قضايا وآراء

خسائر النظام العربي ما بعد الطوفان

طارق الزمر
إكس
إكس
‏تتعرض منطقتنا العربية لعملية فرز تاريخية، أظنها أهم عمليات الفرز التي تعرضت لها على مدى قرن؛ وذلك لأنها هذه المرة تكشف عن حقائق اجتماعية وسياسية وفكرية في غاية الأهمية، حيث تكشف عن خسائر هائلة للنظام العربي ولا سيما تجاه شعوبه وتجاه ذاته، وهي لا تقل بحال عن خسائر إسرائيل وأمريكا، اللتين تعدان أهم وأكبر الخاسرين من معركة "طوفان الأقصى" وتوابعها، وذلك للاتي:

أولا؛ لأن النظام العربي تماهى بشكل سافر مع الموقف الأمريكي واقترب إلى حد التطابق مع العدوان الإسرائيلي، وذلك في كثير من المواقف وبالأخص في التخريجات السياسية، كما وقف حيث أرادت له أمريكا وإسرائيل ولم يتجاوز ذلك شبرا ولو بالكلام!! بل لم يبالغ من فسّر سلوك وتصريحات بعض الرؤساء التي توحي بالتضامن الإنساني مع أهل غزة بأنها في إطار المسموح أو الاتفاق. ومن سوء حظ النظام العربي، أن كل الخيارات التي تطرحها الحرب على غزة تصب في صالح المزيد من تهافت مواقفه والمزيد من تهميشه، ومن ثم استقبال موجة جديدة من السخط والرفض الشعبي.

النظام العربي قد حاصر شعوبه ووقف أمام رغبتها في إبداء مشاعر التضامن مع غزة، متصورا أنه بذلك يكبتها بينما هو في الحقيقة قد أجج غضبها وأشعل نيران سخطها في أكثر من اتجاه؛ كان أهمها وأخطرها أن ترى الشعوب حكوماتها والعدو في خندق واحد برغم كل الرتوش.

ثانيا؛ لأن غزة التي انتفضت اليوم في وجه العدوان، هي غزة التي يحاصرها النظام العربي، وخاصة السلطات المصرية منذ ١٧ عاما، وذلك عبر إغلاق "معبر رفح" برغم أنه حصار غير قانوني، بل هو جريمة دولية وفق قواعد القانون الدولي الإنساني، ولم يخرج عن النظام العربي ويكسر الحصار سوى الخارجية القطرية، التي وقفت موفدتها وحيدة في قلب غزة بكل شجاعة تحيي صمود أهلها وتعتذر لهم عن الخذلان غير المحدود.

ثالثا؛ لأن النظام العربي قد حاصر شعوبه ووقف أمام رغبتها في إبداء مشاعر التضامن مع غزة، متصورا أنه بذلك يكبتها بينما هو في الحقيقة قد أجج غضبها وأشعل نيران سخطها في أكثر من اتجاه؛ كان أهمها وأخطرها أن ترى الشعوب حكوماتها والعدو في خندق واحد برغم كل الرتوش، بينما كان يمكن لذات الحكومات أن تغسل كل خطاياها عند أعتاب الدفاع عن الأقصى والقدس وفلسطين، بالتضامن الحقيقي مع غزة أو مع المنتفضين لها.

رابعا؛ لأن الشعوب العربية قد استحضرت كل معاني كرامتها المهدورة في بلادها، على ضوء "طوفان الأقصى" التي استعادت الكرامة الإنسانية وهي تقف في وجه الاحتلال العنصري الاستيطاني، وأيقظت ضمير العالم وهي تنتصر على الوحشية بالصمود الأسطوري، وذلك بعد أن طمس النظام العربي كل ملامح الكرامة العربية بالتطبيع مع المحتل تارة، وبالسعي وراء مراضاته بمبادرات عربية لم يركلها بغير قدميه تارات، ثم بالجلوس في مدرجات المشاهدين، بينما نتنياهو وعصابته المتطرفة يغوصون حتى آذانهم في دماء أطفال غزة ونسائها!

خامسا، استرجع الشارع العربي كيف أضاع النظام العربي فرصة "الربيع العربي"، التي كانت بمنزلة الفرصة الأخيرة لإصلاح أوضاعه السياسية وإنقاذه من نفسه، وفق حراك شعبي وتطور سياسي سلمي، ومن ثم إعادة تموضع العالم العربي على خريطة العالم، وكيف أنه في سبيل وأد إرادة شعوبه، أراق كثيرا من الدماء، سابقا في ذلك "نتنياهو" في استحضار مشاهد مئات الجثث وشلالات الدماء على مذبح الحرية والكرامة الإنسانية.

سادسا، ثم إذا كانت قضية ستة آلاف فلسطيني على رأس أولويات "طوفان الأقصى"، فإن سجون العالم العربي لا تزال مكدسة بعشرات الآلاف من الشباب والرموز العربية الذين لم يطالبوا بغير الحرية والكرامة الإنسانية، وقد أصبحت صورهم اليوم حاضرة مع كل أسير فلسطيني يتم إطلاقه، وهو يروي تعرضه لذات المخازي التي يتعرض لها المعتقلون في سجون العرب!

إذا كانت قضية ستة آلاف فلسطيني على رأس أولويات "طوفان الأقصى"، فإن سجون العالم العربي لا تزال مكدسة بعشرات الآلاف من الشباب والرموز العربية الذين لم يطالبوا بغير الحرية والكرامة الإنسانية، وقد أصبحت صورهم اليوم حاضرة مع كل أسير فلسطيني يتم إطلاقه، وهو يروي تعرضه لذات المخازي التي يتعرض لها المعتقلون في سجون العرب!

سابعا؛ لأن إجراء عملية مسح سريعة للثقافة السياسية التي ينطلق منها ويتذرع بها النظام العربي يضعها في مكان بعيد تماما عن المكان الذي تعيش فيه الشعوب العربية والأحلام والطموحات التي يرنو إليها الشباب العربي، والتي كشفت عنها "طوفان الأقصى"، فكلاهما يعيش في عالم مختلف عن الآخر، وأصبح من العسير أن يلتقيا.

ففي الوقت الذي ترى الشعوب العربية أن أهم مصدر للشرعية السياسية، أصبح مرتبطا بمدى القدرة على تحدي المشروع الصهيوني والانتصار لفلسطين، فإن الفشل المطلق للنظام العربي كان في هذا المجال، بل وراح بعضه يبحث عن شرعية في كنف الكيان الصهيوني، وبعضه الآخر لم يجد ما يستظل به سوى حمايته!

ثامنا، لم يدرك النظام العربي مدى الإهانة التي وجهها لشعوبه حين ترى وتسمع كل يوم عن مظاهرات تخرج في أقاصي العالم وبلاد الدنيا كلها -متأثرة بالصورة المتداولة عالميا للعدوان على غزة- تطالب بالحرية لفلسطين، بينما يتم قمعها وتُمنع عن مجرد التعاطف، فضلا عمن أمعن منهم في الإهانة وهو يخطط لبعض المظاهرات ليس للتضامن مع غزة، بقدر ما هي للتضامن مع رأس النظام مرشحا لرئاسة جديدة.

تاسعا، في الوقت الذي انتفضت حكومات إسلامية وأفريقية ولاتينية بل وأوربية، لتعبر عن غضبها لاستمرار المجازر في غزة وتدمير المدن فوق رؤوس ساكنيها بما يفوق التدمير الذي شهدته الحرب العالمية الثانية، وقام بعضها بسحب السفراء وقطع العلاقات، وقام البعض الآخر بتقديم الشكاوى للمحكمة الجنائية الدولية، أو بطلب وقف العدوان فورا مشفوعا بالتهديد بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، فإن النظام العربي بدوله الكبرى لا يزال يقف عند مرحلة المناشدة أو الشجب والاستنكار اللفظي التي لم يغادرها منذ عقود، حتى إن بعض قراراته المتعلقة بتقديم العون الإنساني راحت أدراج الرياح ولم يستطع أن يقدم منها شيئا، والنزر اليسير الذي يدخل اليوم عبر معبر رفح، إنما يدخل بإرادة المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني، الذي أجبر العدو على صفقة لتبادل الأسرى تضمنت دخول المساعدات.

عاشرا، لا شك أن حالة الصمود والإلهام السياسي التي صدرها الشعب الغزي والمقاومة للعالم، ستجد مكانها الأفضل في التربة العربية، فهي أكثر من يستقبلها وأفضل من يتفهمها، لهذا فإن الشعوب العربية ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر لن تكون هي الشعوب التي كانت قبلها، ومن ثم فإن أزمة الاحتقان السياسي التي خلفها قمع الربيع العربي، ستتضاعف مع السخط المكتوم الذي خلفته الحرب على غزة.

وضعية النظام العربي ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر لن يكون كما قبله بحال، وهو ما لم يدركه ولا يسعى لتداركه حتى الآن، ‏برغم أن تداعيات "طوفان الأقصى" كما هو واضح سيكون له القول الفصل في رسم خرائط المستقبل السياسية والاجتماعية، بل والاستراتيجية.

حادي عاشر، الهزيمة السياسية والثقافية والأخلاقية التي تعرضت لها أمريكا والغرب في معركة "طوفان الأقصى"، ستنعكس سلبا على حلفائهما ولا سيما في منطقتنا، وإن توهم بعضهم أنه سيظفر بتغاضي أمريكا عن انتهاكاته لحقوق مواطنيه، برغم أنها لم تكن يوما جادة في ذلك.

ثاني عشر، لا شك أن السلوك السلبي لحكومات المنطقة تجاه عمليات الإبادة الجماعية واحتمالات التهجير القسري، التي استمرت مع انعقاد قمتهم متحدية ما قد يصدر عنها، هذا السلوك لن يضر فحسب موقف هذه الحكومات أمام شعوبها، وإنما سيضعها أيضا في موقف حرج أمام دول العالم وعلى رأسها إسرائيل وأمريكا وأوروبا، فمن قبل السكوت على كل ذلك يمكنه أن يتقبل بعدها كل شيء!!

لهذا كله، فإن وضعية النظام العربي ما بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر لن يكون كما قبله بحال، وهو ما لم يدركه ولا يسعى لتداركه حتى الآن، ‏برغم أن تداعيات "طوفان الأقصى" كما هو واضح سيكون له القول الفصل في رسم خرائط المستقبل السياسية والاجتماعية، بل والاستراتيجية.
التعليقات (0)