قدرة المعارضة على "خلق الثروة" وتحقيق ما عجزت عنه خلال عشرية كاملة؟ هل يعني ذلك أن المعارضة تستطيع تحقيق مقومات السيادة والاستقلالية والخروج عن دور "الوكيل" للقوى المالية العالمية وممثليها المحليين؟ هل إن "تقوية الجبهة الداخلية" بالديمقراطية تكفي لتغيير العلاقة اللا متكافئة بالغرب؟

إنها أسئلة تستحق التدبر، لأن الإجابة عنها قد تُظهر أن الصراع السياسي الحالي ليس إلا صراعا بين سرديتين تتنافسان على إدارة التخلف والتبعية في ظل شروط سياسية مختلفة، لكنها رغم اختلافها/ تناقضها الظاهر لا تستطيع أن تغير من الواقع شيئا.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)