قضايا وآراء

هل تنقذنا العواطف العربية من العواصف العالمية؟

أحمد القديدي
كأن قضية تحرير أرض ومقدسات فلسطين انحسرت وتقزمت لتصبح ملف إنقاذ ملايين الغزاويين من الإبادة في مربع رفح- الأناضول
كأن قضية تحرير أرض ومقدسات فلسطين انحسرت وتقزمت لتصبح ملف إنقاذ ملايين الغزاويين من الإبادة في مربع رفح- الأناضول
أمام فداحة الإبادة الجماعية لشعب من شعوبنا العربية منذ 7 أكتوبر إلى اليوم ونحن كأمة لديها كل مقومات القوة لا نزال في أغلب الأحيان نتعامل مع هذه الأحداث المأساوية الدموية بعواطفنا لا بعقولنا لأن العواطف حين تجنح بنا كأنما تريحنا من تعب الحركة ومن وجع التفكير!

وكم مرة في مسيرة الحياة الطويلة سمعت الزملاء الأجانب من حولي في الندوات والمؤتمرات يتحدثون عن العرب كظاهرة عاطفية (لم يعرفوا بعد عبارة ظاهرة صوتية!) وهي عنوان كتاب شهير لحكيم العرب رحمه الله عبد الله القصيمي.. ويدعي بعض الزملاء الغربيين أن العواطف العربية كانت سببا مباشرا في تعاقب نكساتنا واستمرار تبعيتنا.. فأعجب لتقييمهم للعرب لأني أدركت منذ الطفولة وبفضل التعليم الزيتوني الأصيل الذي تلقاه جيلي بأن العرب أمة العلم إلى جانب كونها أمة ديوانها الشعر (الشعر ديوان العرب)، وأنها الأمة الوحيدة في العالم التي أنشأت علما يسمى علم الكلام ونعتت أصحابه بالمتكلمين!

وتعرفون (إن من البيان لسحرا) و(رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) ودرسنا أن هذه الأمة جمعت بين التقدم العلمي والثراء الروحي…

ويكفي أن نشير إلى أن 38000 مصطلحا علميا وتكنولوجيا متداولا باللغات المختلفة هي من أصول عربية أولها مصطلح (الصفر) وعبارة الجبر وأكبرها مصطلح (اللوغاريتم) وهو علم الجبر والكسور إلى آخر العلماء العرب والمسلمين المعروفين لكنهم يعملون اليوم في جامعات أميركية وأوروبية ويابانية لأسباب لا تغيب عنكم!

وتعلمنا أيضا أنه بالتوازي مع ريادتنا العلمية فنحن أمة أنزل إليها القرآن (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) تلك كانت رسالة الأمة لكن الاستخراب (المسمى خطأ بالاستعمار) نجح في التلاعب بجيناتنا فحوّرها لدى قلة من النخبة الهشة المنسلخة حتى تكون طيعة للتغريب وتشعر بأنها هُزمت حضاريا وأن عليها أن تندمج في الحضارة الغالبة لغة وثقافة وتقاليد ولباسا وأعيادا وحتى دينا! بجهود مراكز التنصير الممولة من الفاتيكان والاستعمار العنصري.

وها نحن أمام عواصف دولية عاتية تتصارع على أرضنا القوى العظمى بل وتتحالف لخدمة مصالحها وتحقيق أهدافها (كما وقع في قصف غزة الإجرامي التحقت الجيوش الغربية لنجدة الحليف الإسرائيلي في حاملة الطائرات الفرنسية شارل ديغول والأمريكية ليندن جونسون والمقاتلات البريطانية).. وتعقدت لعبة الأمم الكبرى في مشرقنا الإسلامي إلى درجة أتحدى فيها أيا كان من الزملاء العرب أن يشرح لي من هو العدو ومن هو الصديق؟ ومن هو الغازي ومن هو الفاتح؟ ومن يساعدنا ومن يساعد علينا؟ أتحدى النخبة العربية التي أسمعها في الفضائيات ومحطات الإذاعة ووسائل الاتصال الاجتماعي أن توضح لي بالخريطة الجغرافية كيف ولمصلحة من تتحرك الحدود وتتحور التحالفات وتتغير الثوابت وما هو دورنا ونحن في عين الإعصار نبصر وليست لنا بصيرة ونصبر على ما يصنعون بنا صبر العاجز لا صبر المؤمن!

أضعف الإيمان العربي اليوم هو أن نعيد سلطان العقل على عرشه ليتقاسم التحكيم مع العاطفة وهو ما يعني ميدانيا تدشين عهد التخطيط للمستقبل والتنسيق بين الحكام العرب في كنف دينهم والإتحاد من أجل بلوغ وحدة المسلمين وهي ما يخشاه الأعداء العنصريون والصليبيون والمحتلون!
فلنتأمل اليوم سنة 2024 حال عواطفنا العربية التي انتقلت تدريجيا من الانتماء للإسلام إلى التعلق بالقومية ثم تقلصت إلى الانتساب للوطن بفضل الكفاح التحريري، لكن الولاء أصبح للطائفة والقبيلة والعرق وغفلنا عن أننا كلنا أمة محمد وشعارنا (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ولا تقولوا لي كما لقنتنا النخب المنسلخة عن أمتها بأن معضلتنا العربية هي نتيجة مؤامرات غربية مسيحية صهيونية صليبية ماسونية مخابراتية مما يعفينا من تحمل مسؤولية وأمانة حاضرنا ومستقبلنا ونعتبر أمتنا ضحية مؤامرات! وهو المنطق السقيم الذي نتج عنه تفرقنا شيعا وتجرأت علينا الأمم الكبرى تتقاسم من جديد (تركة الرجل المريض) نفس الرجل المريض المحتضر الذي تقاسمت فرنسا وبريطانيا تركته بمعاهدة سايكس بيكو سنة 1916 منذ أكثر من قرن في عملية تشبه إعادة بث حلقات المسلسل المأساوي على شاشات حياتنا ومصيرنا.

لا بل إن مأساتنا أننا شعوب عاطفتها جياشة وعقلها معطل. فانظر حولك لترى العراق ثلاث عراقات وسوريا ثلاث سوريات واليمن ثلاث يمنات وليبيا خمس ليبيات وفلسطين فلسطينان و السودان ثلاث سوادين على الأقل مع النفخ في الطائفية و العرقية باستمرار في كل من الدول المغاربية والمشارقية بسبب تواجد الأمازيغ هنا والأكراد هناك فتتحرك دوامة حروب أهلية إقليمية وربما غدا عالمية انطلاقا مما أصبح يسمى بؤر التوتر والأزمات وأغلبنا مع الأسف لا يزال يجادل في قضايا هامشية مؤقتة من نوع (كيف نقنع الإدارة الأمريكية بأن همجية ناتنياهو تؤثر في الانتخابات الرئاسية القادمة للولايات المتحدة؟)

كأن قضية تحرير أرض ومقدسات فلسطين انحسرت وتقزمت لتصبح (ملف إنقاذ ملايين الغزاويين من الإبادة في مربع رفح وهو الملجأ الأخير)! فهل من يقظة بعد سبات عميق؟ وهل بلغت إلى أذاننا أصداء قرع طبول القارعة وما أدراك ما القارعة ونحن نعيش أخطر حرب أوروبية في أوكرانيا لن يكون فيها غالب ولا مغلوب مهما طالت ونعيش تحديا غربيا للصين العملاقة بحرمانها من تايوان وهذه المخاطر أكبر من أحجامنا وأبعد من أحلامنا.

أضعف الإيمان العربي اليوم هو أن نعيد سلطان العقل على عرشه ليتقاسم التحكيم مع العاطفة وهو ما يعني ميدانيا تدشين عهد التخطيط للمستقبل والتنسيق بين الحكام العرب في كنف دينهم والاتحاد من أجل بلوغ وحدة المسلمين وهي ما يخشاه الأعداء العنصريون والصليبيون والمحتلون!
التعليقات (0)