قضايا وآراء

"العائلة الديمقراطية التونسية" وطوفان الأقصى

عادل بن عبد الله
تساؤلات عن موقف "العائلة الديمقراطية" في تونس- عربي21
تساؤلات عن موقف "العائلة الديمقراطية" في تونس- عربي21
يعلم المُطّلعون على الشأن التونسي أن وراء التقسيمات التقليدية للفاعلين السياسيين (يمين/ وسط/ يسار أو قوميين/ شيوعيين/ إسلاميين.. إلخ) يوجد تقسيم أعمق عملت "القوى الديمقراطية" -أو لنقل عمل ورثة المخلوع وحلفاؤهم في اليسار الوظيفي- على ترسيخه في تونس قبل الثورة وبعدها بدعم ممنهج من الآلة الدعائية الخاضعة للمنظومة القديمة إيديولوجيا وماليا.

فالحياة السياسية والنقابية والجمعياتية كانت وما زالت تقوم على تقابل جوهري بين "الديمقراطيين" و"الإسلاميين" بمختلف تشكيلاتهم الحزبية ومدارسهم الفكرية، مهما تباينت مواقف هؤلاء من "الديمقراطية" ذاتها. وبحكم تحكّمهم في المجال العام وسيطرتهم على أجهزة الدولة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا، نجح "الديمقراطيون" التونسيون بعد الثورة في تنصيب أنفسهم خصما و"حكما" في الصراع السياسي الذي أوجده الانكسار البنيوي للمنظومة "الاستبدادية"، والذي أسفر عن دخول حركة النهضة فاعلا مركزيا في الحقل السياسي القانوني ومنافسا قويا في تمثيل الإرادة الشعبية وإدارة الشأن العام.

ليس هدفنا في هذا المقال أن نبيّن تهافت مقولة "العائلة الديمقراطية" من جهة تاريخها وأدبياتها ومواقفها التي لا تشهد على ديمقراطيتها -قبل الثورة وبعدها- إلا بالقدر الذي يشهد به طوفان الأقصى على إنسانية الغرب وأخلاقيته وعُلوية القانون الدولي أو حرمة دماء العرب والمسلمين عنده، ولكنّ هدفنا هو البحث -في بياناتها الرسمية- عن تأثيرات "طوفان الأقصى" في سردية تلك العائلة من جهة علاقتها بشركائها في الوطن (خاصة من تُسميهم "إخوان تونس")، وكذلك علاقتها بحلفائها الاستراتيجيين في محور الثورات المضادة والتطبيع العربي بقيادة الإمارات والسعودية وعلاقتها بالغرب وسردياته الإنسانوية والتحديثية والحقوقية التي أثبتت الأحداث زيفها، خاصة لدى "الصديق الفرنسي" الذي كان وما زال مرجعَ المعنى وقبلته عند أغلب النخب التونسية بمختلف مرجعياتها الأيديولوجية.

قد يعترض علينا معترضٌ بأن طرح الموضوع في هذا السياق شبه "الإجماعي" على نصرة المقاومة هو ضرب لوحدة الصف أو إضعاف لمحور "المقاومة". فما فائدة أن نذكر مثلا بموقف أغلب "الديمقراطيين" من حركات الإسلام السياسي "الإخواني" بما فيها حماس في إطار صراعهم ضد حركة النهضة؟ وماذا سنربح عندما نذكر بموقف "الديمقراطيين" من الانقلاب العسكري المصري واعتباره "ثورة تصحيحية"؛ رغم محاكمته "الإخوان" بتهمة التخابر مع حركة حماس؟ وما هي فائدة التذكير بعلاقة أغلب "الديمقراطيين" بفرنسا وبمحور الثورات المضادة وعرّابي صفقة القرن من جهة التمويل والدعم السياسي؟

إنها أسئلة مشروعة في الظاهر، ولكنها أسئلة مغالطية لأنها تفترض وجود "طفرة" تبرر تعديل المواقف بصورة "إعجازية" وتمنعنا من التشكيك فيها، والحال أن منطوق تلك المواقف وروحها ما زالا في موضعهما الأصلي. فالمواقف المناصرة للمقاومة "الإسلامية" لا تعكس أية مراجعات جذرية لعلاقة "الديمقراطيين" بالإسلام السياسي أو بفرنسا أو بمحور الثورات المضادة، أي لا تعكس أي مراجعات للعقل السياسي الذي كان وراء المواقف الواردة في الاعتراض أعلاه.

رغم أن البحث عن مراجعات صريحة طي المواقف الفردية أو البيانات الجماعية هو ضرب من المزايدة التي ننزّه أنفسنا عنها، فإن إمعان النظر في مواقف القوى الديمقراطية التونسية (بأحزابها ونقاباتها ومجتمعها المدني) قد يوقفنا على وجود توجّه نحو المراجعة أو غياب ذلك التوجه. لو بحثنا في بيانات "المساندة" فإننا نكاد لا نعثر على تسمية لحركة حماس أو الجهاد الإسلامي، وسنجد "تعويما" للمقاومة في مفردات عامة ومحاولة لإدخال "بقية الفصائل الفلسطينية" في خط المقاومة الفلسطينية، ولن نجد أية إدانة لنظام التنسيق الأمني الفلسطيني بقيادة محمود عباس. فإذا كان من مصلحة الكيان الصهيوني اختزال "المقاومة" (أو ما يسميه "إرهابا") في حركة حماس لمزيد عزلها دوليا وعربيا، فإن من مصلحة "القوى الديمقراطية" أن تغيّب هذه الحركة في الذكر لأنها تدرك جيدا حجم الإحراجات التي ستقع فيها والخسائر التي ستتكبّدها داخليا إذا ما طابق الوعي الجمعي في تونس بين "المقاومة" وبين "حماس الإخوانية".

لتجنّب إحراج الحلفاء في محور الثورات المضادة ومشروع التطبيع، فإن بيانات القوى الديمقراطية تتحدث عن "مكوّنات النظام الرسمي العربي" دون أي تمييز أو تفصيل، حتى يخيَّل لقارئ تلك البيانات أن الموقف التونسي أو الليبي أو القطري أو الكويتي مثلا هو الموقف نفسه الذي تبنّته الإمارات أو السعودية أو مصر أو الأردن أو البحرين أو المغرب وكل الدول المطبعة أو السائرة في طريق التطبيع.

ونحن نتفهم "حرج" من يسمون أنفسهم بـ"القوى الديمقراطية" لأن الجهر بـ"عمالة" محور التطبيع أو تصهينه سيفتح أبواب جهنم على "الديمقراطيين" التونسيين أنفسهم. أليس هؤلاء هم من وصفوا الربيع العربي بـ"الربيع العبري" ودعا الكثير منهم إلى تصنيف "حماس" حركة إرهابية وحرّضوا أبواقهم الإعلامية على ربطها بملف الإرهاب في تونس؟ أليس هؤلاء هم من صفقوا للانقلاب العسكري المصري ولحفتر ولكل المرتبطين استراتيجيا بمحور "التطبيع"؟ أليس هؤلاء هم من جعلوا كلمة "إخواني" (خوانجي) كلمة سيئة السمعة ومرادفة للا وطنية وللعمالة للإمبريالية والإرهاب؟ إنهم هم بلا شك، فكيف يستطيعون تبرير تحالفهم مع محور الثورات المضادة وهو عينه محور التطبيع الذي يتداعون الآن لمحاربته ونصرة أعدائه من "إخوان" حماس؟

إن التخفف من "حماس" أو المقاومة الإسلامية بصورة عامة في ملفوظات البيانات يعكس مقدار الحرج الذي وضع فيه طوفان الأقصى "القوى الديمقراطية" التونسية، بل العربية بصفة عامة. وآية ذلك البيان "العربي" المشترك الذي أصدرته بعض الأحزاب "الديمقراطية" عقب طوفان الأقصى. فكل ما ذكرناه أعلاه في شأن "القوى الديمقراطية التونسية" يصح بصورة شبه كاملة على "القوى الديمقراطية العربية" الممضية على بيان مساندة للمقاومة (16 حزبا من تونس والمغرب وموريتانيا والكويت وفلسطين والأردن والسودان ومصر). فكل هذه الأحزاب لم تذكر حماس ولا الجهاد الإسلامي بالاسم، ولم تنتقد الأنظمة المطبّعة (ما عدا إحالة يتيمة إلى النظام المغربي)، واكتفت بإدانة عامة لصمت الأنظمة العربية وتواطئها (دون أدنى إشارة لنظام عباس أو الإمارات أو السعودية أو مصر أو الأردن ودور هذه الأنظمة في خدمة الكيان الصهيوني وتبييض أجنداته في الإقليم).

قد يكون من اللا مفكر فيه عند أغلب القراء اعتبار موقف "القوى الديمقراطية" التونسية من "طوفان الأقصى" مجرد موقف انتهازي لا علاقة له بالمبدئية. وقد يجد القارئ ما يبرر به ذلك من مثل مناصرة هؤلاء للمقاومة قبل الثورة، أي في زمن التطبيع الجزئي بين المنظومة القديمة والكيان الصهيوني. ونحن لا ننكر ذلك، ولكننا نذكّر فقط بأنّ الأطروحات "الديمقراطية" التي تعتبر حماس أو الجهاد حركات تحرير وطني، لا تتردد في إعلان رفضها للمشروع المجتمعي الذي تُبشر به الفصائل الإسلامية، وتضع أنفسنا في مواجهة هذه القوى بعد انتهاء مهمة التحرير. إنه صراع مؤجل يشتغل بآلية الإسقاط، فحماس هي حركة "النهضة الإخوانية" التي لا يمكن محاربتها الآن بحكم السياق الفلسطيني، ولذلك فإن الصراع معها مؤجل ولكنه حتمي.

يؤمن كاتب المقال بأن البراديغم السياسي (النموذج التفسيري) الذي يتحكم في بناء كل السرديات "الديمقراطية" التونسية هو ما يحدد المواقف الحالية سواء من جهة ملفوظاتها، أو من جهة ما يسكنها من مهمّش ومقموع أو مسكوت عنه. فاعتبار الإسلام السياسي (خاصة الإخواني) خصما لا شريكا في مشروع التحرير الوطني أو القومي هو أمر مؤثر في هندسة التحالفات الإقليمية والدولية، وهو ما يضع "القوى الديمقراطية" في حرج كبير عند كتابة بياناتها المساندة للمقاومة أو المدينة لمحور التطبيع.

فكيف يستطيع "الديمقراطيون" إدانة الإمارات أو السعودية أو مصر أو فرنسا بصورة صريحة وهم حلفاء تلك القوى في "محور الثورات المضادة"؟ وكيف يستطيع أولئك "الديمقراطيون" الاعتراف بأن حماس "الإخوانية" حركة تحرير وطني وهم يعتبرن الإخوان في الدول العربية عملاء للإمبريالية والصهيونية ويعتبرون خصومهم "وطنيين" وأصحاب "ثورات تصحيحية"؟ بل كيف يستطيعون التفكير في تغيير مواقفهم من الإسلام السياسي التونسي وغيره وهم يُفكرون بمرجعية لائكية فرنسية لا مكان فيها للإسلام حتى في المجال الخاص؟

إنها أسئلة قد يكون على أدعياء "الديمقراطية" في تونس وغيرها أن يفكروا فيها، أما "إخوان تونس" فقد يكون عليهم أن يعيدوا التفكير -بعد انتهاء الأزمة السياسية الحالية- في منطق "التوافق" مع منظومة الاستعمار الداخلي التي ليست إلا وكيلا للمصالح المادية والرمزية للقوى الصهيونية (خاصة متصهينة فرنسا والاتحاد الأوروبي) في تونس.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)