الذاكرة السياسية

بيان نوفمبر ودروس معارك التحرير الوطني في الجزائر.. تاريخ للاعتبار (1 من 2)

في تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى دروس للمعتبرين وأن الذكرى قد تنفع حتى البغاة  والعصاة والطغاة فضلا عن المؤمنين.. (واج)
في تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى دروس للمعتبرين وأن الذكرى قد تنفع حتى البغاة والعصاة والطغاة فضلا عن المؤمنين.. (واج)
إذا كان الزمان غير الزمان فالإنسان هو الإنسان وفريضة الدفاع عن النفس والأرض والعرض لا تسقط عنه إلى  يوم  الدين. وسنة التدافع بين الناس والحضارات والقيم تجعل دوام الحال من المحال ولو دامت  للأولين لما دانت للآخرين!؟ وأن الكيل بمكيالين في حقوق الإنسان من القائمين على مجلس الأمن المخيف هو سبب كل الخلل في المعايير والموازين وهذا الدمار المبين..

وفي تاريخ الحروب والثورات التحريرية العظمى دروس للمعتبرين وأن الذكرى قد تنفع حتى البغاة  والعصاة والطغاة فضلا عن المؤمنين!!

وبمناسبة إحياء الجزائر للذكرى  التاسعة والستين لثورة القرن العشرين بدون منازع في الفاتح  من  تشرين  الثاني (نوفمبر 1954) وربطا بما تصادفه إحياء هذه الذكرى من أحداث جسام جارية  في الساحة والساعة  الدولية عرفنا إرهاصات بدايتها ولا نعرف نهايتها بعد.. نود أن نذكر المعتبرين بدروس التاريخ الحي الذي عشناه في هذه الثورة لحما ودما وجهادا و"استشهادا" لما يزيد عن السبع سنين مماثلة  لما يراه العالم  على  المباشر يوميا من أهوال الحرب غير المتكافئة بين الحق والباطل في معركة الأحزاب الثانية في فلسطين الحالية والتاريخ بيننا يبقى دائما الشاهد الأمين على المحسنين والمسيئين والظلمة والمجرمين وأصحاب الحق المغتصب الذي لا يسترجع إلا غلابا وافتكاكا باليمين وتلك هي سنة الله في الأولين  والآخرين.

تأتي ذكرى هذا العام مشحونة بكثير من الآلام المبرحة والآمال العريضة في الوقت ذاته وهي تصادف قمة الثورة الجهادية الوريثة الشرعية لها في معركة الأقصى بشقيقتها الصغرى فلسطين.

لقد عايشت تلك  الثورة الجهادية كابن شهيد ومجاهد في صفوف جيش تحريرها حتى توقيف القتال وتقرير المصير والاستقلال وكنت شاهدا على كثير من مجرياتها المفرحة والمقرحة بورودها وأشواكها؛ بأفراحها بانتصاراتها وأقراحها بالإحباطات والتقلبات والخيانات التي اعترضت مسيرتها الطولية إلى النصر المبين!

ومن مميزاتها أن يوم انتصارها وتحقيق الاستقلال سنة 1962 كان هو يوم ذكرى الغزو والاحتلال سنة 1830 مما يعني أن كل استقلال قد يحمل بذور احتلال كما أن كل احتلال يحمل بذور استقلال إذا بقي عزم الرجال كما كان واقع  الحال.

إنني إذ أعيد نشر بعض فصول التأريخ للثورة الجزائرية العظيمة، في هذا الوقت بالذات، فإنني أدرك تمام الإدراك الصلة الوثيقة بينها وبين معارك التحرير الذي يخوضها الفلسطينيون في مواجهة أعتى احتلال وأشده شراسة، لا سيما وأنه احتلال يلتف حوله قادة العالم الغربي في إحياء لخلافات تاريخية كنا نعتقد أن ثورات الحرية والكرامة والسيادة والاستقلال التي عرفتها مختلف أنحاء المعمورة قد تجاوزتها، لكن اتحاد الغرب النافذ في معاداة الحقوق الفلسطينية لا يثير القلق فقط حول مصير العالم، وإنما أيضا يعيد السؤال عما إذا كان للمعارك الحضارية الكبرى التي سعت لتوحيد البشرية على أساس العدل والمساواة تتراجع..

وما يفيد في هذه الصفحات من ثزرة الجزائر الفلسطينيين كثير، ولعل أوله ما سأسرده في حلقتين عن بيان نوفمبر وانطلاق ثورة التحرير بكل ما فيها محطات عسكرية وسياسية وثقافية..

بيان الثورة الجزائرية وخطوطه العامة:

كانت إذاعة صوت العرب من القاهرة أول من بث بيان الثورة الجزائرية على أمواجها إلى العالم الخارجي في اليوم الموعود، وهو يتضَمّن في خطوطه العامة إشعار الشّعب الجزائريّ بأنّ الوقت قد حان للشّروع في الكفاح من أجل التّحرير الوطنيّ، علمًـا بأنّ الشّعب الجزائريّ كان مهيأ نفسيا، ومترقبا لهذا الحدث الكبير بفارغ الصبر، (مثلما تبين فيما بعد) مما يؤكد مقولة القائد الكبير محمد العربي بن مهيدي الذي قال في اجتماع (22) قولته المأثورة "ارموا الثورة للشعب فإنه سيحتضنها"، وقد ساعد على ذلك أن الوضعيّة الخارجيّة الإقليمية والدولية كانت ملائمة مغاربيا وعربيا وإسلاميا وحتى دوليا...، خاصة وأنّ الكفاح التّحريريّ كان قد بدأ في المغرب وتونس قبل ذلك بعدة شهور!

وبهذا البيان أُخبِرَ الشّعب الجزائريّ بأنّ فريقًا من الشّبان المناضلين الواعين والمسؤولين والمؤيدين من العناصر النّزيهة والعاقدة العزم على خوض الكفاح المسلح، قد اعتبروا الوقت ملائمًا لإخراج الحركة الوطنيّة من المأزق الّذي كانت قد وصَلت إليه بسبب الخلافات الدّاخليّة، ولدفعها نحو الكفاح الثّوريّ بجانب الإخوة المغاربة والتّونسيّين، وقد شرح البيان بأنّ هذا الفريق من المناضلين الذين قرروا الشروع في الكفاح المسلح مستقلّ عن الكُتلتَين اللّتين كانتا تتصارعان على السّلطة، وأنّ عمل الفريق موجَّه ضدّ الاستعمار الّذي رفض منح الجزائريّين حرّيّتهم عندما طلبوا ذلك بوسائل سلميّة، لعقود قبل ذلك، وقد اصطدمت تلك المطالب كلها بصخرة التعنت والرفض المطلق من طرف المحتل،معلنين أنّ حركة التّجديد هذه اسمها "جبهة التّحرير الوطنيّ" الّتي تفتح الباب أمام كلّ الوطنيّين بدون استثناء أو تمييز لينضمّوا إلى صفوف الكفاح التّحريريّ الذي لم يبق للشعب الجزائري سبيلا آخر سواه!.

كانت إذاعة صوت العرب من القاهرة أول من بث بيان الثورة الجزائرية على أمواجها إلى العالم الخارجي في اليوم الموعود، وهو يتضَمّن في خطوطه العامة إشعار الشّعب الجزائريّ بأنّ الوقت قد حان للشّروع في الكفاح من أجل التّحرير الوطنيّ،
ويُعلن البيان أنّ الهدف من هذه الثّورة هو تحقيق "الاستقلال الوطنيّ بإعادة الدّولة الجزائريّة إلى الوجود"، كما يدعو الطّاقات السّليمة الجزائريّة لِلتّجمُّع والتَّنظُّم، ويبيّن أنّ الثّورة ستسعى إلى تدويل القضيّة الجزائريّة وإلى تحقيق الوحدة المغاربيّة، ويشير إلى أنّ الكفاح المسلح سيكون طويلاً، ولتحقيق النّصر يتعين على جميع الوطنيين المخلصين تجنيد كلّ الطّاقات البشرية والمادية لتحقيق هذا الهدف الوطني الأسمى، فاتحا الباب للمفاوضات مع السّلطات الفرنسيّة بغرض تجنّب الخسائر في الأرواح، مع التأكيد على أن هذه المفاوضات تكون مع الممثّلين الحقيقيّين للشّعب الجزائريّ الموحد، مؤكدا على احترام الأشخاص والممتلكات والمصالح الفرنسيّة (المُكتَسَبة بطريقة مشروعة)، وكذلك حقّ اختيار الجنسيّة بالنّسبة إلى فرنسيّي الجزائر، وتحديد العلاقات المستقبليّة بين الجزائر وفرنسا على أساس المساواة والاحترام المتبادَل، وهو ما تحقق حرفيا بعد سبع سنوات ونصف من الجهاد المتواصل الذي لم يعرف له في التاريخ المعاصر نظيرا حتى الآن، وفيما يلي نص البيان الكامل:

تعليق وتحليل وربط واستنتاج

إن البيان يحدد الأهداف المسطرة للثورة الجزائرية، بلغة واضحة لا يشوبها أي إبهام،  ولا تقبل أي تأويل أو تضليل حيث يقول بأن الهدف من قيامها هو تحقيق الاستقلال الوطني بواسطة:

1 ـ إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية (غير الشيوعية وغير اللائكية).

2 ـ تحقيق وحدة شمال إفريقيا في إطارها الطبيعي العربي الإسلامي"، ونلاحظ هنا الإعلان الصريح عن الانتماء الطبيعي والهوية الوطنية ذات الأصل الثقافي والبعد الجغرافي والطبيعي (العربي الإسلامي)، وليس الإفريقي أو المتوسطي أو حتى النوميدي، فضلا عن الروماني أو اللاتيني أو "الفرنكوفوني".

3 ـ احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني»، ونلاحظ بجلاء هنا عدم وجود كلمة "لغوي" في البند، وهو ما يعني صراحة أن البيان النوفمبري الوحدوي والسيادي يقر حرية الاعتقاد وتعدد الأديان داخل المجتمع، كما هو شأن كل البلاد الإسلامية في العالم، وكما يقره الإسلام ذاته حيث يقرّ مبدأ }لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{ [سورة البقرة، الآية 652] في نص القرآن الكريم، ولكن البيان يرفض التعدد اللغوي الرسمي، لأنه هو الفيصل القاطع في السيادة، وإن التلاعب فيه أو التلاعب به يؤدي حتما إلى ما لا يقبل التعدد على الإطلاق ألا وهو الهوية، لأن الإنسان الجزائري أو أي مواطن عربي في أي قطر من المحيط إلى الخليج لا يمكن أن يكون عربيا وغير عربي في الوقت ذاته! أو يكون عربيا مسلما في نوفمبر تحت الاحتلال، ويصبح فرنسيا لائكيا أو "فرنسيا جزائريا" بعد أن كان «مسلما فرنسيا» على الورق قبل ذلك لأكثر مائة وثلاثين سنة!!

4 ـ وتفاديا لاحتمالات المستقبل الذي قد يخبئه للدولة المستقلة التي نعيش تحت رايتها اليوم في العيد الخمسين لوقف إطلاق النار والحرب والدمار، يطالب البيان بحس وطني منقطع النظير، وكأنه استشرف ما يدور في أيامنا هذه من محاولة التلاعب بأسس الكيان والهوية والانتماء لغير الأمة المحمدية (دينا ولسانا)... فيقول محررو البيان في أحد بنوده، مطالبين فرنسا بـ: "الاعتراف بالجنسية الجزائرية بطريقة علنية ورسمية ملغية بذلك كل القرارات والقوانين التي تجعل من الجزائر أرضًا فرنسية التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعادات للشعب الجزائري".

ونعتقد أن هذا الرفض القاطع للجنسية الفرنسية وهويتها اللغوية والدينية والثقافية، من أصحاب البيان، والذي يصرّح فيه الثوار بأن للجزائر هوية وشخصية متميزة تتكامل فيها كل المقومات التاريخية والجغرافية واللغوية والدينية والثقافية التي تجعلها غير فرنسية، وتمد بالتالي أبناءها المجاهدين وقادتها السياسيين بمشروعية المطالبة بالاستقلال التام  عن فرنسا، وإفحام ساستها بالحجج الدامغة في المحافل الدولية طوال كل سنوات الكفاح. وإذا لم تكن لغة الشعب الجزائري هي الفرنسية، كما ينص البيان، ولم يكن دين الشعب الجزائري هو المسيحية كما ينص البيان أيضا، فما هو بديل هذه اللغة وبديل هذا الدين غير العربية والإسلام المؤكدين في البندين (1 و2 المذكورين آنفا).

وإذا قال بعضهم بأن اللغة المقصودة في البيان ليست العربية فإننا نحيلهم على نص نشيد "فداء الجزائر" لحزب الشعب الجزائري، الذي ينتمي إليه كل مفجري ثورة نوفمبر المجيدة والقائل في أحد مقاطعه: "فلتحي الجزائر مثل الهلال، ولتحي فيها العربية" ويجسده شعاره الخالد المطبوع على بطاقات انخراط المناضلين في كافة أنحاء الوطن، وهو "الجزائر وطننا، الإسلام ديننا، العربية لغتنا".

وهو الشعار ذاته الذي كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قد وضعته عند تأسيسها سنة 1931م، مع اختلاف بسيط في ترتيب الثوابت الوطنية، دون زيادة أو نقصان، عما هو مثبت في البيان المحرر بعد ذلك بعقود، وهو ما يثبت وحدة الهدف لكل الوطنيين مع اختلاف الوسائل والبدائل حسب الإمكانيات والمراحل!

ويتبين من روح البيان النوفمبري أن الجزائر وإن انهزمت عسكريا بعد وقوعها تحت الاحتلال سنة 1830 فإنها لم ترضخ أبدا، ولم تستسلم قط لإرادة المحتل، ولم تتخل عن روحها الوطنية الأصيلة، ولم ترض بالاندماج في الكيان الأجنبي الدخيل، وطوال 132 عاما، لم تعرف المقاومة الشعبية معنى الراحة، وقد سارت هذه المقاومة في خطين متوازيين دون هوادة أو انقطاع.

أولا ـ المقاومة المسلحة:

ومن مميزات هذه المقاومة أنها كانت متعددة ومتزامنة ومنتشرة في العديد من جهات الوطن، بحيث لم تكن تخمد نار واحدة منها هنا حتى تشتعل نار أخرى هناك بنفس الروح الجهادية ونفس المنطلق والغاية والوسيلة، إلى إعلان قيام الثورة المباركة، وطوال سبع سنوات ونصف من عمرها بذل قادة الاحتلال كل شيء للحفاظ على "الجزائر الفرنسية"، ومع ذلك لم يفلحوا واضطر كبيرهم (الذي فعل المستحيل من أجل إخماد ثورة الجهاد) إلى الاعتراف بالأمر الواقع، والتوقيع الرسمي على أوراق الاستقلال يوم 03/07/1962.

ونذكر من هذه المقاومات الجهادية المسلحة حسب تسلسلها الزمني:

جهاد أحمد باي في شرق الوطن ( 1830 - 1848 )، الأمير عبد القادر في غرب الوطن ووسطه (1832 - 1847)، سي قدّور التّيتراويّ في الوسط (1840 - 1855)، محمد بن عبد الله (المدعو بومعزة) (1845 - 1847)، ومحمّد الهاشميّ (1847 - 1849)، والزّعاطشة سنة (1849)، الشّريف محمّد بن عبد الله (1851 – 1871)، الحاجّ عمر (1851 - 1857)، الشّريف بوبغلة (1851 - 1854)، وبن ناصر بن شُهرة (1851 - 1884)، لالاّ فاطمة نسومر (1854 – 1863)، الصّادق بن الحاجّ (1858 - 1859)، محمّد بوخَنتاش سنة (1860)، بوشوشة (1863 - 1875)، أولاد سيدي الشّيخ (1864 - 1881)، محمد المقرانيّ والشّيخ الحدّاد سنة (1871)، بني مناصر سنة (1871)، سكان العامري سنة (1876)، سكّان الأوراس سنة (1879)،  جهاد سكّان الصحراء (1880 - 1904)، الشّيخ بوعمامة (1881 – 1907)، سكّان عين التّرك (Marguerite) سنة (1901)، بني شـُقران سنة (1914)، سكّان "الحُضنة" و"الأوراس" (1916 - 1917)، سُكّان قسنطينة سنة (1934)، وآخر هذه الانتفاضات والمقاومات ذات الروح الجهادية المسلحة التي لم تخب شعلتها ولم تفتر عزيمتها أبدا هو تمرُّد الجنود الجزائريّين في ثكنة الحرّاش سنة 1941.

هذا ما يتعلق بالجانب الجهادي المسلح الذي تواصل خلفا عن سلف من أحمد باي والأمير عبد القادر إلى أبطال تمرد الحراش الذين كانوا كلهم نواة "الله أكبر" في الفاتح من نوفمبر كما هو معلوم وكما سيأتي ذكره في مكانه من فصول هذا التاريخ الذي نعيد تقليبه.

ثانيا ـ المقاومة الثقافية والسياسية

أما عن الخط المتوازي الثاني المتمثل في الجهاد السياسي والثقافي فإنه كان مقاومة للسياسة الاستعمارية الاستيطانية والاستئصالية لمقومات الشخصية الوطنية، في إطار الإبادة الثقافية للإسلام واللغة العربية لإزالتها من الوجود بكل الوسائل القمعية، لأنهما ظلا يمثلان أكبر حصانة للشخصية الوطنية وأكبر عائق للحيلولة دون فرنسة الشعب الجزائري وتنصيره وإدماجه بكل الوسائل في بوتقة الأمة الفرنسية، لجعل الجزائر المسلمة العربية، أندلسًا ثانية ضمن "التراب الوطني" للدولة الفرنسية، وهي السياسة التي لو نجحت مساعيها في إطار كل تلك العمليات الاستئصالية والتذويبية الشنيعة لما وجدت الجزائر المجاهدة ولما وجد فيها بالتالي من ينادي حي على الجهاد و"الله أكبر" في ليلة أول نوفمبر، كما هو واضح بالصوت والصورة الحية الناطقة التي يرويها لنا كل الشهود الأحياء.



ولم نجد أصدق وصف لتلك السياسة الاستئصالية الشنيعة المفروضة على الشعب الجزائري مما قاله الصحفي المصري محمد فريد رئيس تحرير جريدة "اللواء" المصرية بعد عودته من رحلته الاستطلاعية إلى الجزائر سنة 1901، حيث كتب في تقريره قائلا: "إن الأهالي هناك يعاملون بقوانين مخصوصة غاية في الشدة والصرامة فهم محرومون من حرية الكتابة وحرية الاجتماع وحرية السفر، وحرية مطالعة الكتب والجرائد العربية.. فلا يجوز لهم أن يؤلفوا جمعية ولو لفتح المدارس، ونشر التعليم الحر.. وقد منعت عنهم الجرائد العربية، فلم أجد في جميع مدن الجزائر نسخا من (اللواء) ولا (المؤيد) ولا تصل هذه الجرائد إلا لإدارة (المبشر) الحكومية مبادلة، وهناك تحفظ في حرز مكين حتى لا تخرج بعض أعدادها من الإدارة فتصل أخبار الإسلام والمسلمين إلى إخوانهم الجزائريين".

هذا عن اللغة العربية وثقافتها الأصيلة... أما عن الشق الثاني الهام من مقومات هذه الهوية التي استعصت على التذويب، فهو بدون منازع دين هذا الشعب "الإسلام" الذي ارتضاه له أسلافه منذ أن عرفوه واعتنقوه ونشروه، ولذلك كان تعامل المحتل مع هذا الركن العتيد من أركان الهوية الوطنية بطريقة خبيثة ومختلفة في الالتواء.. ومنها مثلا إلغاء مصادر "الأوقاف" وتحويل أهم المساجد الجامعة التي كانت مشيدة في العواصم الكبرى إلى كنائس، وفي مقدمة تلك المعالم الشامخة مسجد "كتشاوة" الشهير في قلب العاصمة، الذي حدث أن أتى في يوم مشهود "الحاكم الفرنسي للجزائر المحتلة" إلى هذا المسجد يوم جمعة، وطلب من إمامه أن يخبر المصلين بأنه منذ ذلك التاريخ لن يعبد فيه إله غير المسيح!! وأعلن المسجد كاتدرائية لمدينة الجزائر!

والذي يهمنا هنا هو أن هذا الإمام المجاهد القدوة قد اعتلى منبره لآخر مرة في حياته، ليقول كلمة ظلت هي المفتاح الذهبي لاسترجاع الاستقلال الوطني الحقيقي، مهما طال الزمن الظلامي الذي نعرفه... وهو ما يتضمنه الهدف الأول من الثورة الجهادية المباركة كما سبق تفصيله آنفا، وهو "تحقيق الدولة الوطنية الديمقراطية في إطار المبادئ الإسلامية".

فلقد قال هذا المجاهد فيما قال للمصلين في ذلك اليوم المشهود: "أيها الإخوة المؤمنون... ولئن تغيرت عبادة اللّه في مساجدنا فإن اللّه لن يتغير في قلوبنا..".

وكما لم يتغير الله في قلوب أفراد الشعب الجزائري فقد طالب في بيانه الخالد، بالاستقلال عن فرنسا ودفع ثمنا غاليا من أجله، وفَرَض استقلال الجنسية أو تحريرها من قبضة الاحتلال الحديدية، فذلك لأنه بقي محافظا على الإيمان بالله في قلبه متمسكا بجوهر التميز الثقافي "أو الشخصاني" عن فرنسا عقيدة ولسانا كما هو واضح من البند الأخير المذكور من البيان.

وإن الفضل الأكبر في ذلك كله يعود إلى كفاح وحنكة المجاهد الوطني في الجبهة الثقافية والهوياتية، وفي مقدمة أبطال هذه الجبهة دون منازع رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بصفة خاصة الذين كانوا يتفقون مع الأحزاب الوطنية الأخرى في الاستراتيجية (كحزب الشعب مثلا) ويختلفون معها في التكتيك للوصول إلى الأهداف المنشودة المتمثلة في المحافظة على مقومات الهوية الوطنية، كما عبرت عنها الفقرة المذكورة آنفا من البيان لاسترجاع أوراق الجنسية اعتقادا منهم بأن الجنسية إذا ضاعت قد تسترجعها الهوية، ولكن الهوية إذا ضاعت فتضيع معها الجنسية حتما وإلى الأبد، مثلما وقع لأهل الأندلس كما أشار إلى ذلك الإمام عبد الحميد بن باديس ذاته في عدة مناسبات، والذي لخص منهاج عمله وحدد أهدافه في شعاره الخالد "الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا" وفصّل هذا الشعار في قصيدته الشهيرة "شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب". وتبنى هذا الشعار ذاته أيضا حزب الشعب الجزائري العربي المسلم سنة 1936 وضمّنها في نشيده الخالد المذكور "فداء الجزائر" السابق ذكره آنفا، وهو من تأليف شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا الذي يقول في مطلعه:

ألا في سبيـــل الحريــــة          فليحي حزب الشعب الغالي
ويحيــا شمـال إفريقيـــة          وتحيا الجزائر مثل الهــــلال
وتحيـى فيهـــا العربيـــة

وكما هو واضح فإن كل مقومات الهوية الوطنية تتمثل في هذين البيتين.
التعليقات (0)